كتب

أهل السنة والجماعة.. المفهوم والنشأة والظهور.. قراءة مغايرة (1من2)

يرصد المؤلف بصبر ودأب تشكل المذاهب الفقهية الكبرى، مشيرا إلى أنها كانت أكثر من الأربعة المشهورين: مالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل..
يرصد المؤلف بصبر ودأب تشكل المذاهب الفقهية الكبرى، مشيرا إلى أنها كانت أكثر من الأربعة المشهورين: مالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل..
هذا الكتاب من تلك النوعية النادرة من الأبحاث الصبورة التي غابت عن المكتبة العربية منذ أواسط القرن العشرين الميلادي، حيث انتهت موجة أبحاث شيوخ الاستشراق المعاصر وأئمته: جولد زيهر، ومونتجمري وات، وبروكلمان، وغيرهم، فالجهد المبذول في بحث "بشير نافع" يندر أن تجده في أي بحث عربي يتعلق بتاريخ الاجتماع السياسي والديني في العالم الإسلامي بهذا الاستقصاء والشمول والدقة في اعتماد مصادره، والتي وصل إثبات عناوينها وأسماء مؤلفيها إلى حوالي خمس وثلاثين صفحة في نهاية الكتاب .

لذلك فكتاب "أهل السنة والجماعة.. مقالة في النشأة والظهور" من الكتب التي لا تقرؤها ثم تحتفظ بها في خزانة مكتبتك، وإنما ستحتاج إلى وضعه بصفة دائمة على مقربة من يدك، لأنك ستحتاج إلى العودة إليه بصفة مستمرة كلما عرضت لك فكرة أو حادثة أو فرقة أو إمارة أو خلافة أو شخص أو معركة على امتداد التاريخ الإسلامي منذ القرن الأول وحتى نهاية القرن الخامس الهجري .

يتعلق بحث "بشير نافع" برصد ميلاد تيار "أهل السنة والجماعة" في تاريخ الاجتماع الإسلامي، وهو يسجل منذ البداية ملاحظة شديدة الأهمية وهي أن أهل السنة والجماعة لم يمثلوا فرقة من الفرق، أو طائفة من الطوائف، وإنما "تيار الإسلام الرئيس وتعبيره الأهم والأكبر، وسواد المسلمين الأعظم".

في مدخل بحثه يعالج المؤلف تشككات ما بعد الحداثيين وما بعد البنيويين في إمكانية التعرف على الحقيقة التاريخية، ووصف توجههم ـ بحق ـ بأنه نوع من العدمية التأريخية، ونقضها نقضا علميا رصينا، قبل أن يباغتها بالسؤال عن "الهو لو كوست" وهل يمكن أن تنطبق عليه أيضا فرضية أن "السعي إلى التعرف على الحقيقة التاريخية هو ضرب من العبث"؟!، وهو سؤال قاصم للظهر خاصة في السياق الغربي الحالي، ليخلص بشير إلى تحديد مفهوم "أهل السنة والجماعة" فيقول: "ليسوا أولئك العلماء الذين وصفوا منذ نهاية القرن الهجري الأول وبداية الثاني بأصحاب سنة وجماعة، أو عموم المسلمين الذين اتبعوا هؤلاء العلماء في القرون التالية وباتوا يمثلون سواد المسلمين الأعظم، ولكن أيضا مجموعة الأقوال والمعتقدات والمواقف والأعمال التي صدرت عن أهل السنة والجماعة وصنعت هويتهم، علماء أو زهادا أو أدباء أو عامة أو قادة أو حكاما أو أمراء" وينفي هنا رؤية "ميشيل فوكو" عن أن الخطاب السني كان تعبيرا عن علاقات قوة، مستندة إلى سلطة سياسية، وهو ما فنده باقتدار بعد ذلك بتفاصيل مهمة جدا تكشف أن الاجتماع السني كان أقوى من مقام الخليفة نفسه، وكان يجبره على التماهي مع "السواد الأعظم" من المسلمين، باستثناءات قليلة كما حدث مع الخليفة العباسي المأمون.

قسم المؤلف كتابه على تمهيد وثمانية فصول، أولها مقدمة نظرية لبحثه، وثامنها خاتمة أو ما أسماها "على سبيل الخاتمة" لخص فيها رؤيته وانطباعاته والسياقات التاريخية التي تجلت من هذا الرصد الواسع، وباقي الفصول لمادة الكتاب الأساسية.

الصعود والانتشار الواسع لمدرسة المتكلمين الكبار مثل الأشعري والماتريدي، لم يخصم من انتشار "مدرسة الحديث" ودفاعهم عن رؤيتهم لتأصيل قواعد الاعتقاد مستندين إلى نصوص القرآن والسنة دون احتياج لعلم الكلام، واستعرض هنا أعمال نماذج لهذه المدرسة مثل ابن قتيبة الدينوري، وابن خزيمة، وأبي بكر الخلال، وابن بطة، واللالكائي.
يبسط بشير نافع مساحة واسعة من مدخل بحثه لاستعراض نشأة مصطلح "السنة والجماعة" منذ نهاية ما أسماه "خلافة المدينة" ـ الراشدون الأربعة ـ وحتى بدايات القرن الهجري الثاني، ويجلي سبب ظهور المصطلح لأسباب تعود إلى الفتنة الكبرى ثم توالي حركات الخروج والثورة على الحكم الأموي، من الحسين بن علي رضوان الله عليه ثم عبد الله بن الزبير وزيد بن علي والمختار الثقفي وعبد الرحمن ابن الأشعث وغيرهم، وما تولد عن هذه الحركات من انقسامات هددت "وجود" الأمة ذاتها، ووحدتها، واستنزفت الكثير من الدماء ـ بما فيها دماء علماء وصحابة وتابعين ـ الأمر الذي جعل فكرة "الجماعة" حاضرة وأولوية ملحة، وكذلك ما تولد عن هذه التصدعات من أفكار توالدت وتكاثرت ثم انتشر الغلو فيها الأمر الذي استدعى العودة إلى "سنة النبي" الكريم كمرجعية حافظة لنهجه وهديه، وبعد أن استعرض المؤلف أسماء رموز هذا الميلاد لنزعة حماية "الجماعة" و"السنة" يخلص إلى القول بأن "أهل السنة والجماعة لم ينشأوا من كتلة عقدية أو سياسية مصمتة، صحيح أن مشتركات عظمى جمعت بين علماء أهل السنة المبكرين، ولكن الصحيح أيضا أن مواقفهم السياسية وتصوراتهم لمسائل الدين الكبرى، وسبل دفاعهم عن هذه المواقف والتصورات، لم تخل من قدر من التنوع والاختلاف، وهذا ما أوقع شيئا من الاضطراب في تصنيفات كتب الفرق والسير الإسلامية لكثير من هؤلاء العلماء" .

معمار البحث قام على رصد ميلاد وتطور حضور أهل السنة والجماعة في أربعة فضاءات عقد لكل منهم فصلا من الكتاب: الفضاء العقدي الكلامي، والفضاء الفقهي العلمائي، والفضاء الصوفي، والفضاء السياسي في مرحلة الدولة المركزية ومرحلة ضعف الدولة وظهور إمارات ودويلات على أطرافها أو جوانبها.

في الفصل الثالث، يرى المؤلف أن أهل السنة والجماعة لم يقتحموا مجال "علم الكلام" ـ الجدل العقلي في قضايا الاعتقاد ـ إلا مضطرين، خاصة بعد ما جرى في محنة خلق القرآن والاستعلاء الذي مارسته بعض الفرق مستعينة بقوة السلطان، وهو ما سمح بظهور أربعة من أعمدة الكلام عند أهل السنة والجماعة في القرن الرابع الهجري: أبو الحسن الأشعري، وأبو جعفر الطحاوي، وأبو منصور الماتريدي ، وأبو القاسم السمرقندي، حيث يفرد لكل منهم مساحة كافية من الصفحات المترعة بالنقول والمراجع، أيضا يلاحظ المؤلف أن مدرسة الأشعري الكلامية امتدت عبر مذاهب فقهية سنية عديدة، خاصة الشافعية والمالكية، ورصد جهود عدد من تلاميذه مثل: أبي بكر الباقلاني، وابن فورك، وأبي أسحاق الاسفراييني، والقشيري، وإمام الحرمين الجويني، وصولا إلى أبي حامد الغزالي، مستعرضا مؤلفاتهم الكلامية ونصوصا وافية تعبر عن المعالم الأساسية لطروحاتهم وأفكارهم .

ويلمح المؤلف إلى أن الصعود والانتشار الواسع لمدرسة المتكلمين الكبار مثل الأشعري والماتريدي، لم يخصم من انتشار "مدرسة الحديث" ودفاعهم عن رؤيتهم لتأصيل قواعد الاعتقاد مستندين إلى نصوص القرآن والسنة دون احتياج لعلم الكلام، واستعرض هنا أعمال نماذج لهذه المدرسة مثل ابن قتيبة الدينوري، وابن خزيمة، وأبي بكر الخلال، وابن بطة، واللالكائي.

ويشير الباحث إلى أنه منذ انحسار حركة الاعتزال في القرن الخامس الهجري، بسطت الأشعرية والماتريدية هيمنتها على مراكز التعليم السني الرئيسية في فاس والقيروان والقاهرة وإسطنبول ومدن الهند ووسط آسيا والأناضول، ولم يتوقف تمددها إلا بظهور القطب الحنبلي الكبير شيخ الإسلام ابن تيمية في القرن الثامن، وعلى الرغم من الظهور الجديد لمدرسة الحديث عبر التيار السلفي الوهابي في الجزيرة العربية في القرنين الثاني عشر والثالث عشر، إلا أن الغلبة في صفوف علماء أهل السنة والجماعة ظلت للأشعرية والماتريدية، غير أن المؤلف يؤكد أنه "من الصعب، على صعيد المذاهب الكلامية، القول إن اعتقادا إسلاميا ما كان عقلانيا خالصا، بالمعنى الفلسفي للعقلانية لكافة المتكلمين المسلمين، بما في ذلك المعتزلة، ظل الإيمان بالوحي والغيب واليوم الآخر أصلا لا حياد عنه".

المذاهب الفقهية كانت جغرافية في القرن الأول الهجري، حسب وجود المميزين في فقه الشريعة من الصحابة أو التابعين، فكانت هناك مدرسة المدينة، ومدرسة الكوفة، ومدرسة البصرة، والمدرسة المكية، ثم مدرسة دمشق والمدرسة المصرية
في الفصل الثاني، يستعرض المؤلف نشأة المدارس الفقهية عند أهل السنة، وفي تنبيه لطيف، يشير إلى أن المذاهب الفقهية كانت جغرافية في القرن الأول الهجري، حسب وجود المميزين في فقه الشريعة من الصحابة أو التابعين، فكانت هناك مدرسة المدينة، ومدرسة الكوفة، ومدرسة البصرة، والمدرسة المكية، ثم مدرسة دمشق والمدرسة المصرية، ويستعرض المؤلف أعلام تلك المدارس الفقهية في كل مدينة من حواضر الإسلام وقتها، من صحابة وتابعين وتابعيهم وحتى خلفاء عرفوا بالفقه مثل عبد الملك بن مروان، وعمر بن عبد العزيز .

ثم يرصد المؤلف بصبر ودأب تشكل المذاهب الفقهية الكبرى، مشيرا إلى أنها كانت أكثر من الأربعة المشهورين: مالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل، فقد كان هناك مذهب للأوزاعي والليث بن سعد وسفيان الثوري وداود الظاهري وابن جرير الطبري، غير أنهم تلاشوا عبر حقب التاريخ التالية، وبقيت المدارس الأربعة الكبرى ممثلة لروح التشريع الإسلامي، ويلفت المؤلف إلى أن ظهور مدرسة الرأي في الفقه الإسلامي، وتبلورها عبر مدرسة أبي حنيفة، يعود بالأساس إلى اتساع رقعة الفتوحات الإسلامية ووصولها إلى الهند شرقا، وتوالي حادثات ومواقف وصيغ اجتماعية لم يعهد المسلمون مثلها، ولم يجد الفقهاء نصوصا تقابلها أو تكفي وحدها لتفسيرها، فاستدعى الأمر إعمال القياس والمصالح المرسلة وغيرها، ويرصد المؤلف أن المذاهب الفقهية السنية الأربعة الكبرى لم تشكل قطيعة علمية مع ما قبلها، بل كانت بلورة لميراث علمي سابق وتراكم واتصال للخبرة الفقهية، وهو في أثناء ذلك يشتبك في جدل مع مراجع استشراقية مختلفة كانت تفرض رؤاها الأيديولوجية ـ قسرا ـ على التطور التاريخي لمدارس الفقه السنية .

وعلى الرغم من التباين في اجتهادات المذاهب السنية الأربعة إلا أنه ـ بحسب المؤلف ـ "باستناد الفقه إلى حجية الكتاب وسنة النبي، وضرورة اللجوء إلى قدر من الرأي المنضبط، اكتسبت المذاهب الفقهية مسوغ الشرعية وأداة الاعتدال، راسمة بذلك صورة سواد المسلمين الأعظم، أهل السنة والجماعة، لأنفسهم، ومرسية أسس اجماعهم وحدود هذا الإجماع في الوقت نفسه، وبذلك تماهت الهوية السنية بالهوية المذهبية للمذاهب الأربعة".
التعليقات (0)