أفكَار

ماذا وراء استدعاء الأوروبيين للدين في عصر "كورونا"؟

إبراهيم أبو محمد: فيروس كورونا ليس منشئا للدين، وإنما هو مقرر لوجوده ومؤكد لحاجة الناس إليه (عربي21)

لم يقتصر الحديث عن الدين ودوره في فهم ومواجهة وباء كورونا المستجد على العالمين العربي والإسلامي، وإنما تجاوزه إلى مختلف قارات العالم، لا سيما بعد العجز الذي أبداه العلماء في تقديم التفسير العلمي واللقاح الواقي من هذا الوباء.

الدكتور إبراهيم أبو محمد مفتي عام القارة الأسترالية، يكتب خصيصا لـ "عربي21"، عن علاقة أوروبا خصوصا والغرب عامة بالدين من مدخل التعاطي مع وباء كورونا.. ويتساءل عما إذا كان استدعاء الدين في مواجهة كورونة تدشين لمرحلة جديدة في علاقة العالم بالدين.

 

الزعماء يستدعون الدين

بعد انتشار فيروس كورونا في العالم وبخاصة في الولايات المتحدة والغرب عموما (إيطاليا وإسبانيا ثم فرنسا وبريطانيا) شاهد الناس فيديو مصورا برفع آذان الصلوات الخاصة بالمسلمين عبر مكبرات الصوت وقد كان ممنوعا، وردد البعض المثل المعروف "رب ضارة نافعة" بينما سارع كثيرون في نشر وتوزيع فيديو الآذان هذا وكأنه نصر تحقق داخل عواصم أوروبا، مع إضافة بعض المقبلات المعنوية وبعض تحابيش فنية (في تقنية الفيديو) لزوم الحبكة في التأثير والتسويق.
 
ثم عندما حل شهر رمضان تكرم مولانا الإمام الأكبر الشيخ ترامب بتهنئة المسلمين بقدومه وضمن تهنئته درسا في أهمية الصوم والصلاة، وأوصى المسلمين بفعلهما.

ورأى بعض المحللين في العالم أن كرونا قد أعاد اكتشاف الدين وحاجة الناس إليه، وأهمية دوره في الحياة، واستدعاه بشدة بعد غياب طويل، وجعله حاضرا مشهودا في ذاكرة الزعماء والعامة.
 
وهذا الطرح هلل له كثير من المتدينين عموما وسيطرت عليهم نشوة انتصار خادعة، الأمر الذي دفع بعض الشعراء المحترمين، ومنهم الشيخ الفاضل عبد الله كامل في إجراء حوار ـ افتراضي بينه وبين الفيروس ـ نظمه شعرا في قصيدة جميلة تعكس قدرة الرجل وموهبته ليس فقط في قرض الشعر، وإنما في إلقائه أيضا، وضمن أبيات تلك القصيدة جاء قول الشاعر ـ حفظه الله ـ على لسان الفيروس وهو يعرف عن نفسه:

أنا الإنذار من ربي إليكم          بكل لغاتكم لو تفقهون
دخلت قصور أرباب المعالى      فهم بين المخابئ سافلون
وذكرت الطغاة عذاب يوم      عقيم فانبروا يتعقمون
على الطليان والإسبان مني      قذائف تحتها يتساقطون
رفعت بأرض أندلس وروما       أذانا لم يكونوا يأذنون
أذانا فوق أندلس يدوي          أثرت به الشجون سلوا القرون
وشر طغاة أهل الأرض يَهذي    ألا صلوا لنا يا مسلمون

وأشهد أن القصيدة رائعة ومؤثرة للغاية ولم تتحدث عن موقف الغرب فقط من الأزمة، وإنما تحدثت عما أصاب المسلمين وعن غيبتهم عن المشهد وخيبتهم أيضا، كما عبرت عن مشاعر وأمنيات كثيرة وعكست رغبة المسلمين وتشوفهم لانتشار دينهم وانتصاره وبخاصة في الغرب، بعدما عجزوا عن تحقيق هذا النصر في موطنهم الأصلي. 

 

فيروس كورونا لم يكن "مُنْشِئًا " لظاهرة اللجوء إلى الدين في وقت الكروب والشدة، وإنما كان مجرد مقرر لها، فهي موجودة، ووجودها في تكوين الإنسان فطرة، ووجود الفطرة في حياة الإنسان نعمة ورحمة معا..

 


   
حدث الآذان إذًا قد حظي باهتمام حيث روج له المتحمسون لدينهم وطارت به ركبان الفيسبوك  والواتساب والتويتر، وبقية العائلة التكنولوجية المحترمة التي تسابق الريح في السرعة ولم يجاريها في الانتشار غير فيروس "كرونا".
 
فهل صحيح أن أمريكا والغرب تصالحوا مع الدين عموما والإسلام بشكل خاص وقبلوا بوجوده وسمحوا وسيسمحون له بالحضور في أي ميدان خارج المعابد أو في أي مشهد من مشاهد الحياة السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية عن اقتناع ورضى؟ 

سؤال يحتاج في الإجابة عليه بحثا في الأحداث والظواهر، وأجندة مراكز القرار في الغرب وما تحمله من موروث تاريخي تجاه الدين بشكل عام والإسلام بشكل خاص. 

وبالمناسبة الآذان لا يزال ممنوعا ـ والسماح به كان استثناء وقت اشتداد الأزمة وفي ذروة حصاد الوباء لأرواح المئات وأحيانا الآلاف في كل يوم، وكانت الحكومات في أوروبا في ذلك الوقت في أشد الحاجة لأي شيء ينتشل الناس من حضيض اليأس في مواجهة فيروس رأوا بأم أعينهم أن كل أجهزتهم الطبية وغيرها رغم كل ما لديها من إمكانيات وتقدم تكنولوجي عاجزة تماما عن فعل شيء، غير حصر أعداد الضحايا والتخلص من جثثهم.

 

سيذهب الفيروس، وتعود الحياة آمنة بعد خوف، ويعود الناس للتقارب والمصافحة والعناق كما كانوا، وسيذوب جليد الرعب والفزع، لكن الأخطر في الأمر أن يكتشف الناس جبالا من الخداع صنعتها بعض مراكز القرار في العالم، ومعها دوائر المكر السيء، وجندت لها خيال هوليود،

 


 
وأمام هذا العجز سمحت بأي شيء يرفع معنويات الناس ولو كان صوت آذان صلاة المسلمين في مكبرات صوت مساجدهم، ومن ثم فالسماح بالآذان في مكبرات الصوت بعواصم الغرب "لم يكن ظاهرة حتى يخضع للدراسة والتحليل، بدليل أنه لم يتكرر، وإنما الذي يحتاج ـ في نظري ـ إلى مزيد من الدراسة والتحليل هو قضية الدين وحاجة الناس إليه من ناحية، ثم دراسة مجتمعات الغرب وصلتها بالدين من ناحية ثانية، وذلك إذا أردنا أن نجمع أجزاء الصورة المعرفية المبعثرة لطرفي القضية بعيدا عن التهويل والمبالغة وحماس العواطف.

ونعود فنسأل: هل فيروس "كورونا" استدعى الدين للحضور في مشهد الزعامات؟ 

الإجابة: نعم: بدليل هذا الانتشار الواسع لموضوع الآذان ـ تكبير البعض ـ عند سماعه تكبيرا ممزوجا بشعور المشتاق في عصر الهزائم لنشوة نصر ولو كان وهما وخداعا. 

ثم رسالة "ترامب" للمسلمين في بداية رمضان وما تضمنته من توجيه وحث على أهمية الصلاة والصوم، ولا نهمل ما رآه الناس في مصر حين شاهدوا ضراعة الإمام "السيسي"، وهو يردد دعاء الحفظ "المشهور بدعاء أبي الدرداء رضي الله عنه"، وهو دعاء قد حولوه في الإعلام بعدما ورد على لسان الرئيس إلى دعاء مقرر، يتكرر بين الفقرات والفواصل المذاعة في أغلب الفضائيات.

كل ذلك حدث بسبب "كورونا"
 
غير أن فيروس كورونا لم يكن "مُنْشِئًا " لظاهرة اللجوء إلى الدين في وقت الكروب والشدة، وإنما كان مجرد مقرر لها، فهي موجودة، ووجودها في تكوين الإنسان فطرة، ووجود الفطرة في حياة الإنسان نعمة ورحمة معا..

ـ فهي نعمة لأنها البوصلة الحقيقية التي لا تخطئ في الدلالة على خالق هذا الإنسان مهما جادل العقل وكابر.
 
ـ وهي رحمة لأنها في لحظات الخطر الشديد تدرك أنه "لا منجاة ولا منجى منه إلا إليه "، ومن ثم فهي تنحي عقله ونفسه المتكبرة والمتجبرة عن منصة القيادة ثم تتولى هي  بسرعة قيادة هذا الإنسان، لتعيد التوجه إلى الرشد ساعة العسر، لأنها تعلم أنه لا مغيث إلا هو، ولا مجيب إلا هو، وأن كل ادعاءات القوة والنجاة من غير هذا الطريق هباء في هباء، وتضييع للوقت ومجازفة بأغلى ما في الحياة وهو فقدان صدق التوجه الذي يؤدي إلى السقوط والغرق في أسفل درجات الضلال، بينما تعيش الذات البشرية في لحظات الحسم التي لا تحتمل مساومة أو تأخيرا.
 
ونعلم أن هذا التحليل العلمي مستبعد في فلسفة وتصور الرؤية الغربية للحياة، حتى وإن كان واقع الناس والأحداث يشهد به ويشهد له. لذلك نشير إلى مجموعة من الحقائق نجملها في الآتي:
 
1 ـ إن الفيروس ليس منشئا للدين، وإنما هو مقرر لوجوده ومؤكد لحاجة الناس إليه.
  
2 ـ إن استدعاء الدين في أزمة "كورونا" لم يكن استدعاء الشريك المنقذ الذي يحمل حلولا لمشاكل إنسان الحضارة المعاصرة، وإنما كان استدعاء دعت إليه الحاجة في شدة الأزمة ليكون شاهد إثبات ونفي معا.

فهو شاهد إثبات على عجز نظم الحضارة الحديثة المغرورة بقوتها وإمكانياتها، وهو شاهد نفي على الادعاء بأن العلم والمال والتكنولوجيا ضمانات كافية لحماية الحياة وحل مشكلاتها مهما كانت. 

 

ن "فيروس كرونا" شكل درسا في التربية والتهذيب، وكسر غرور المتكبرين والمتجبرين في الأرض، رغم أنه مجرد لدغة مؤلمة، قاتلة نعم في بعض الأحيان، لكنها أيقظت غفاة البشر وكسرت غرور العتاة والجبابرة الكبار، وفضحت عجزهم

 



والفضل في النفي والإثبات هنا ليس للدين، وإنما هو للفيروس "كورونا" الذي اجتاح الحواضر والبوادي ودخل بغير إذن أو تأشيرة في المكان الذي يريده ويستهدفه، وأجبر الناس على الدخول في حبس العزلة الانفرادية وعلي التباعد واختراع طرق للقاء عن بعد، كما اخترعوا تحية خاصة تتم بالإشارة فقط، وتخلو من حرارة المصافحة والعناق والقبلات المصطنعة، التي تذكرنا بلقاءات الزعماء وقبلاتهم المزيفة الفارغة.

3 ـ إن "فيروس كرونا" شكل درسا في التربية والتهذيب، وكسر غرور المتكبرين والمتجبرين في الأرض، رغم أنه مجرد لدغة مؤلمة، قاتلة نعم في بعض الأحيان، لكنها أيقظت غفاة البشر وكسرت غرور العتاة والجبابرة الكبار، وفضحت عجزهم، وحجزتهم في بيت الطاعة وكأنهم إماء وقعن في ملك يمين وقد شذذن عن طاعة سيدهن فجلبهن جلبا بقوة القانون..... ولا كرامة. بصرف النظر عن كونه خرج عن السيطرة بإرادتهم أو بغير إرادتهم. 

سيذهب الفيروس، وتعود الحياة آمنة بعد خوف، ويعود الناس للتقارب والمصافحة والعناق كما كانوا، وسيذوب جليد الرعب والفزع، لكن الأخطر في الأمر أن يكتشف الناس جبالا من الخداع صنعتها بعض مراكز القرار في العالم، ومعها دوائر المكر السيئ، وجندت لها خيال هوليود، وأخطر منظومات الحرب البيولوجية، وسيتكشف العالم أنه ـ وفي ظل حضارة بلا قيم ـ محكوم بأخطر عصابات العصر الحديث شرا وجنونا.

وحتما ستعود "ريمة" لعادتها القديمة فتستغني عن خدمات الدين والتدين وستطلب منه أن يرحل ويحل عنها إن لم يستأذن هو في الانصراف والعودة.