الذاكرة السياسية

الرؤية التفصيلية للهندسة الدستورية عند حزب العدالة والتنمية المغربي

رغم تشديد حزب العدالة والتنمية على المرجعية الإسلامية وعلى الهوية التاريخية للمغرب وعلى الملكية، فإنه ربط المحافظة عليها بالديمقراطية (الأناضول).
يوم 29 آذار (مارس) 2011 م قدم حزب العدالة والتنمية مذكرة تفصيلية حول الإصلاح الدستوري إلى اللجنة الملكية لمراجعة الدستور، وقد انطلق الحزب في بناء مقترحاته من الحاجة الماسة إلى "تمكين البلاد من دستور ديموقراطي، يستند على مرجعيتها الإسلامية ويؤهلها لكسب تحديات التنمية الصالحة والعدالة الشاملة، ويعزز إشعاعها الحضاري المرتكز على رصيدها التاريخي وتنوعها الثقافي".

إن مقولة "الدستور الديمقراطي المستند على المرجعية الإسلامية"، هي مقولة اجتهادية تختزل الروح التوفيقية بين قيمة الديمقراطية، وما ترمز إليه من آليات مؤسساتية لتنظيم علاقة الحاكمين بالمحكومين، والمرجعية الإسلامية وما تختزنه من مبادئ تأسيسية جامعة، وهو ما يعني أن حزب العدالة والتنمية عرف تحولات فكرية ملموسة، بالمعنى الذي يعني أن هناك محاولة واعية لوضع مفاهيم جديدة وتوليفات نظرية في المجالات الفكرية والسياسية، بما يجعلها تمثل جهدا لدمج المفاهيم الإسلامية مع مفاهيم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، وتأكيد تلازم الحقوق بالواجبات، عوض التركيز على الواجبات فقط، وتأكيد الدولة المدنية غير الدينية، مع الاحتفاظ للدين بدوره في المجال العام.

كما حاولت هذه الرؤية استثمار بعض المحطات من التاريخ المغربي لربط اقتراحاتها ببعض المطالب الإصلاحية للنخبة المغربية، كما تبلورت في بداية القرن العشرين، وهكذا نبهت المذكرة إلى أن نجاح المراجعة يتطلب الاستناد على "رصيد الخبرة التاريخية لتطور الدولة المغربية من جهة أولى، وعلى مدارسة عميقة للإشكالات الناجمة عن الممارسة، في ظل الإطار الدستوري الحالي من جهة ثانية، والتوجهات الكفيلة بتجاوزها من جهة ثالثة"، ولهذا الغرض شددت المذكرة على ضرورة "الانطلاق من قراءة سياسية وتاريخية صريحة مستوعبة لأسباب التعثر والإخفاق، تحدد الإطار الناظم والمستشرف لمستقبل التطور الديموقراطي" من جهة رابعة، باعتبار ذلك "مقدمة ضرورية لتقديم التصور التفصيلي للتعديلات المقترحة".

الرصيد التاريخي للدولة المغربية مدخل منهجي لتأكيد المرنكزات الأساسية للإصلاح:

تم استهلال المذكرة بديباجة طويلة للتذكير بالإطار التاريخي والسياسي للدولة المغربية؛ وذلك بغية ربط الإصلاح المزمع القيام به بالرصيد التاريخي للدولة المغربية: "لقد تشكلت الدولة المغربية القائمة منذ حوالي 12 قرنا على أساس ثلاثة مرتكزات، تكاملت وتفاعلت فيما بينها لتنتج مشروع الدولة الموحدة والمستقلة والمؤثرة في محيطها".

تمثلت هذه المرتكزات في:

ـ المرجعية الإسلامية الموحدة للمجتمع الضامنة لتماسك البنيان الاجتماعي.

ـ الملكية القائمة على المشروعية الدينية الجامعة لمكوناته، والضامنة للحريات والاستقلال والمضطلعة بوظائف التحكيم والعلاقة مع الخارج، وتعبئة القدرات لمواجهة تحديات المحيط.

ـ لامركزية واسعة تتيح التسيير الذاتي من قبل السكان لشؤونهم وقضاياهم بحرية واستقلالية في إطار المشروعية.

إن هذه المرتكزات تؤكد الحضور القوي للعامل الديني كأساس لضمان التماسك المجتمعي ووحدة الأمة، وكأساس لمشروعية الحكم الملكي، بالإضافة إلى مرتكز اللامركزية الذي يتيح للأفراد هامشا كبيرا من الحرية لتسيير شؤونهم المحلية، في إطار التسليم بمشروعية الدولة المركزية.

الدستور الديمقراطي المستند على المرجعية الإسلامية"، هي مقولة اجتهادية تختزل الروح التوفيقية بين قيمة الديمقراطية، وما ترمز إليه من آليات مؤسساتية لتنظيم علاقة الحاكمين بالمحكومين، والمرجعية الإسلامية وما تختزنه من مبادئ تأسيسية جامعة،
وتذكر الورقة بـ "النقاش الدستوري والسياسي الذي عاشه المغرب في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وما أفرزه من مشاريع دستورية ساهم العلماء بدور أساسي في بلورتها، إلا أن دخول الاستعمار أدى إلى إيقاف هذا المسار الذاتي، ودفع المغرب في مسار آخر"، والمقصود هنا تلك المحاولات الجادة التي قام بها علماء المغرب، ابتداء من سنة 1901 إلى 1908 من أجل وضع مشاريع دساتير لتنظيم العلاقة بين السلطان وممثلي الأمة: مشروع دستور عبد الله بنسعيد 1901، ومشروع دستور الحاج علي زنيبر السلوي سنة 1901، ومشروع دستور عبد الكريم مراد 1906، ومشروع دستور جماعة لسان المغرب سنة 1908.(يمكن الرجوع لكتابنا "الإسلام وتكوين الدولة العربية الحديثة دراسة للتجربة الدستورية المغربية"، الصادر عن مركز نماء للبحوث والدراسات، للوقوف عند مضامين هذه المشاريع ومحدداتها الفكرية والسياسية).

وتؤكد الورقة بأن "الاستعمار قام بإرساء نموذج دولة قائمة على التحكم والضبط، وهو ما أتاح له استغلال موارد البلاد وقمع كل مقاومة لوجوده، مما أدى إلى تفكيك تدريجي وواسع لبنيات الدولة التاريخية لفائدة دولة مركزية، وكان من الممكن أن يشكل خروج الاستعمار مدخلا لاستئناف مسلسل التطور الديموقراطي وتصحيح المسار، وذلك بإقامة دولة حديثة هدفها المركزي خدمة المواطن وليس التحكم فيه،" ثم تمضي المذكرة في تفسير الأسباب التي حالت دون نجاح مغرب الاستقلال في استكمال المسار الإصلاحي الذي دشنه العلماء والنخب الإصلاحية، وتربطه أساسا بـ"الصراع الحاد الذي نشأ حول المشروعية، أفضى إلى إعادة إنتاج دولة التحكم، التي رغم ما شهدته من مظاهر انفتاح توسعت في عقد التسعينيات، إلا أن جوهرها التحكمي بقي ثابتا، ولم تؤد المراجعات الدستورية المتتالية إلى تجاوزه".

ـ دستور ديمقراطي مستوعب للمرجعية الإسلامية:

تسلم الورقة بإمكانية الجمع بين اعتماد قواعد النظام الديموقراطي بالمعايير الدولية دون تجزيء أو تقسيط، والوفاء في نفس الوقت للمرجعية الإسلامية؛ باعتبارها مرتكزا أساسيا لضمان الوحدة الوطنية وتماسك البنيان المجتمعي، وقد حاولت أن تقدم جوابا إجرائيا على هذا التحدي، دون الخوض في النقاش النظري حول العديد من الإشكاليات، وذلك عن طريق اقتراح توجهات عامة تجمع بين تعزيز مكانة المرجعية الإسلامية في الدستور وترسيخ قواعد نظام سياسي أكثر ديموقراطية، وهكذا رسمت الورقة سبعة توجهات أساسية، "ينبغي للمراجعة الدستورية أن تعمل على تجاوزها لتجسيد نموذج الدستور الديموقراطي".

وتتمثل هذه التوجهات السبعة في:

1 ـ دستور يرتقي بمكانة المرجعية الإسلامية، ويعزز مقومات الهوية المغربية.
2 ـ ملكية ديمقراطية قائمة على إمارة المؤمنين.
3 ـ تقدم رائد في صيانة الحريات العامة وحقوق الإنسان.
4 ـ ديمقراطية قائمة على فصل السلط وضمان التوازن بينها: برلمان ذو مصداقية بصلاحيات واسعة وحكومة منتخبة ومسؤولة.
5 ـ الارتقاء بالقضاء وإقرار استقلاله.
6 ـ جهوية متقدمة بضمانات دستورية واسعة.
7 ـ الحكامة الجيدة الضامنة للتنافسية والمنتجة للفعالية في تدبير الشأن الاقتصادي.

وهكذا نلاحظ بأن الهدف هو: دستور ديمقراطي مستوعب لفكرة تعزيز المرجعية الإسلامية للدولة، والمحافظة على أدوارها المتمثلة في المحافظة على تماسك الهوية المغربية المتعددة الروافد، في ظل مجتمع أصيل يتطلع إلى دولة مدنية حديثة وحرة ذات سيادة تعتز بمرجعيتها الاسلامية، وتضمن له الانفتاح على العصر، وتؤكد أن المراجعة الدستورية ملزمة بتجسيد هذا الاختيار، من خلال ضمانات دستورية تتمثل في أمرين هما: عدم مخالفة التشريعات لأحكام الدين الإسلامي وحماية حرية ممارسة الشعائر الدينية.

وهو ما يعني أن فكرة الدستور الديمقراطي لا تلغي سمو المرجعية الإسلامية وضمان عدم مخالفة التشريعات لأحكام الدين الإسلامي، وكنموذج على ذلك تخوض الورقة في توضيح تصورها لمبدأ المساواة بين المرأة والرجل، وذلك عبر المطالبة بـ "تعزيز المساواة بين المرأة والرجل في الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية والمدنية كافة، بما لا يخالف أحكام الدين الإسلامي، وتيسير مشاركة المرأة في الحياة العامة والسياسية بما يراعي مسؤولياتها الأسرية.

كما نلاحظ هنا مدى حرص حزب العدالة والتنمية على مفهوم إمارة المؤمنين، وجعل "الملكية الديموقراطية" قائما عليها، وهي محاولة للتوفيق بين مفهوم تقليدي تاريخي، هو مفهوم إمارة المؤمنين ومفهوم حديث ومعاصر هو مفهوم الملكية الديموقراطية.

وهي محاولة توفيقية نابعة من الوعي بأهمية الحفاظ على الدور الديني الذي تقوم به المؤسسة الملكية من خلال إمارة المؤمنين، مع تهذيب سلطتها المطلقة عبر تطوير الهندسة الدستورية، لتتلاءم مع مقتضيات "الملكية الديموقراطية".

ـ إعادة الهندسة الدستورية للسلطة في أفق الملكية الديمقراطية (الملكية الدستورية الثانية):

إن فلسفة حزب العدالة والتنمية في الإصلاح الدستوري والسياسي، تقوم أساسا على ضرورة تجنب الصراع حول المشروعية بين الأطراف الأساسية في البلاد، والتركيز على التوافق كمنهجية ضرورية لاعتماد إصلاح ديمقراطي عميق، "يضع المغرب على أبواب الملكية المغربية الدستورية الثانية بعد الاستقلال"، و"نقل الدولة المغربية من دولة التحكم إلى دولة التشارك في القرار بين مجموع مكوناتها خدمة للصالح العام".

ورغم تشديد الحزب على المرجعية الإسلامية وعلى الهوية التاريخية للمغرب، وعلى الملكية؛ فإنه ربط المحافظة عليها بالديمقراطية؛ "إن مستقبل المغرب هوية ووحدة واستقرارا هو في الديموقراطية، ومستقبل الملكية المغربية هو في الديموقراطية"، و"كسب هذا الرهان يمر حتما عبر الأخذ بقواعد النظام الديموقراطي بالمعايير الدولية المتعارف عليها دون تجزيء أو تقسيط، وذلك بإنتاج نموذج ديمقراطي مغربي أصيل لا يخل بالمعايير الدولية، ولا يكتفي باستنساخ نماذج أخرى ويحقق الديمقراطية والشفافية والمحاسبة".

فكرة الدستور الديمقراطي لا تلغي سمو المرجعية الإسلامية وضمان عدم مخالفة التشريعات لأحكام الدين الإسلامي.
وهكذا تطالب الورقة بإعادة التوزيع الديمقراطي للصلاحيات عن طريق ربط المقومات السيادية للدولة بصلاحيات المؤسسة الملكية، وإرساء الآليات الدستورية الكفيلة بتمكين المؤسسة الملكية من القيام بوظائف التحكيم بين المؤسسات والفاعلين والمراقبة العامة لشؤون الدولة، والتدخل لحماية التوازن وضمان استمرار الدولة عند حصول الاختلال أو الاضطراب في سيرها. بالموازاة مع تشديد الورقة على ضرورة ربط التسيير اليومي للشأن العام بالحكومة وجعلها مسؤولة كلية عليه، وربط المسؤولية في هذا الشأن بالمحاسبة، ثم تمضي الورقة في اقتراح الهندسة الدستورية الكفيلة بتحقيق هذا التصور، الذي يعكس نوعا من التأثر بفلسفة النظام البرلماني، وذلك من خلال مجموعة من المقترحات الكفيلة بتحقيق ما تسميه الورقة "ديمقراطية قائمة على فصل السلط وضمان التوازن بينها"، وتحقيق "برلمان ذو مصداقية وحكومة منتخبة ومسؤولة"، بالإضافة إلى العديد من المقترحات التي ترتقي بالقضاء وتعزز استقلاليته"، و"إقرار جهوية متقدمة بضمانات دستورية واسعة"، إلى جانب الاهتمام الكبير الذي أولته المذكرة لمجال الحقوق والحريات.

ـ تعزيز الضمانات الدستورية للحقوق والحريات:

يرتكز تصور حزب العدالة والتنمية في هذا المجال على مجموعة من القواعد التي تعكس تطلعه لتعزيز الضمانات الدستورية للحريات العامة وحقوق الإنسان، وهي قواعد تستند أولا على التكريم الإلهي للإنسان (ولقد كرمنا بني آدم) ونبذ الإكراه (لا إكراه في الدين)، والقول المأثور لعمر بن الخطاب (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا)، كما تستلهم من التجربة الإنسانية العالمية القائمة على مناهضة كل انتهاك لحرمة الإنسان أو المس بحريته.

حزب العدالة والتنمية ساهم من خلال مقترحاته في صياغة الوثيقة الدستورية لسنة 2011، التي أعطت دفعة نوعية للإصلاح الديمقراطي في البلاد، خصوصا بعدما أقرت مبدأ الفصل المرن بين السلطات وربط المسؤولية بالمحاسبة، وجعلت من الانتخابات أساس الشرعية التمثيلية.
كما تعتبر الورقة أن التراكم المغربي في مجال الحقوق والحريات، تفرض الانخراط في مرحلة جديدة تقوم على التنصيص الدستوري التفصيلي لللحريات العامة والحقوق الأساسية، وإلزام السلطة التنفيذية باحترامها وعدم المس بها أو القيام بما يبطلها. وتؤكد الورقة أن الالتزامات الدولية للمغرب في مجال الحريات والحقوق، يجب أن تكتسب قوة القانون بموافقة البرلمان عليها.

وتمضي الورقة في اقتراح التنصيص الدستوري على تجريم التعذيب والاختفاء القسري والاعتقال التعسفي، وكل ضروب المعاملة التي تنتهك الكرامة الإنسانية، واعتبارها جرائم لا تسقط بالتقادم، وحماية اللاجئين، مع التنصيص على منع تسليم اللاجئين السياسيين، وأن تتم دسترة كل من المجلس الوطني لحقوق الإنسان ومؤسسة الوسيط، والمطالبة بإقرار حق المواطن في الدفع بعدم دستورية المقتضيات القانونية المزمع تطبيقها عليه أمام أي محكمة. وغير ذلك من المقترحات التي تعزز الضمانات الدستورية للحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية، وهي المقترحات التي تمت الاستجابة لها، وأصبحت مستقرة في دستور 2011.

وختاما:

يمكن القول بأن حزب العدالة والتنمية ساهم من خلال مقترحاته في صياغة الوثيقة الدستورية لسنة 2011، التي أعطت دفعة نوعية للإصلاح الديمقراطي في البلاد، خصوصا بعدما أقرت مبدأ الفصل المرن بين السلطات وربط المسؤولية بالمحاسبة، وجعلت من الانتخابات أساس الشرعية التمثيلية، وذلك باختيار رئيس الحكومة من الحزب الأول في الانتخابات.

هذه المقترحات التي جاءت انعكاسا لمجهود فكري معتبر للتوفيق بين مقتضيات المرجعية الإسلامية في السياسة المستندة على مفاهيم الشورى والعدل والمساواة، ومقتضيات النظام الديموقراطي واحترام حقوق الإنسان كما تبلورت في التجربة الغربية، مع ملاءمتهما مع طبيعة النظام السياسي المغربي بخصائصه التاريخية، ولاسيما إمارة المؤمنين واعتبارها مؤسسة ضرورية لضمان الطابع الديني للدولة، والحفاظ على النظام الملكي والإسهام في بناء الإجماع حوله، مع الإسهام في تطويره لكي يتلاءم مع الديموقراطية ومقتضياتها العملية.

 لكن إلى أي حد نحت هذه الإصلاحات الدستورية المهمة في تجاوز أعطاب الحياة السياسية المغربية، ووضع المغرب على سكة الديموقراطية الحقيقية؟

الجواب على هذا السؤال يستلزم القيام بتمرين تقييمي لتجربة عشر سنوات من التطبيق الفعلي لمقتضيات الدستور الجديد، وتقييم العمل الحكومي في ظل دستور 2011، وهي المرحلة التي تحمل فيها حزب العدالة والتنمية مسؤولية رئاسة الحكومة، واحتك بالسلطة بشكل مباشر، وهي تجربة تستحق الدراسة والتقييم من زوايا مختلفة.

ذلك ما سنحاول استكشافه في الحلقات القادمة بحول الله.