قضايا وآراء

علاقات أمريكا وإسرائيل.. اللعب ضمن مساحات الأمان

الامتناع عن التصويت يعطي واشنطن مساحة للمناورة وعدم الضغط على إسرائيل- الأمم المتحدة
ما تطلبه حكومة نتنياهو من أمريكا يتجاوز منطق العلاقات السياسية بين حليفين طبيعيين ويضع هذه العلاقة في دائرة الشك؛ نظرا لما يكتنفها من شذوذ غير مسبوق وغرابة من النادر ملاحظتها في التاريخ الدبلوماسي للعلاقات الدولية.

لطالما جرى بناء أي علاقة بين كيانين دوليين على أساس المصالح المشتركة المتبادلة، بحيث يتبادل الطرفان المنافع من هذه العلاقة دون أن يكون لأحدهما الغُنم وللآخر الغُرم.. هذا منطق السياسة منذ حتى قبل ظهور الدول الحديثة وتعقيدات السياسة الدولية الراهنة التي أنتجت معادلات ومسارات تفرض على الدول إدارة التوازنات بحرفية وعقل منفتح.

كشفت الحرب على غزة نمطا جديدا من العلاقات بين أهم فاعل دولي في العصر الحالي (الولايات المتحدة الأمريكية)، وكيان له قدرات إقليمية محدودة (إسرائيل)، إذ أسفر مسار الحرب والوقائع التي رتبها عن سيطرة شبه كاملة على توجهات واشنطن، العاصمة التي تجتمع لديها خيوط السياسة الدولية، من قبل تل أبيب العاصمة الإقليمية شبه المعزولة بقدراتها الضعيفة على إدارة أزمة؛
كشفت الحرب على غزة نمطا جديدا من العلاقات بين أهم فاعل دولي في العصر الحالي (الولايات المتحدة الأمريكية)، وكيان له قدرات إقليمية محدودة (إسرائيل)، إذ أسفر مسار الحرب والوقائع التي رتبها عن سيطرة شبه كاملة على توجهات واشنطن، العاصمة التي تجتمع لديها خيوط السياسة الدولية، من قبل تل أبيب العاصمة الإقليمية شبه المعزولة بقدراتها الضعيفة على إدارة أزمة
التي يفترض أنها اختبرتها على مدار عقود وباتت على دراية تامة بمخارجها ومداخلها وشروط إدارتها، والأهم من كل ذلك، يفترض أنها تملك معرفة تامة بحساسيات موقف حليفها الأمريكي وحساباته في ظل لعبة الأمم وبروز قوى إقليمية ودولية تفتقد واشنطن القدرة والأدوات اللازمة للسيطرة على توجهاتها والتأثير في السياسات التي تتبعها.

وقد كان لافتا قرارات حكومة نتنياهو، التي تتخذ صفة العقاب للحليف الأمريكي، لمجرد امتناع واشنطن عن التصويت على قرار يطالب بوقف النار في غزة، مع أن الامتناع الأمريكي، وإن كان أقل مستوى من التصويت بالضد، إلا أنه من حيث الوزن والتأثير لا خلاف بين الموقفين، إذ إن الامتناع يعطي واشنطن مساحة للمناورة وعدم الضغط على إسرائيل وحتى عدم التزام بالقرار. وقد اتخذت واشنطن هذا القرار تحت إكراهات كثيرة، أهمها استنفاد القدرة على مواصلة تغطية حرب الإبادة، فلم تترك حكومة المتطرفين الصهاينة أي أسلوب قذر إلا واستخدمته في مواجهة الشعب الفلسطيني، من قتل الأطفال واغتصاب النساء وإذلال وتجويع أكثر من مليوني مواطن.

والغريب في هذا السياق، أن أمريكا التي تملك أكبر شبكة علاقات دولية وأهلية في العالم، والتي يجري بناء السياسات فيها على حسابات دقيقة، ويساهم في صنع سياساتها أكبر مراكز البحوث على مستوى العالم، مطلوب منها إغماض عينيها وتعطيل قدراتها التشغيلية الهائلة في السياسة، والسير خلف حكومة باتت تبني سياساتها على أسس أيديولوجية أسطورية تستدعي التاريخ، القديم جدا، لوصف أعمالها الراهنة، بل ذهبت إلى حد شراء خمس بقرات حُمر من ولاية تكساس وتعتزم ذبحها في العاشر من نيسان/ أبريل وذر رمادها لتطهير الشعب اليهودي، وفقا لنصوص دينية في التوراة، بما يمنحه شرعية وقداسة اجتياح المسجد الأقصى!

لم يعد السؤال لماذا تخضع أمريكا لإسرائيل، التي تضر أفعالها العلاقات الأمريكية مع العالم الإسلامي وتشكل مخاطر فعلية على مصالحها مع دول هذا العالم؟ بل السؤال كيف يتكيف عقل أمريكا البراغماتي والنفعي مع هذا المنطق الأسطوري اللا منطقي وغير الواقعي والذي يناسب طرائق تفكير ما قبل نشوء الدول الحديثة وشبكات المصالح الهائلة والمترابطة بين أطراف النظام الدولي؟

لو أن السياسة الأمريكية المؤيدة بالمطلق لإسرائيل لاقت مواجهة فعلية من قبل الطرف الآخر جعلت واشنطن تدفع تكاليف كبيرة ثمن هذه السياسات، هل ستستمر أمريكا بها؟ هذا يعني أن العالمين العربي والإسلامي مسؤولان بدرجة كبيرة عن انزياح السياسات الأمريكية إلى اللاعقلانية والمنطق، حيث تجد أمريكا نفسها مرتاحة

الجواب على ذلك يكمن في ازدواجية العقل السياسي الأمريكي وتهافته، إذ إن كثرا من الشخصيات السياسية المرتبطة بعملية صناعة القرار تشكل الأسطورة والعقائد المسيحية مساحة مهمة من بنيتها المعرفية، بما يؤثر على مخرجات تفكيرها، والأمر ليس غريبا، وقد كشفت عنه العديد من الكتب التي كتبها مثقفون أمريكيون، مثل غريس هالسل في كتابها "النبوءة والسياسة"، والتي كشفت عن حجم تأثير الأساطير على سياسات الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريغان الذي لم يكن يمانع في نشوب حرب عالمية نووية (هرمجدون) من أجل التعجيل بعودة المسيح، كما كشف ناحوم غولدمان، رئيس المؤتمر اليهودي، في مذكراته مدى تأثير سردية المظلومية اليهودية على النخبة السياسية الأمريكية وكيف كان يوظفها للحصول على المساعدات والدعم لإسرائيل.

لكن السؤال أيضا: ترى لو أن السياسة الأمريكية المؤيدة بالمطلق لإسرائيل لاقت مواجهة فعلية من قبل الطرف الآخر جعلت واشنطن تدفع تكاليف كبيرة ثمن هذه السياسات، هل ستستمر أمريكا بها؟ هذا يعني أن العالمين العربي والإسلامي مسؤولان بدرجة كبيرة عن انزياح السياسات الأمريكية إلى اللاعقلانية والمنطق، حيث تجد أمريكا نفسها مرتاحة، فمن جهة يمارس ساستها قناعاتهم الأيديولوجية، ومن جهة ثانية مصالحهم تسير على خير ما يرام.. فلماذا تعقلن سياساتها وتفك علاقاتها الشاذة مع المتطرفين الصهاينة؟

twitter.com/ghazidahman1