قضايا وآراء

الخروج الأمريكي المستحيل من الشرق الأوسط

عززت الولايات المتحدة وجودها العسكري في المنطقة على خلفية حرب غزة- البحرية الأمريكية
يبدو أن الولايات المتحدة باتت ترتبط بمنطقة الشرق الأوسط ارتباطا عضويا يصعب الفكاك منه، فقد كشفت أحداث المنطقة على مدار العامين الأخيرين أن الخروج الأمريكي من الشرق لا يعدو أن يكون أمنيات بعض التيارات في الإدارات الأمريكية، أو في أحسن الأحوال مجرد خطط نظرية لا تملك فرصا للتنفيذ ضمن الاستراتيجيات الأمريكية الفعلية.

لقد كشفت الحرب الإسرائيلية على غزة هذه الصورة الحقيقية بدرجة كبيرة، حيث أرسلت أهم أصولها العسكرية إلى المنطقة، وانشغل المستوى العسكري الأمريكي بكامل طاقته في إدارة الحرب والإشراف على مجرياتها. وقد ثبت ذلك بشكل لا لبس فيه من خلال تصريحات المستوى السياسي الأمريكي وتشكيل لأهداف الحرب الإسرائيلية على غزة والمتمثلة في الإصرار على القضاء على حماس وتزويد إسرائيل بمختلف صنوف الأسلحة.

ستجد أمريكا نفسها بعد فترة أسابيع أمام واقع صنعته بيدها، وسيشكّل لها مشكلة طويلة الأمد، فسيكون مطلوبا منها، باعتبارها الطرف الذي أدار الحرب، إدارة مرحلة الخروج من الأزمة، بما يعنيه ذلك من عملية إعمار لن يكون من السهل إقناع الأطراف الإقليمية والدولية في المساهمة بها بدون ضمانات سياسية، ذلك أن حجم الدمار كبير مما يرفع فاتورة إعادة الإعمار بدرجة كبيرة، وكلما ارتفع حجم الفاتورة ستقبل واشنطن مرغمة بتقديم بعض التنازلات للفاعلين الإقليميين والدوليين

لا يعني ذلك أن واشنطن في طريقها لتحقيق أهدافها، وعلى الأرجح أن عامل الوقت لن يسعفها في هذا المسعى، ذلك أن القضاء على حماس يحتاج لزمن طويل وبيئة استراتيجية مختلفة، فيما هناك محددات تفرض على أمريكا القبول بالحد الأدنى من تحقيق الأهداف. فالوقائع الجارية في أوكرانيا بدأت تدق ناقوس الخطر جراء نقص تزويد كييف بالأسلحة التي يتم إرسالها إلى إسرائيل، كما أن الأمور في بحر الصين قد تخرج من سيطرة واشنطن، فضلا عن الأوضاع غير المريحة التي باتت تواجهها في الشرق الأوسط جراء تلاقي مصالح إيران وروسيا وتركيا على الضغط على الوجود الأمريكي لإضعاف تأثيراته على مصالحهما في المنطقة.

في غزة، ستجد أمريكا نفسها بعد فترة أسابيع أمام واقع صنعته بيدها، وسيشكّل لها مشكلة طويلة الأمد، فسيكون مطلوبا منها، باعتبارها الطرف الذي أدار الحرب، إدارة مرحلة الخروج من الأزمة، بما يعنيه ذلك من عملية إعمار لن يكون من السهل إقناع الأطراف الإقليمية والدولية في المساهمة بها بدون ضمانات سياسية، ذلك أن حجم الدمار كبير مما يرفع فاتورة إعادة الإعمار بدرجة كبيرة، وكلما ارتفع حجم الفاتورة ستقبل واشنطن مرغمة بتقديم بعض التنازلات للفاعلين الإقليميين والدوليين.

وبالطبع هذه العملية لن تتم بدون عملية سياسية تؤطرها، وستكون واشنطن مجبرة على تجهيز طاولة للحل السياسي، حتى لو تطلب ذلك تغيير طاقم الحكم الإسرائيلي، والإتيان بطاقم جديد لإدارة مرحلة ما بعد الحرب. إذ إن استمرار النخبة الحالية يعني تعطيل الاستراتيجية الأمريكية في المرحلة المقبلة، وهو أمر دونه مخاطر كبيرة على سمعة الولايات المتحدة الأمريكية الدولية ومكانتها في المنطقة، فضلا عما ينطوي عليه من تعريض مصالحها للخطر، إذ ستظهر أمام الرأي العام العالمي بوصفها طرفا غير قادر على إدارة صراعات النظام الدولي الذي تدّعي أنها تتسيد فعالياته وتتحكم بتوجهاته، الأمر الذي قد يسرّع البحث عن نظام دولي جديد لا تسيطر فيه واشنطن وحدها عليه، وسيكون ذلك نوعا من البحث عن عالم أفضل وليس مجرد سياسة مناكفة لأمريكا.

الشرق الأوسط دخل وبقوة في قلب استراتيجيات الفاعلين الإقليميين والدوليين، كونه المنطقة الأسهل للصراع، بسبب تعدّد الوكلاء، وضعف قواعد الاشتباك فيها، وقابليتها الدائمة للاشتعال. وفي ظل هذه الديناميكيات تصبح فرص الخروج الأمريكي من المنطقة ضعيفة إلى حدود بعيدة

من الواضح أن إدارة بايدن تنبهت لكل هذه القضايا، وتدرك المخاطر والفرص التي ينطوي عليها ما يسمى اليوم التالي لحرب غزة، لذا بدأت تدعو إلى العودة إلى حل الدولتين في فلسطين التاريخية. ومن المعلوم أن هذه القضية المعقّدة تحتاج إلى جهد سياسي استثنائي من المستوى السياسي الأمريكي، أقله على مدار عامين قادمين، حتى تستطيع تحقيق حد أدنى من النتائج، أو الفشل في تحقيق أي نتيجة والعودة لتكتيكات واستراتيجيات قديمة.

والواقع، أن الولايات المتحدة لن تتمكن من تعديل قواعد اللعبة، أو إعادة ضبط بعد أن ربطت مكانتها الدولية بالانتصار في هذين الحربين، بالإضافة إلى استنفارها الكبير والمكلف في بحر الصين الجنوبي في مواجهة الصين وكوريا الشمالية.

المؤكد أن الشرق الأوسط دخل وبقوة في قلب استراتيجيات الفاعلين الإقليميين والدوليين، كونه المنطقة الأسهل للصراع، بسبب تعدّد الوكلاء، وضعف قواعد الاشتباك فيها، وقابليتها الدائمة للاشتعال. وفي ظل هذه الديناميكيات تصبح فرص الخروج الأمريكي من المنطقة ضعيفة إلى حدود بعيدة. والمرجح أن واشنطن ستعمل في المرحلة المقبلة على زيادة أصولها العسكرية في سوريا والعراق، بالإضافة إلى نشر المزيد من قطعها البحرية في البحرين الأحمر والمتوسط، كما من المؤكد أن تشغل تفاعلات المنطقة المساحة الأكبر من جهود دبلوماسية واشنطن لمواكبة تطورات أحداثها.

twitter.com/ghazidahman1