كتب

سردية "مسادا" ومكانتها في التعبئة الصهيونية.. قراءة في كتاب

جاءت "عقدة مسادا" عبر إشاعة شعور التحصن داخل القلعة "إسرائيل" أمام الموت الوشيك الذي يقترب وليس هناك وسيلة للخروج..
جاءت "عقدة مسادا" عبر إشاعة شعور التحصن داخل القلعة "إسرائيل" أمام الموت الوشيك الذي يقترب وليس هناك وسيلة للخروج..
يمثل التاريخ بكل مكوناته مدخلا مهما في فهم الواقع واستشراف المستقبل، ويكون الأمر أكثر أهمية إذا تعلق بمصائر الأمم والشعوب، كما هو الحال في فهم تاريخ الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي العصي عن الحل.

ضمن هذا الإطار، يأتي كتاب "سردية مسادا.. ومكانتها في التعبئة الصهيونية: دراسة حالة في الوعي الزائف"، للباحث الفلسطيني إبراهيم عبد الكريم، (منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 2018).

تتعلق سردية مسادا بقصة منسوبة لجماعة يهودية، وصفت بأنها لجأت إلى قلعة مسعدة، جنوب غرب البحر الميت، عام 66 ميلادي، وبقيت فيها نحو سبعة أعوام، وحاصرها الجنود الرومان نحو أربعة أشهر، فرفضت الاستسلام، وأقدمت تلك الجماعة على الانتحار الجماعي.

كما تتعلق هذه السردية بكميات ضخمة من الكتابات عنها وعن التنقيبات الأثرية التي أجريت في تلك القلعة، فضلا عن النتاجات المتعددة التي ظهرت بشأن التوظيف الصهيوني لها في مجالات التنشئة والدعاية والسياسة وسواها.

يتضمن أقسام الكتاب عرض "معلومات وتحليلات ورؤى موثقة، كما وردت في النصوص الأصلية، وما يرتبط بها من إضافات  وشروح وتعليقات".

يقدم المؤلف في الفصل الأول "قلعة مسعدة، مسادا .. المشهد العام والمخيال اليهودي"، معلومات عن القلعة، وعن سردية مسادا (في المصادر اليهودية ـ الصهيونية ـ الإسرائيلية)، وفق المصدر الأصلي الذي قدّم قصة مسادا للمرة الأولى، والإضافات والنتائج الموضوعة للحفريات في القلعة، ومعلومات عن أبرز الأشخاص الذين ارتبطت أسماؤهم بسردية مسادا.

يؤكد الباحث أن سردية مسادا لم ترد "في أي مصدر تاريخي للقرون الأولى قبل الميلاد، وورد ذكرها في مصدر وحيد هو كتابات يوسفيوس فلافيوس". و"من الملاحظ أن المرويات اليهودية لم تركز سوى على مسادا من أصل ثلاث قلاع، شكلت ــ حسب  هذه المرويات ـ القلاع الأخيرة التي التجأ إليها اليهود". و"ارتبطت أسماء شخصيات عدة بسردية مسادا. وخلال القرنين الأخيرين، جرت عمليات استكشاف وتنقيب وحفريات في القلعة، على خلفية هذه السردية، ووضعت نتائج لهذه العمليات عُنيت بإثبات المرويات اليهودية".

يتطرق المؤلف في الفصل الثاني "مسادا.. السارد والسردية في منظور انتقادي"، إلى "عدد كبير نسبيّا من النتاجات التي نشرها باحثون وكتاب يهود ـ أساسا ـ بشأن تفكيك شخصية سارد مسادا وسرديته، وكشف عمليات التلاعب بالتاريخ والمفاهيم والعقل، التي اقترفتها الكتابات ـ الصهيونية ـ الإسرائيلية".

وخلاصة الباحث: "هناك مَيْل لدى العديد من الباحثين إلى عدم قبول سردية مسادا بأنها حقيقة، بل يجب إخضاعها للفحص والنقد، كما يتعين فحص مصداقية الدوافع التي تساق لتبرير انتحار السيكاري". ويشير إلى "التوظيف السياسي لسردية مسادا على يد الأوساط الصهيونية العلمانية". ويرفض الباحث القول بأن ما حدث في مسادا هو "تضحية"، و"بطولة"؛ لأن السردية تتحدث عن قرار قائد المحاصرين أليعازر بن يائير بقتل المحاصرين بعضهم بعضا.

"أسهمت قصيدة مسادا في تحويل مجموعة متعصبين متطرفين إلى قصة بطولة تحتل مركز الأسطورة الصهيونية. وشكلت القصيدة مصدر تحريض كبير للحالوتسيم والمقاتلين الصهاينة، قبل إقامة الدولة، وليهود أوروبا في الحقبة النازية. فاستُقبلت بحماس وتعاطف كبيرين، بسبب الإحساس بأنها تعبّر في صور مختلفة عن الواقع والوعى الشعبي لليهود في البلاد والشتات".
يركز الباحث في الفصل الثالث "توظيف سردية مسادا في التعبئة الصهيونية.. الأداء ــ الاعتبارات ــ النتائج"، على قيام الصهيونية و"إسرائيل" بزجّ سردية مسادا على جبهة الصراع مع العرب، عبر تجنيد مؤسساتهما الإعلامية والدعائية والثقافية، وعملية التنشئة الاجتماعية والسياسية والدينية، وآليات التلقين الجمعي، ومختلف أشكال الفنون والآداب، وتراكمية الخبرات الذاتية والمجتمعية، لتكوين حصيلة منهجية خاصة، مؤطّرة بأهداف المشروع الصهيوني، لاستجرار استجابات تتيح مواصلة الصراع، والتطلع إلى الانتصار فيه لفرض المشيئة الصهيونية".

في هذا السياق، جاءت "عقدة مسادا" عبر إشاعة شعور التحصن داخل القلعة "إسرائيل"، أمام الموت الوشيك الذي يقترب وليس هناك وسيلة للخروج، وخلال ذلك عمدت الصهيونية و"إسرائيل" إلى معالجة حالة الضحية، عبر المبالغة في استعمال فكرة معاكسة هي التضحية، بصورة مترافقة مع الإفراط في تمجيد مسادا. لذا، ظلت مؤسسات التنشئة الصهيونية، المدنية والعسكرية، تحرص على محاولة إبقاء فكرة التضحية ودورها في عملية التعبئة تحت السيطرة، بالتشديد على معنى الوجود ومغزى الحياة بالنسبة لهم، وهو ما تجلى في بعض أوجه السلوك في المواجهات والحروب.

يتناول المؤلف في الفصل الرابع "مسادا/ ملحمة يتسحاق لمدان الشعرية والمشروع الصهيوني.. السياق ــ البنية ــ الدور"، سياق ظهور "هذه القصيدة والمكانة الخاصة الفريدة التي تبوأتها في مسار العمل الصهيوني، وبنيتها ودورها الفريد ونقدها، وتحليل ما يتعلق بها من معان ودلالات، ارتباطا بموضوع سردية مسادا ومكانتها في التعبئة الصهيونية".

يرى الباحث أن قصيدة مسادا عبّرت عن "بعض موضوعات التاريخ اليهودي، وعن المشكلات الصعبة التي تعرّض لها اليهود، وخاصة منذ الحرب العالمية الأولى، في العالم وفي الاستيطان اليهودي في فلسطين. وقد خصص لمدان قسما كبيرا في القصيدة للمذابح الكثيرة التي وقعت  في أوروبا الشرقية، كما وصف فيها المصاعب التي اصطدم بها أبناء الهجرة الثالثة إلى فلسطين، وحالة الرعب التي يعيشها أبناء جيله، وتطلعهم إلى مستقبل جديد". فقد "أسهمت قصيدة مسادا في تحويل مجموعة متعصبين متطرفين إلى قصة بطولة تحتل مركز الأسطورة الصهيونية. وشكلت القصيدة مصدر تحريض كبير للحالوتسيم والمقاتلين الصهاينة، قبل إقامة الدولة، وليهود أوروبا في الحقبة النازية. فاستُقبلت بحماس وتعاطف كبيرين، بسبب الإحساس بأنها تعبّر في صور مختلفة عن الواقع والوعى الشعبي لليهود في البلاد والشتات".

وينتهي الكتاب إلى أن الرواية الأسطورية لـ "مسّادا"، كما يعرفها "الإسرائيليون" وغيرهم، هي أقرب للأسطورة والخيال منها إلى الحقيقة التاريخية.

*مؤرخ فلسطيني
التعليقات (0)
الأكثر قراءة اليوم