قضايا وآراء

نووي إيران ومعادلة أوروبية جديدة

1300x600

الزيارة التي أجراها منسق السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي، جوزيف بوريل، لطهران في الثالث من الشهر الجاري، اكتسبت أهمية في توقيتها، حيث أنها كانت أول زيارة لبوريل، المدافع الشرس عن الاتفاق النووي، منذ توليه المنصب في كانون الأول (ديسمبر) الماضي، كما أنها أول زيارة لمنسق السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي منذ الانسحاب الأمريكي من الاتفاق قبل نحو عامين في الثامن من أيار/مايو 2018، والذي أدخل الصفقة النووية بين إيران والمجموعة السداسية الدولية في مسار الانهيار، محوّلا الاتفاق إلى عنوان خلاف، يضاف إلى قائمة الملفات الخلافية المتشعبة بين إيران والغرب، بعدما كان محل اجماع لحظة التوقيع عليه عام 2015 حتى مطلع عام 2017، حينما تربع دونالد ترامب على سدة الرئاسة. 

 

انهيار الاتفاق النووي مع إيران

ومنذ ذلك التاريخ، شهد الاتفاق النووي تطورات ساخنة، أدت إلى انهيار العمودين اللذين بني الاتفاق عليهما، أي رفع العقوبات على إيران، والتي أعادتها واشنطن كلها وبشكل أكثر شدة من قبل، لتستهدف كافة مفاصل الاقتصاد الإيراني، والعمود الثاني هو التعهدات النووية الإيرانية، التي واصلت طهران تقليص تعهداتها، لتنهي العمل بكافة القيود "العملياتية" المنصوص عليها بالاتفاق، بعدما اتخذت الخطوة الخامسة والأخيرة لخفض تعهداها، في الخامس من الشهر الماضي.

كما أشعلت هذه التطورات توترا بين طهران والأطراف الأوروبية المشاركة في الاتفاق النووي، أي فرنسا وألمانيا وبريطانيا، بالإضافة إلى تنسيقية السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي، على خلفية الموقف من تنفيذ الاتفاق، ليتصاعد هذا التوتر خلال الفترة الأخيرة، بعد قيام طهران بتنفيذ المرحلة الأخيرة من خفض تعهداتها النووية، ردا على المماطلات الأوروبية في الحد من تداعيات الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي بالوقوف في وجه العقوبات الشاملة، وردّ الدول الثلاثة على الإجراء الإيراني بالإعلان عن اتخاذ قرار تفعيل آلية "فض النزاع" في الرابع عشر من الشهر السابق، في خطوة من شأنها أن تعيد الملف النووي الإيراني إلى أروقة مجلس الأمن. 

كما أن الأطراف الأوروبية ذاتها، أظهرت خلال الشهرين الأخيرين مسايرة عملية للسياسات الأمريكية تجاه إيران، بشكل أكثر صراحة من قبل، لتدعو إلى استبدال الاتفاق النووي بما سمّاه رئيس وزراء البريطاني، بوريس جونسون، الشهر الماضي، بـ"اتفاق ترامب"، أي اتفاق شامل، ينشده الرئيس الأمريكي، ليطاول كافة ملفات الخلاف بينها وبين الغرب بحسب شروطه. 

 

أوروبا وإيران


تحت ضغط كل هذه المعطيات، جاءت زيارة منسق السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي إلى إيران، لبحث تطورات الاتفاق النووي وسبل إنقاذه، لكن عند متابعة تصريحات بوريل والمسؤولين الإيرانيين اللذين التقى بهم، ورغم المزيد من التأكيد المتبادل على أهميته وضرورة الحفاظ عليه، يتضح لنا أن الزيارة لم تحمل جديدا على صعيد إنقاذ الاتفاق، المنهار أساسا، حيث أصبح ذلك أمرا شبه مستحيل إن لم يكن مستحيلا بالكامل، لأن الاتحاد الأوروبي لا يملك المفتاح في هذا الصدد، كونه بيد الإدارة الأمريكية دون غيرها، وهي غير معنية بالأساس بكل هذه التحركات والزيارات وتصر على مواصلة الضغوط القصوى على طهران بغية التوصل إلى اتفاق جديد معها وترفض منح أي تنازل في مجال العقوبات بما تشجع به أوروبا الطرف الإيراني لتنفيذ الاتفاق النووي. والأخير أيضا من جهته، يرفض العمل بهذا الاتفاق من طرف واحد. 

وحتى رفضت واشنطن السماح للأطراف الأوروبية المشاركة في الاتفاق النووي بتفعيل قناتها المالية "إنستكس" لتوريد سلع إنسانية إلى طهران، ناهيكم بأن تسمح لها بشراء النفط الإيراني وتسهيل المعاملات المالية والبنكية، بغية حرمان أوروبا من أي دور ومناورة بشأن الاتفاق، بينما سمحت الإدارة الأمريكية لسويسرا بفتح "قناة مالية إنسانية".

 

إن تأكيد أوروبا على تأجيل تفعيل آلية فض النزاع يعني بشكل أو آخر، أنها ترى في الإبقاء على هذا الوضع، مصلحة، في ظل عجزها في الدفع باتجاه العودة إلى تنفيذ الاتفاق النووي


هذا الواقع، تعرفه أوروبا جيدا، لذلك ركزت جهودها خلال الشهور الأخيرة على دفع إيران باتجاه العودة لتنفيذ الاتفاق النووي من جانب واحد، تحت طائلة التهديد بتفعيل آلية "فض النزاع"، لكن في ظل الرفض الإيراني "القاطع" العودة إلى هذه المعادلة، التي نفذتها لعام كامل، فتشي تصريحات بوريل بعد زيارته لطهران، وتأكيده على تأجيل البدء بإجراءات تفعيل هذه الآلية إلى أجل غير مسمى، أن الطرف الأوروبي يتجه نحو معادلة جديدة حول الاتفاق النووي، أكده رئيس مكتب الرئيس الإيراني، محمود واعظي، بالقول إن طهران توصلت إلى قناعة خلال المباحثات مع بوريل أن الأطراف الأوروبية "لن تفعّل آلية فض النزاع". 

أما المعادلة الجديدة التي تفكّر بها هذه الأطراف على ما يبدو، فهي تجنب تفعيل الآلية مقابل أن تبقى الخطوات الإيرانية النووية عند ما هي عليه اليوم وعدم تخطيها ذلك، إذ أن طهران على الرغم من إنهاء القيود على برنامجها النووي، المفروضة عليه بموجب الاتفاق النووي، إلا أنها تحمل في جعبتها الكثير في هذا الصدد، لم تستخدمه، مما أبقى خطواتها على المستوى العملي بعيدة جدا عما كان في مرحلة ما قبل الاتفاق، فعلى سبيل المثال، فإن مستوى تخصيب اليورانيوم اليوم 5 في المائة، رغم تجاوزه نسبة 3.67 في المائة، المنصوص عليه بالاتفاق، بينما كان قبله 20 في المائة. والحال نفسه بالنسبة لعدد أجهزة الطرد المركزي. 

 

العلاقة مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية

كما أن الرقابة "الصارمة" للوكالة الدولية للطاقة الذرية والتعاون الإيراني في هذا الخصوص، لم يطرأ عليها أي تغيير، وهي مستمرة، والخطوات الإيرانية لم تطاول هذه الرقابة بعد. 

بالتالي فإن تأكيد أوروبا على تأجيل تفعيل آلية فض النزاع يعني بشكل أو آخر، أنها ترى في الإبقاء على هذا الوضع، مصلحة، في ظل عجزها في الدفع باتجاه العودة إلى تنفيذ الاتفاق النووي، لأن تفعيل الآلية بما يعيد الملف النووي إلى مجلس الأمن ومعه يعاد فرض العقوبات الأممية على طهران، سيقابل بردود فعل إيرانية قوية، كما تهدد السلطات، تبدأ بإعادة الوضعية كاملة إلى مرحلة ما قبل التوقيع على الاتفاق النووي، وإنهاء الرقابة الأممية على برنامجها النووي، من ثم تستكمل بالانسحاب من معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية وخطوات أخرى. 

وهنا قد يسأل القارئ عن سرّ إعلان أوروبا عن قرارها بتفعيل هذه الآلية، ومن ثم تأجيل خطواتها في هذا الاتجاه. 

الإجابة واضحة، وهي أنها تحاول استخدام ذلك كورقة لمنع طهران من الذهاب أبعد في خطواتها بعد الفشل في إجبارها على العودة إلى تنفيذ كامل الاتفاق النووي. والتصريحات الإيرانية أيضا تشي بأن طهران التي لم تنجح خطواتها في تقليص التعهدات في إرغام أوروبا على تنفيذ التزاماتها الاقتصادية، من جانبها، ليست بصدد الذهاب باتجاه تصعيد خطواتها أكثر من ذلك في الوقت الراهن، لكن ليس في سياق المعادلة الجديدة التي تريد أوروبا التأسيس لها على ما يبدو من خلال ورقة آلية حل النزاع، بل لعدم الرغبة في التصعيد مع أوروبا في ظل التوتر المتصاعد مع واشنطن، إلا اذا الأطراف الأوروبية ذهبت بعيدا في المسايرة للسياسات والضغوط الأمريكية تجاهها. 

وأخيرا، ما يمكن قوله حول مستقبل هذه المعادلة، أنها قد لا تدوم إلا بعض الوقت، لأن مقومات نجاحها هي الأضعف أمام عوامل فشلها.