الذاكرة السياسية

التيار القومي في الأردن.. بداياته ورموزه وأطروحاته الفكرية والسياسية

تعود بدايات ظهور التيار القومي وبواكير تشكله في الأردن إلى القرن التاسع عشر، وبداية القرن العشرين ..
لا تزال فكرة القومية العربية أو العروبة القائمة على فهم أن العرب أمة واحدة تجمعها اللغة والثقافة والتاريخ والجغرافيا والمصالح، قائمة لدى تيار عريض من النخب العربية. وعلى الرغم من الهزائم السياسية التي منيت بها تجارب القوميين العرب في أكثر من قطر عربي، إلا أن ذلك لم يمنع من استمرار هذا التيار، ليس فقط كفاعل سياسي هامشي، بل كواحد من الأطراف السياسية الفاعلة في تأطير المشهد السياسي في المنطقة العربية.

ومع مطلع العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، الذي دشنته الثورة التونسية، عادت الحياة مجددا إلى الفعل السياسي وتجدد السجال التاريخي بين التيارات الرئيسية التي شكلت ولا تزال محور الحياة السياسية العربية، أي القوميين والإسلاميين واليساريين، بالإضافة لتيار تكنوقراط يحسب نفسه على الوطنية ناشئا على هامش هذا السجال.

وإذا كان الإسلاميون قد مثلوا الصوت الأعلى في مرحلة ما بعد ثورات الربيع العربي؛ بالنظر إلى كونهم التيار الأكثر تعرضا للإقصاء في العقود الماضية، ولأنه كذلك التيار الأقرب إلى غالبية روح الأمة التي تدين بالإسلام، فإن ذلك لم يمنع من عودة الحياة مجددا للتيار القومي، الذي بدا أكثر تمرسا بأدوات الصراع السياسي؛ على اعتبار تجربته بالحكم في أكثر من بلاد عربية، وأيضا لقربه من دوائر صنع القرار، خصوصا العسكرية والأمنية منها.

"عربي21"، تفتح ملف القومية العربية، أو التيارات القومية العربية بداية من المفاهيم التي نشأت عليها، وتجاربها والدروس المستفادة من هذه التجارب، بمشاركة كتاب ومفكرين عرب من مختلف الأقطار العربية، والهدف هو تعميق النقاش بين مكونات العائلات الفكرية العربية، وترسيخ الإيمان بأهمية التعددية الفكرية وحاجة العرب والمسلمين إليها.

اليوم نفتح ملف تاريخ التيار القومي في الأردن، من خلال تقرير أعده الإعلامي بسام خصيصا لـ "عربي21"، وننشره في حلقتين..


ضعف ووهن

تشير تقارير صحفية وتحليلات سياسية إلى أن القوى والأحزاب القومية في الأردن تعيش حالة من الضعف، وتشهد تراجعا لافتا في حضورها وشعبيتها، إذ لم تتمكن في انتخابات عام 2020 من تحقيق أي نجاح، وفشلت في إيصال أيّ مرشح من مرشحيها إلى البرلمان، وهو ما يظهر انحسار جماهيرية التيار في الأوساط الشعبية، وتآكل فكرة القومية العربية وفق مراقبين.

تتعدد الرؤى والتحليلات في تحديد أسباب ذلك الضعف والتراجع، لكنها في مجملها تُرجع ذلك إلى عدم توافر المناخات السياسية الرافعة والحاضنة للعمل الحزبي، كما شكل الاستهداف الذي مورس بحق تلك القوى والأحزاب من قبل السلطة سببا هاما في ضعفها وتراجعها، إضافة إلى وجود منافس قوي، تمثل في التيار الإسلامي، بقاعدته الشعبية الواسعة، وبما حظي به من تسهيلات في الوجود والحركة.

بداية الظهور والتشكل

تعود بدايات ظهور التيار القومي وبواكير تشكله "في الأردن إلى القرن التاسع عشر، وبداية القرن العشرين عندما بدأت الجماهير العربية وخاصة في منطقة بلاد الشام ومصر تعاني من ظلم وبطش الأتراك للعرب، وبعد مضي خمسة قرون من حكم العثمانيين للعرب لم يتم خلالها بناء أي جامعة، ولا إنشاء أي مصنع واحد، بل فُرضت خلالها ضرائب عالية على العرب، وحكمت البلاد والعباد بالحديد والنار، وهمشت مدن عربية تاريخية مثل حلب ودمشق ويافا والإسكندرية والقاهرة.." حسب الناشط السياسي الأردني، عصام صبح.


                                            عصام صبح.. ناشط سياسي أردني

وأضاف: "ومع دخول الصحافة إلى الوطن العربي، لا سيما في مصر ولبنان ودمشق، وتخرج عدد لا بأس به من الجامعات الأوروبية من أبناء مصر وبلاد الشام، وظهور عدد من المفكرين العرب يدعون إلى انفصال العرب عن حكم العثمانيين، بدأت تبرز وتظهر التوجهات القومية".

وواصل حديثه لـ"عربي21" بالقول: "وتجلى ذلك في ثورة الشريف الحسين بن علي في الحجاز، وهو ما كان دافعا للمزاج الشعبي والرأي العام للتوجه نحو القومية العربية، خاصة بعد نكبة فلسطين وتوجه عدد كبير للدراسة في الجامعة الأمريكية في بيروت، وبروز حزب البعث في سوريا ووصول الضباط الأحرار في مصر إلى سدة الحكم".

من جهته قال أستاذ العلوم السياسية في الجامعة الهاشمية، الدكتور جمال الشلبي: "تعتبر الثورة العربية الكبرى التي أطلق رصاصتها الأولى الشريف الحسين بن علي عام 1916 من قصره في مكة المكرمة، نقطة انطلاق عملية للفكر القومي، وبعد تأسيس إمارة شرق الأردن شكلت فكرة القومية العربية أحد المرتكزات الأساسية للسياسة الخارجية الأردنية".


                               جمال الشلبي.. أستاذ العلوم السياسية بالجامعة الهاشمية

وأردف لـ"عربي21": "ظهرت القومية العربية كنقيض للرابطة الإسلامية التي كانت تمثلها حينذاك السلطنة العثمانية، كما تبلور الحس القومي في شرق الأردن، وهو ما ظهر في مؤتمر أم قيس الذي عقد عام 1920، الذي حذر من خطر هجرة اليهود إلى فلسطين وطالب بوقفها، كما حذر من مخططات ابتلاع الأراضي الفلسطينية".

وفي ذات الإطار قال الكاتب والأكاديمي الأردني، الدكتور موسى برهومة: "يُنظر إلى الحكومة التي شكلها سليمان النابلسي في 29 تشرين الأول (أكتوبر) 1956، باعتبارها أول تجسّد للحراك القومي في الأردن في مؤسسات الدولة، حيث انبثقت الحكومة من ائتلاف ستة من أعضاء الحزب الوطني الاشتراكي، وثلاثة مستقلين، وضمت وزيرا عن حزب البعث العربي الاشتراكي، ووزيرا عن الشيوعيين، باسم (الجبهة الوطنية)".


                                       موسى برهومة.. أكاديمي وكاتب أردني

وتابع حديثه لـ"عربي21" بالقول: "هذه التجربة الفريدة في التاريخ الأردني المعاصر لم تتكرر، ولم تصمد سوى عدة أشهر بعد أن اتخذت قرارات داخلية وخارجية جريئة أغضبت القصر آنذاك؛ فقام العاهل الأردني الملك الحسين بن طلال بحلها وفرض الأحكام العرفية".

من جانبه ذكر الناشط السياسي الأردني، محمد الوحش لـ"عربي21" أن "الحركة القومية في الأردن مكملة لوجود الفكر القومي بالوطن العربي مع نهايات القرن التاسع عشر، وقد تميز ظهور الوعي العربي بظهور تيارين القومي والإسلامي، وكان بينهما تداخل كبير، ومن أهم هذه التشكيلات: حزب البعث العربي الاشتراكي مركز القوميين العرب".


                                          محمد الوحش، ناشط سياسي أردني

أفكار التيار وأبرز قواه

يُنظر إلى القومية العربية بوصفها فكرة جامعة، تجمع الشعوب العربية في إطارها روابط خاصة مثل اللغة والتاريخ والدين، وقد تشكلت فكرة القومية العربية بصفتها حركة سياسية مضادة لكل أشكال السيادة الخارجية، ووفقا للوحش فإن أبرز أفكار التيار القومي هي تلك التي تحمل فكر الأمة العربية، وأنها حاملة رسالة، وأن جوهرها الإيمان بأن علاقة العروبة مع الإسلام علاقة الروح بالجسد.

من جانبه لفت الناشط السياسي، عصام صبح إلى أنه "وعلى امتداد الوطن العربي، ومنه الأردن، فإن المشروع القومي يتوزع بين توجهين، أولهما حزب البعث بشقيه العراقي والسوري، والتوجه الناصري القائم على تجربة ومشروع ثورة 23 يوليو، وهذا التوجه له حضور في الشارع العربي من موريتانيا إلى البحرين، وما زال يحتفظ بذاكرته بتجربة ثورة يوليو رغم ما تعرضت له من إخفاقات، ومن حملات تشويه إعلامية ظالمة، ومن ملاحقات أمنية في العديد من الدول العربية، بل وصل الأمر إلى تصفيات دموية كما حدث في اليمن".

وفي ذات الإطار أوضح الدكتور جمال الشلبي أن القوى والأحزاب القومية متفقة في الأهداف والغايات، لكنها تختلف في الوسائل والطرق الموصلة لتلك الأهداف، فشعار البعث هو: وحدة، حرية، اشتراكية، أما شعار الناصرية فهو: حرية، اشتراكية، وحدة، إضافة لما يقع بينها من اختلافات وتباينات حول الأشخاص والرموز.

أما أبرز قوى وأحزاب التيار القومي في الأردن فهي، حسب الناشط صبح حزب البعث العربي الاشتراكي القريب من حزب البعث في العراق، والذي كان له وجود تنظيمي قوي في مدن جنوب الأردن، وحضور شعبي كبير إبان حكم الرئيس صدام حسين، إلا أن الخلافات التنظيمية أرهقت الحزب، وأضعفت حضوره، خاصة بعد الاحتلال الأمريكي للعراق.

أما الحزب الثاني، تابع صبح، فهو حزب البعث التقدمي والقريب من حزب البعث في سوريا، وكان له حضور قوي ومميز في مدن الشمال الأردني، إلا أن الخلافات الداخلية أدّت إلى خروج المئات من كوادره، إضافة للحملات الإعلامية التي قادتها منظمة التحرير ضد قيادة سوريا، خاصة إبان الحرب الأهلية في لبنان، وعدم تجديد قيادته منذ سنوات طويلة، أضعف الحزب ولم يستطع تأمين شروط الهيئة المستقلة للانتخابات، فلم يعد مرخصا قانونيا.

ثالث تلك الأحزاب، هو حزب الحركة القومية، وهو حزب نشأ في بدايات التسعينات على أرضية فكرية تتبع مفاهيم الكتاب الأخضر، وبعد مقتل الرئيس الليبي معمر القذافي، تحول الحزب إلى خطاب قومي يرتكز على مفاهيم ومصطلحات قومية عامة، ولم يستطع عبر مسيرته أن يشكل حالة شعبية لها أي حضور يُذكر.

وعن المنتديات والهيئات التي تُعنى بنشر الفكر القومي، فذكر منها صبح (المنتدى العربي) وهو منتدى ثقافي ذو توجه قومي، قام بتأسيسه القطب الناصري حمد الفرحان، والمحامي حسين مجلي، وبعض الناصريين.. وكذلك (المنتدى العربي الناصري) وهو منتدى ثقافي سياسي أنشأه شخصيات ناصرية، لها حضور شعبي ونقابي، مثل المهندس تيسير الصغير، والدكتور محمد العرموطي نقيب الأطباء السابق، والدكتور أحمد القادري نقيب أطباء الأسنان السابق.