الذاكرة السياسية

تاريخ رموز التيار القومي التونسي في عهدي بورقيبة وبن علي

نجح كثير من رموز الفكر القومي العربي التونسي في احتلال مواقع استراتيجية في الدولة وفي الجامعات في عهدي بورقيبة وبن علي..
لا تزال فكرة القومية العربية أو العروبة القائمة على فهم أن العرب أمة واحدة تجمعها اللغة والثقافة والتاريخ والجغرافيا والمصالح، قائمة لدى تيار عريض من النخب العربية. وعلى الرغم من الهزائم السياسية التي منيت بها تجارب القوميين العرب في أكثر من قطر عربي، إلا أن ذلك لم يمنع من استمرار هذا التيار، ليس فقط كفاعل سياسي هامشي، بل كواحد من الأطراف السياسية الفاعلة في تأطير المشهد السياسي في المنطقة العربية.

ومع مطلع العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، الذي دشنته الثورة التونسية، عادت الحياة مجددا إلى الفعل السياسي وتجدد السجال التاريخي بين التيارات الرئيسية التي شكلت ولا تزال محور الحياة السياسية العربية، أي القوميين والإسلاميين واليساريين، بالإضافة لتيار تكنوقراط يحسب نفسه على الوطنية ناشئا على هامش هذا السجال.

وإذا كان الإسلاميون قد مثلوا الصوت الأعلى في مرحلة ما بعد ثورات الربيع العربي؛ بالنظر إلى كونهم التيار الأكثر تعرضا للإقصاء في العقود الماضية، ولأنه كذلك التيار الأقرب إلى غالبية روح الأمة التي تدين بالإسلام، فإن ذلك لم يمنع من عودة الحياة مجددا للتيار القومي، الذي بدا أكثر تمرسا بأدوات الصراع السياسي؛ على اعتبار تجربته بالحكم في أكثر من بلاد عربية، وأيضا لقربه من دوائر صنع القرار، خصوصا العسكرية والأمنية منها.

"عربي21"، تفتح ملف القومية العربية، أو التيارات القومية العربية بداية من المفاهيم التي نشأت عليها، وتجاربها والدروس المستفادة من هذه التجارب، بمشاركة كتاب ومفكرين عرب من مختلف الأقطار العربية، والهدف هو تعميق النقاش بين مكونات العائلات الفكرية العربية، وترسيخ الإيمان بأهمية التعددية الفكرية وحاجة العرب والمسلمين إليها.

تختلف القراءات في تقييم الدور الذي لعبه المثقفون والنشطاء السياسيون التونسيون المغاربيون المحسوبون على "تيارات الهوية العروبية الإسلامية" وعلى الحركات "الوحدوية" التي تبنت شعارات "ثورية" رفعها مبكرا رموز الحركات المناهضة للاستعمار في المشرق والمغرب وقادة الأحزاب  الوطنية والتيارات البعثية والقومية من بينها الثالوث الشهير "الحرية والاشتراكية والوحدة" (مع اختلافات في الترتيب بين البعثيين والناصريين وبقية القوميين)..

لكن عدة حقائق تفرض نفسها عند تقديم أي قراءة تأليفية ـ تركيبية ـ تحليلية لتجارب التيار القومي العربي في تونس والدول المغاربية وتأثيراته الثقافية والفكرية والسياسية والحزبية في مرحلتي الكفاح الوطني وبناء الدول الحديثة ثم في مرحلة ما بعد انتفاضات 2010 ـ 2011 والمتغيرات الجيو استراتيجية التي عقبت انفجار "الثورات الشبابية العربية" ..

"عربي21"، فتحت ملف القومية العربية، أو التيارات القومية العربية بداية من المفاهيم التي نشأت عليها، وتجاربها والدروس المستفادة من هذه التجارب، بمشاركة كتاب ومفكرين عرب من مختلف الأقطار العربية، والهدف هو تعميق النقاش بين مكونات العائلات الفكرية العربية، وترسيخ الإيمان بأهمية التعددية الفكرية وحاجة العرب والمسلمين إليها.

في هذا السياق يقدم الأكاديمي والإعلامي التونسي كمال بن يونس سلسلة من الورقات حول الجذور الثقافية والرموز الفكرية والسياسية والحزبية للتيارات الوحدوية والقومية في تونس والمنطقة المغاربية .

كما يقدم قراءة لـ 3 تجارب سياسية خاضها القوميون العرب في تونس من خلال مشاركاتهم، قبل الاستقلال عن فرنسا في 1956 وبعده، في حركات وتنظيمات سياسية سلمية وأخرى مسلحة أو "ثورية"، إلى جانب تجاربهم في الصفوف الأولى في الحكم وفي المعارضة بعد ثورة 2011 ثم بعد منعرج قرارات 25 تموز (يوليو) 2021 التي اعتبرتها المعارضة "انقلابا على السلطات المنتخبة وعلى الدستور الشرعي".


الصراع انفجر بين التيار الفرنكفوني والتيار العروبي منذ الاستقلال

انفجرت بعد إعلان استقلال أغلب الدول العربية عن المستعمر الفرنسي والبريطاني والإيطالي منتصف القرن الماضي تناقضات فكرية وثقافية وسياسية بالجملة بين حلفاء الأمس العروبيين والإسلاميين المستنيرين من جهة والزعماء التحديثيين خريجي الجامعات الغربية من جهة أخرى، الذين كان خصومهم في الدول المغاربية يصفونهم بـ "حزب فرنسا" و"الفنرنكفونيين" و"الفرنكفوليين".

وفي تونس سجل المؤرخ والمدير العام السابق في وزارتي التعليم العالي والخارجية سعيد بحيرة أن بعض رموز الفكر القومي العروبي بجناحيهم "الاشتراكي العلماني" و"الوحدوي المتصالح مع العروبة والإسلام" لعبوا بعد الاستقلال دور ثقافيا فكريا سياسيا داخل مؤسسات الحكم والإعلام والثقافة والتعليم والنقابات والمجتمع المدني ..

من معارضة السلطة إلى التحالف معها

في نفس السياق السياق سجل المؤرخ محمد لطفي الشايبي أن انخرط زعماء عروبيين بارزين، مثل علي البلهوان ويوسف الرويسي والرشيد ادريس وجلولي فارس، تقلدوا مؤسسات عليا في الدولة الحديثة بزعامة الحبيب بورقيبة مباشرة بعد الاستقلال، وابتعدوا تدريجيا عن خصومها الزيتونيين و"العروبيين" المنحازين لخصمه الزعيم صالح بن يوسف الأمين العام للحزب وحليف الرئيس جمال عبد الناصر وزعماء حركة التحرير الجزائرية بزعامة الرئيس العروبي أحمد بن بلا .

في نفس الوقت يكشف المؤرخ محمد ضيف الله أن زعماء هذا التيار العروبي انقسموا مبكرا إلى مناصرين للزعيم المصري جمال عبد الناصر وآخرين لأحد الأحزاب القومية والقطرية البعثية في سوريا والعراق..

انقسامات

وتكشف مذكرات الكاتب والمفكر العروبي البعثي أبو القاسم كرو كيف انقسم الزعماء القوميون العرب في تونس وشمال إفريقيا بعد فشل "الوحدة بين مصر وسوريا" وانهيار مشروع "الجمهورية العربية المتحدة "( 1958 ـ 1961) التي تزعمها الرئيس المصري عبد الناصر ووافق عليها الرئيس السوري شكري القوتلي.

وزاد الانقسام خطورة بسبب تباين تقييمات القوميين التونسيين والعرب لسلسلة الانقلابات التي شهدتها سوريا والعراق وخاصة انقلاب 1966، وهو الانقلاب الثامن في سوريا بعد الاستقلال، وقد تزعمه الضابط صلاح جديد. وتعمقت الأزمة داخل البعثيين واليسار القومي التونسي والمغاربي بعد أن تسبب انقلابا 1966 في في فرار الزعيمين التاريخين لحزب البعث ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار من سوريا الى العراق ثم الى اوربا .. فيما تسبب انقلاب 1970 برئاسة وزير الدفاع آنذاك حافظ الأسد في إزاحة صلاح جديد ورفاقه وقمع المعارضين وفي بناء "دولة مركزية حديدية جديدة"..

وقد انعكست هذه الصراعات بين أجنحة البعث والتيار الناصري على القوميين العروبيين في تونس وشمال إفريقيا حسب أحمد نجيب الشابي في كتابه الضخم الذي نشره مؤخرا تحت عنوان "المسيرة والمسار، ما جرى وما أرى" وضمنه نقدا لتجارب كل التيارات والحركات الفكرية والسياسية في تونس خلال السبعين عاما الماضية.

الفكر والتنظيم.. والديمقراطية

لكن المفكر والناشط السياسي التونسي أحمد نجيب الشابي، وقد كان ووالده وعدد من أفراد عائلته الموسعة من أبرز رموز التيار العروبي ونشطائه في تونس، أورد في حديث لـ "عربي21" أن "الهزيمة النكراء" التي منيت بها مصر والدول العربية في حرب حزيران/ يونيو 1967 دفعته ورفاقه العروبيين في الجامعة التونسية وفي المهجر وفي السجون إلى الابتعاد عن "التيار القومي الناصري" والانخراط في "حزب البعث العروبي" أو في مجموعات يسارية اشتراكية علمانية "منفتحة" على التيار الوحدوي العروبي، مثل "حركة آفاق" التونسية .

وكان كثير من أبناء الجهات الداخلية المهمشة والجنوب التونسي تبنوا المقولات "العروبية"، رغم انخراطهم في حركات تنتسب إلى اليسار الاشتراكي الماركسي مثل " أفاق" و"العامل التونسي"، حسب شهادات السجين السياسي اليساري السابق فتحي بالحاج يحيى في كتابه "الحبس كذاب والحي يروح"، الذي يسجل أن طلبة الجنوب والجهات المهمشة كانوا يجمعون بين الدعوة للنضال من أجل "الديمقراطية الاجتماعية" و"التحرر الوطني" والنضال ضد "الاستعمار الجديد أو الامبريالية والاحتلال الصهيوني لفلسطين والأراضي العربي الذي استفحل بعد هزيمة 1967..

لكن الأوضاع تأزمت أكثر بعد انقلاب 1970 في سوريا الذي أورد أحمد نجيب الشابي أنه تسبب في اعتزاله وكثير من رفاقه في السجن وفي المهجر وداخل المعارضة للفكر القومي وتبنيهم "للفكر الماركسي اللينيني" عموما وللتيار المناصر "للديمقراطية الاجتماعية" التي بشر بها رموز المنهج الصيني للاشتراكية ومقولات الزعيم ماوتسيتونغ ورفاقه ..

انقلاب 1970

وكشف المناضل اليساري العروبي النوري عبيد صاحب دار النشر "محمد علي الحامي" لـ "عربي21" أنه ورفاقه القوميين العرب البعثيين تأثروا كثيرا في أواخر الستينات بأستاذهم في التاريخ "البعثي والماركسي" محمد الصالح الهرماسي، عندما كانوا في المعهد الثانوي بمدينة صفاقس (270 كلم جنوبي العاصمة تونس).

ويورد النوري عبيد أن الهرماسي، الذي عين لاحقا عضوا في القيادة المركزية القومية لحزب البعث في دمشق ثم تصالح مع حكم الرئيس زين العابدين بن علي، كان من بين أكثر الشخصيات التي نشرت الفكرين الماركسي والقومي العربي البعثي بين شباب المعاهد الثانوية في الوسط والجنوب التونسي وخاصة في معهد مدينة صفاقس، الذي كان يقصده شباب محافظات الجنوب والوسط في الستينات ومطلع السبعينات بسبب غياب معاهد أخرى في حجمه.

قياديون قوميون بارزون عينوا في مواقع عليا في الدولة
كما أورد النوري عبيد في كتاب نشره مؤخرا مع المؤرخ العروبي اليساري الهادي التيمومي والمناضل اليساري الاشتراكي السابق إبراهيم بن صالح عن "تاريخ الحركة اليسارية في تونس" أنه ورفاقه البعثيين أرسلوا في  1970 رفيقهم التونسي فرج بن رمضان ، وكان عضوا في القيادة القومية البعثية التونسية، إلى سوريا وحضر مؤتمر حزب البعث السوري .

لكن "المفاجأة" كانت بالنسبة إليهم انقلاب وزير الدفاع حافظ الأسد ورفاقه على الرئيس صلاح جديد وفريقه .

كما فوجئ إبراهيم بن صالح بسوء معاملة السلطات السورية له ومنعه من مغادرة دمشق لمدة شهرين، ربما للشك في ولائه وإخلاصه "لأن المجموعة البعثية التونسية لم تكن مدعوة بصفة رسمية للمؤتمر"(؟).

"فكانت النتيجة أن حصلت أزمة ثقة جديدة داخل القوميين والبعثيين التونسيين والمغاربيين في الأحزاب القومية والبعثية المشرقية ، فضلا عن كون السلطات التونسية بزعامة الحبيب بورقيبة شخصيا كانت تضطهد كل من تكتشف علاقته بها. كما كانت تتهجم على الموالين لـ "الناصرية" وللزعيم جمال عبد الناصر الذي دخل بورقيبة في خلاف مبكر معه .

 لذلك انسحب كثيرون من رموز التيارين القومي الناصري وثم من التيار البعثي من "العمل الجماعي والتنظيمات السرية"، وبقوا مستقلين فيما انخرط اخرون في حركات ماركسية لينينية أو في حزب البعث المنحاز لبغداد.." حسبما أورده النوري عبيد وأحمد نجيب الشابي في حديثهما مع "عربي21" ..

مسعود الشابي ورفاقه

لكن سعيد بحيرة الديبلوماسي السابق والمؤرخ واحد مؤسسي "التيار القومي" و"الطلبة الوحدويين العرب" منذ السبعينات أورد في تصريح لـ "عربي21" أن غالبية النشطاء القوميين ابتعدوا عن الأحزاب لكنهم أثروا كثيرا في الحياة السياسية والنقابية والثقافية والحقوقية في البلاد وفي الجامعات والمعاهد الثانوية بصفتهم "مستقلين".

ولم ينخرط أغلب رموز "التيار" في حزب" التجمع القومي العربي "("الناصري") الذي أسسه  المحامي البشير الصيد ورفاقه في 1981 ثم حزب "الاتحاد الوحدوي الديمقراطي" الذي تأسس بتشجيع من الرئاسة التونسية أواخر الثمانينات في تشرين الثاني/ نوفمبر 1988 من قبل قوميين وبعثيين ويساريين سابقين بزعامة عبد الرحمان التليلي، نجل الزعيم النقابي أحمد التليلي.

رموز "الجيل الجديد" من القوميين

 برز في العقد الأخير من حكم الحبيب بورقيبة ثم في عهد زين العابدين بن علي (1987 ـ 2011) جيل جديد من الرموز الفكر السياسي القومي العربي، كان من بينهم التونسي مسعود الشابي عضو القيادة القومية البعثية في بغداد الذي انخرط لاحقا في آليات للحوار بين القوميين العرب وبين رموز التيارين القومي والإسلامي، ومحمد الصالح الهرماسي (أبو سليم) عضو القيادة القومية البعثية في دمشق الذي تصالح وعدد من رفاقه مع السلطات التونسية وعادوا إلى تونس بعد 1987 .

 كما برز داخل التيار القومي نقيب المحامين البشير الصيد مؤسس حزب "التجمع القومي العربي بتونس" في 1981. وأسس البشير الصيد بعد ذلك عدة مجموعات سياسية وحدوية عروبية ناصرية عصمتية (نسبة إلى المفكر المصري عصمت سيف الدولة) وقد تميز بمساندة سياسات الزعيم الليبي معمر القذافي العروبية..

فضلا عن نخبة من الكتاب والمثقفين والسياسيين التونسيين الذين يعتبرون من بين الرموز الفكرية والثقافية والسياسية للوحدويين العروبيين في تونس وفي المنطقة مثل بلقاسم الشابي وأحمد نجيب الشابي و نقيب المحامين (والثورة وزير بعد 2011) الازهر القروي الشابي و النقيب عبد الوهاب الباهي و وصولا إلى النقيب السابق للمحامين ورئيس البرلمان الحالي إبراهيم بودربالة وشخصيات قومية تولت مناصب قيادية في مؤسسات الحكم والنقابات والمجتمع المدني قبل ثورة 2011 وبعدها بينها عبد الرحمان التليلي ومحمد بوشيحة ثم محمد المسيليني وفتحي بالحاج وزهير المغزاوي رئيس حزب حركة الشعب القومية و الاسعد اليعقوبي أمين القيادي البارزي في اتحاد نقابات العمال ..

مزالي وبن سلامة والشاذلي والقليبي 

ولعل من بين أبرز خصوصيات التجارب القومية البعثية والناصرية والعصمتية في تونس، حسب المؤرخ والقيادي العروبي السابق المنصف الشابي، أنها لم تأخذ شكل الأحزاب القومية القوية التي أثرت في تاريخ المشرق العربي .

بل كانت غالبا في شكل "تيار ثقافي وحدوي فكري سياسي" نجح بعض رموزه في توظيف الحراك الوطني والإقليمي ضد الاستعمار والتبعية والتخلف للدعوة إلى "صحوة فكرية سياسية ونهضة تربوية واقتصادية عربية شاملة".

ولئن شدد الزعيم الحبيب بورقيبة والمقربون منه الخناق مبكرا على الشخصيات والمجموعات السياسية المحسوبة على التيار العروبي الإسلامي من خريجي جامعة الزيتونة التونسية وجامعات المشرق العربي، فقد نجح كثير من رموز الفكر القومي العربي في احتلال مواقع استراتيجية  في الدولة وفي الجامعات وفي مؤسسات النشر ومراكز التأثير في السياسات الثقافية والتربية والإعلامي.

نقل الجامعة العربية ومنظمة التحرير إلى تونس دعم التيار العروبي
وتصدر مجموعات المفكرين الوحدويين وانصار التعريب  في عهد الرئيس الحبيب بورقيبة ( 1955- 1987) الوزيران محمد مزالي والبشير بن سلامة مؤسسا مجلة " الفكر" (1956-1986) والشاذلي القليبي وزير الثقافة  الأمين العام لجامعة الدول العربية (1979- 1990) ووزير التربية فرج الشاذلي (1980ـ 1986 )..

وكان محمد مزالي تحمل مسؤوليات عديدة في الدولة بعد الاستقلال بينها رئاسة مؤسسة الإذاعة والتلفزة وتلقب بين عدة حقائب وزارية وتولى بين 1980 و1986 رئاسة الحكومة والأمانة العامة للحزب الحاكم، بما مكنه من دعم سياسات تعريب التعليم والثقافة والاعلام مستفيدا في نفس الوقت من نقل مقرات أغلب مؤسسات جامعة الدول العربية من القاهرة الى تونس بعد قمة بغداد 1979 وإبرام السلطات المصرية اتفاقية كامب ديفد مع تل أبيب برعاية أمريكية .

واعتبر أحمد القابسي الإعلامي والمستشار السابق للمدير العام للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، الألكسو، أن نقل مؤسسات العمل العربي المشترك الى تونس وخاصة الثقافية منها، ساهم في دعم تيار التعريب في تونس والدول المغاربية التي اعتمدت حكوماتها بعد الاستقلال عن فرنسا "سياسات تحديث أدارت ظهرها للمشرق العربي وراهنت على النماذج الفرنسية والغربية".

ومنذ نقل مقرات الجامعة العربية ومنظمة التحرير الفلسطينية إلى تونس انفتحت مؤسسات الدولة ووسائل الإعلام والأوساط الثقافية العروبية الدولية، وأصبحت مقرا لتنظيم مؤتمرات علمية وثقافية عربية ودولية بمشاركة شخصيات وحدوية عروبية وإسلامية وتونسية مثل محمد مواعدة ومصطفى الفيلالي والمنصف المرزوقي والميداني بن صالح وخير الدين حسيب ومعن بشور ومحمد عمارة والمهدي منجرة ومحي الدين صابر ومحمد مواعدة وأحمد عابد الجابري..

"تسامح "مع القوميين والإسلاميين لإضعاف "الشيوعيين"؟

لا يختلف إثنان أن انفتاح السلطات والنخب التونسية في السبعينيات على أنصار "التيار العروبي الإسلامي" بعد هزيمة 1967 ووفاة جمال عبد الناصر وتعاقب الانقلابات في سوريا والعراق واليمن والسودان، فرضته عوامل موضوعية كثيرة من بينها تزايد "خطر الحركات الشيوعية والاشتراكية" الموالية لموسكو وبيكين ونماذج أمريكا اللاتينية..

وتزامن هذا الانفتاح مع سياسات الرئيس محمد أنور السادات وفريقه للقطع مع السوفييت والمعسكر الشرقي ومع "الناصرية" و"اليسار العربي"، فيما تأزمت علاقاته مع نظام معمر القذافي الذي حاول أن يلعب دور الوريث الشرعي " للناصرية " عبر تحالفه مع المفكر المصري القومي عصمت سيف الدولة، قبل أن يصل إلى قطيعة معه بسبب تبنيه " نظرية عالمية ثالثة " و" الكتاب الأخضر"..

بل لقد كانت سياسة "سحب البساط من تحت اقدام القذافي والنظام الليبي" من بين مبررات انفتاح الحبيب بورقيبة وحكمه على التعريب والعروبيين والإسلاميين، رغم تنظيمه محاكمات عديدة لتنظيمات قومية ثم لقيادات " حركة الاتجاه الإسلامي"...

وكان أهم شعار ثقافي سياسي رفع في تونس بمباشرة بعد سقوط حكم الرئيس بورقيبة في تشرين الثاني (نوفمبر) 1987 ووصول "الجنرال العروبي" زين العابدين بن علي وفريقه إلى السلطة هو المصالحة مع الهوية العربية الإسلامية .

وبدأ بن علي عهده بالمصالحة مع معمر القذافي وفريقه والرموز القومية العربية في الخارج، وبينها القيادة الليبية والنخب الفكرية والسياسية القومية الناصرية والبعثية التي أصبحت تدعى للمحافل الرسمية في تونس .

 ثم وقع توظيف بعضها في المعارك السياسية التونسية الداخلية، ضد بعض الأحزاب الناصرية والقومية وضد زعامات وشخصيات حقوقية وسياسية عروبية مثل البشير الصيد و حسين التريكي وعبد الرحمان الهاني و احمد نجيب الشابي و المنصف المرزوقي ومحمد مواعدة..

بل لقد سمح الحكم الجديد بالعودة إلى تونس لرموز تونسية في القيادات البعثية في بغداد ودمشق، كان من أبرزهم مسعود الشابي ومحمد الصالح الهرماسي.. ووقع تعيين شخصيات ثقافية وأكاديمية عروبية في مواقع عليا في الدولة بينها صالح البكاري الذي عين وزيرا مستشارا في قصر قرطاج ووزيرا للثقافة ثم سفيرا. كما عين المحامي والحقوقي العروبي محمود المهيري مستشارا في قصر قرطاج ورئيسا لإحدى محافظات العاصمة تونس .

وغض حكم بن علي الطرف عن صعود شخصيات ورموز قومية إلى ومن "القوميين الماركسيين" الذين تزايد تأثيرهم في مراكز صنع القرار السياسي والنقابي وفي المشهد ين الإعلامي ـ الثقافي، خاصة بعد انحياز الموقف الرسمي التونسي للعراق وليبيا بعد تأزم علاقتهما بواشنطن ولندن وحلفائهما في المنطقة منذ مطلع تسعينات القرن الماضي.

وكان المثال الأهم تأسيس الحزب القومي "الاتحاد الوحدوي الديمقراطي" في 1988 بزعامة عبد الرحمان التليلي نجل الزعيم النقابي والوطني الكبير احمد التليلي، وفتح أبوابه لرموز ثقافية وسياسية قومية بعثية وناصرية متعددة الألوان، نجح بعضها في الدخول إلى الحكومة والبرلمان أو في تحمل مسؤوليات عليا في قيادة الحزب الحاكم في تونس وفي وزارة الداخلية وفي قطاعات التعليم والثقافة وفي الإدارة المركزية مثل زهير حمدي الذي عين مستشارا في رئاسة الحكومة قبل 2011، وبينهم من تولى حقائب ديبلوماسية مثل المحامي سعيد ناصر رمضان الذي القيادي السابق في حزب الديمقراطيين الاشتراكيين بزعامة أحمد المستيري ومحمد مواعدة الذي عين مديرا عام للشؤون السياسية في وزارة الداخلية وأمينا عاما مساعدا للحزب الحاكم ثم سفيرا، أو عبد السلام بو عايشة القيادي العروبي الذي عين سفيرا، فضلا عن عشرات ممن عينوا أعضاء في مجلسي النواب والمستشارين أو على رأس مؤسسات اقتصادية وطنية بينهم عزالدين السميطي الذي ترأس مؤسسة صنع الأسمنت بقابس ..

اقرأ أيضا: تونسيون بين مؤسسي الحركات القومية والبعثية في المشرق والمغرب