الذاكرة السياسية

التيار القومي في الأردن.. ماذا تبقى من أحزابه وما مدى حضورها؟

القوى والأحزاب القومية في الأردن تعيش حالة صعبة، وهي تمر بأسوأ مراحلها في الوقت الحالي.. (الأناضول)
لا تزال فكرة القومية العربية أو العروبة القائمة على فهم أن العرب أمة واحدة تجمعها اللغة والثقافة والتاريخ والجغرافيا والمصالح، قائمة لدى تيار عريض من النخب العربية. وعلى الرغم من الهزائم السياسية التي منيت بها تجارب القوميين العرب في أكثر من قطر عربي، إلا أن ذلك لم يمنع من استمرار هذا التيار، ليس فقط كفاعل سياسي هامشي، بل كواحد من الأطراف السياسية الفاعلة في تأطير المشهد السياسي في المنطقة العربية.

ومع مطلع العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، الذي دشنته الثورة التونسية، عادت الحياة مجددا إلى الفعل السياسي وتجدد السجال التاريخي بين التيارات الرئيسية التي شكلت ولا تزال محور الحياة السياسية العربية، أي القوميين والإسلاميين واليساريين، بالإضافة لتيار تكنوقراط يحسب نفسه على الوطنية ناشئا على هامش هذا السجال.

وإذا كان الإسلاميون قد مثلوا الصوت الأعلى في مرحلة ما بعد ثورات الربيع العربي؛ بالنظر إلى كونهم التيار الأكثر تعرضا للإقصاء في العقود الماضية، ولأنه كذلك التيار الأقرب إلى غالبية روح الأمة التي تدين بالإسلام، فإن ذلك لم يمنع من عودة الحياة مجددا للتيار القومي، الذي بدا أكثر تمرسا بأدوات الصراع السياسي؛ على اعتبار تجربته بالحكم في أكثر من بلاد عربية، وأيضا لقربه من دوائر صنع القرار، خصوصا العسكرية والأمنية منها.

"عربي21"، تفتح ملف القومية العربية، أو التيارات القومية العربية بداية من المفاهيم التي نشأت عليها، وتجاربها والدروس المستفادة من هذه التجارب، بمشاركة كتاب ومفكرين عرب من مختلف الأقطار العربية، والهدف هو تعميق النقاش بين مكونات العائلات الفكرية العربية، وترسيخ الإيمان بأهمية التعددية الفكرية وحاجة العرب والمسلمين إليها.

اليوم نفتح ملف تاريخ التيار القومي في الأردن، من خلال تقرير أعده المفكر والإعلامي بسام ناصر خصيصا لـ "عربي21"، وننشره في حلقتين..


إنجازات ومعوقات

ما الذي استطاعت قوى وأحزاب التيار القومي في الأردن إنجازه وتحقيقه عبر مسيرتها الطويلة؟

رأى الإعلامي والأكاديمي الأردني الدكتور موسى برهومة، أن "الإنجاز الذي حققه التيار قد يكون متمثلا في "المعارضة" التي جسدها في النقابات المهنية، التي حلت، مُكرهة محل الأحزاب، وكانت واجهة لها، كما أنها قدمت وجوها سياسية وقادة، بعضها دخل الحكومات وانتخب في البرلمان، وشكل ظاهرة، لكن تلك الظاهرة لم تتحول إلى حالة ثابتة يمكن البناء عليها، بعد أن أخفقت التيارات كلها في (استثمار) الربيع العربي وتحولاته التي جعلت قبضة السلطات ترتخي عنوة، على أن تجربة الربيع نفسها آلت إلى نتائج صادمة ومخيبة للآمال".

وعن أسباب ضعف التيارات القومية واليسارية في الأردن، رأى برهومة أنه "عائد بالدرجة الأساسية إلى الاستهداف الذي مورس ضدها من قبل السلطة، حيث تعرّض غالبية منتسبي هذه التيارات إلى التضييق والاعتقال والمنع من العمل والسفر، لا سيما في فترة الأحكام العرفية التي استمرت أكثر من ثلاثة عقود، نما فيها التيار الإسلامي من خلال منابره، وكأن عقل الدولة العميقة كان يضمر أن يُحِل الإسلاميين مكان القوميين والبعثيين واليساريين، باعتبار أن الإسلاميين (معارضة ناعمة)" على حد قوله.

وتابع: "وفضلا عن تآكل الفكرة القومية في العالم العربي، فقد انفضّ الناس عن تلك التيارات، وخصوصا في الأردن، إذ لم تسعَّ تلك التيارات إلى تجديد خطابها، وتطوير أطروحة مبتكرة تتواءم مع الواقع المحلي، وتضع تصورات في السياسة والاقتصاد والثقافة والتنمية، وتستقطب جمهور الشباب الذي سيطرت عليه الأفكار العشائرية وأواصر القرابة والدم، فيما تحرك في هذه الدائرة التيار الإسلامي الذي كان يستثمر لترسيخ كيانيّته في المساجد والجمعيات والمؤسسات الاجتماعية والاستثمارية (مستشفيات، مدارس، جامعات، إلخ).

ولفت إلى أن مما يستحق التنبيه إليه أن "مقر جماعة الإخوان المسلمين ظل يعمل في ظل الأحكام العرفية، بينما كان مصير، مَن يثبت أنه قومي أو يساري أو بعثي، الويل والثبور وعظائم الأمور".

بدوره أوضح الناشط السياسي عصام صبح أن حزب البعث العربي الاشتراكي، القريب من البعث في العراق، وحزب البعث التقدمي، القريب من حزب البعث في سوريا، والحزب الوطني الاشتراكي، بتوجهه القومي الناصري، بقيت تلك الأحزاب تعمل في الساحة الأردنية، ولها حضور قوي لنهاية حقبة الستينيات، حتى وقعت نكسة حزيران، ووفاة الزعيم جمال عبد الناصر سنة 1970، وتحول حركة القوميين العرب إلى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وتبنيها للفكر الماركسي، ما أدّى إلى تراجع التوجه القومي في الأردن وفلسطين".

وأردف: "وثمة عوامل أخرى كبروز ظاهرة العمل الفدائي، ووصول الرئيس المصري محمد السادات إلى الحكم، والخلاف الحاد بين قطبي حزب البعث في العراق وسوريا، وتأثير حقبة النفط العربي على قيم ومفاهيم المجتمع العربي، وبروز قوى الإسلام السياسي المناهضة للتوجه القومي، والتي دعمتها ومولتها دول النفط العربي، ما أدّى إلى تراجع التوجهات القومية في الأردن وفلسطين".

التيار القومي في المشهد السياسي الأردني الحالي

في رصده وتقييمه لتجارب القوى والأحزاب القومية واليسارية، رأى الدكتور جمال الشلبي أنها "تعيش حالة صعبة، وهي تمر بأسوأ مراحلها في الوقت الحالي، أما بالنسبة لحضورها وتأثيرها فمن المؤكد أنه تراجع بشكل واضح ولافت، وقد تشرذمت نتيجة الاختلافات الداخلية بينها، إضافة إلى معادلات ومعطيات ما بعد اتفاقيات أوسلو، ووادي عربة، وعدم تجديد خطابها، وتشبث قياداتها القديمة بالمراكز القيادية، ما جعل عامة الناس ينظرون إليها كدكاكين خاصة".

وتابع: "الشعب الأردني بعمومه لديه عزوف عن العمل الحزبي، ولذلك عدة أسباب منها الرؤية الأمنية في التعامل مع ملف الأحزاب، وهو ما يشيع التخوفات في أوساط الناس من أن الانتساب إلى الأحزاب قد يؤثر على أعمالهم الوظيفية ومصالحهم الخاصة، كما أن عامة الناس ينظرون إلى العمل الحزبي بوصفه يحقق مصالح شخصية للقيادات وبعض الكوادر، وهو ما ينعكس على شعبية القوى والأحزاب القومية واليسارية".

وأكدّ الشلبي أن "أهم حزب سياسي، يتمتع بحضور وتأثير هو حزب جبهة العمل الإسلامي، ولديه مؤسسات قوية وفاعلة، ولديه مواقف واضحة، وهو قادر على حشد الجماهير والتأثير عليها، وهو يشكل منافسا قويا لكل الأحزاب القومية واليسارية، التي لا تمتلك قواعد جماهيرية، وليس لديها قدرة على حشد الشارع والتأثير على الناس كما يمتلك ذلك كله حزب جبهة العمل الإسلامي".

وفي هذا السياق تساءل الأكاديمي والكاتب الأردني، د. موسى برهومة "أين موقع التيار القومي في الخريطة المقبلة"؟ ليجيب: "هذا سؤال مرتبط بطبيعة التحولات السياسية في الأردن، حيث تراجعت مكانة الأحزاب القومية، ومعها اليسارية أيضاً، ولم تتمكن أي منها من إيصال أي نائب من التيار القومي إلى البرلمان في الانتخابات الأخيرة 2020، والتي شهدت استمرار نفوذ العشائر ورجال الأعمال".

وتابع: "ثمة من يرى في قانون الأحزاب الجديد بصيص نور لإعادة (إحياء) الفكرة القومية واليسارية، من خلال القائمة الحزبية التي ستحوز، وفق القانون 41 مقعدا من المقاعد البرلمانية، فكم سيكون نصيب القوميين من هذه (الكعكة)؟ مضيفا أن "الطريق طويل أمام الناشطين والحزبيين في الأردن مهما كانت أيديولوجياتهم، لأن المخاوف أكبر من الآمال".

وختم كلامه بالقول "ولن يكون من السهل تطوير حياة حزبية وتشكيل حكومات على أساسها، بعد عملية تجريف ممنهجة مورست عبر عقود، جرى خلالها شيطنة العمل الحزبي، ولا تزال آثار هذه (الشيطنة) ونتائجها ماثلة حتى الآن، وهو ما أفصحت عنه دراسة أجراها مركز الدراسات الاستراتيجية بالجامعة الأردنية في آب (أغسطس) 2022، حيث أفاد 2% فقط من العينة المستجوَبة بأنهم يفكرون بالانضمام إلى الأحزاب السياسية، فيما اعترف 94% بأنهم لا يمارسون أي نشاطات حزبية".

اقرأ أيضا: التيار القومي في الأردن.. بداياته ورموزه وأطروحاته الفكرية والسياسية