كتاب عربي 21

عندما تكون الديمقراطية أكثر تعقيدا من الاستبداد

1300x600
حكم المجتمعات وإدارة شؤونها فن صعب ومعقد. وكلما جنحت قوى التغيير نحو إخضاع النظام السياسي للقواعد والآليات الديمقراطية، برزت صعوبات جديدة وأحيانا قد تكون غير منتظرة.

وقد كشفت التجربة التونسية أن الديمقراطية أصعب بكثير من بناء أنظمة مستبدة. فالمستبد في حاجة لترسيخ حكمه وديمومته إلى دعم الجيش والأجهزة الأمنية والإعلامية وجزء حيوي من رجال الأعمال، الى جانب أطراف خارجية لها مصالح أساسية داخل ذلك البلد، وتعتقد بأن سلطة قوية وقامعة ستكون أقدر على ضمان الاستقرار السياسي ومنع الاحتجاج.

أما بناء نظام ديمقراطي فهو يحتاج إلى مؤسسات ومسار مختلف ويتطلب شروطا مغايرة ومركبة. هو نظام له قواعد شديدة التعقيد لاكتساب الشرعية والتحكم في الأوضاع العامة وتحقيق التوازن بين مختلف الأطراف والمصالح.

يمكن القول بأن التجربة التونسية مثال واضح على ذلك، وأن حكومة يوسف الشاهد تشكل حالة صالحة لفهم بعض الإشكاليات التي تترتب عند المجازفة بتحقيق نقلة نوعية في النظام السياسي وتحويله من بنية استبدادية قائمة على الحكم الفردي إلى منظومة مفتوحة وتشاركية، سواء في تحقيق التداول السلمي على السلطة، أم في صنع السياسات ومراقبتها وتنفيذها.

ليس من باب التضخيم القول بأن رئيس الحكومة التونسية يسعى إلى تحقيق "مهمة تكاد توصف بكونها مستحيلة"، أو هكذا يبدو.

فالرجل ورث وضعا معقدا واقتصادا شبه مشلول. حصل ذلك بعد توالي ست حكومات تعاقبت طيلة خمس سنوات ونصف، تغيرت خلالها الوجوه دون أن تتغير السياسات والنتائج.

المطلوب من الحكومة الحالية التي تشكلت من خمسة أحزاب، هو أن تسد ثغرة مخيفة في ميزانية الدولة حتى تحول دون حصول انهيار اقتصادي كبير سيؤدي بالبلاد إلى الوقوع تحت الوصاية الدولية.

ولسد هذه الثغرة اعتمد يوسف الشاهد على عديد الإجراءات من بينها إجراءات لها علاقة بمراجعة بعض الجوانب الضريبية، وهو ما سبق أن حاول رئيس الحكومة السابق الحبيب الصيد القيام به دون أن يحقق نتائج ملموسة. 

وكانت ضربة البداية مع محاولة مراجعة طريقة حساب دخل الأطباء. اعتبرت الحكومتان السابقة والحالية أن ما يدفعه الأطباء ضريبة لا ينسجم مطلقا مع حجم الدخل الذي يتمتعون به.

وبناء عليه، اقترحت إجراء جديدا يتمثل في محاولة وضع آلية لضبط عدد المرضى الذين يتولى كل طبيب فحصهم يوميا.

وبذلك، يعرف دخل الطبيب وهو ما من شأنه أن يساعد على تحديد ضريبة عادلة. رفض الأطباء بمختلف اختصاصاتهم هذا الإجراء، وقرروا عدم تنفيذه مستندين في ذلك على عديد المبررات.

بعد ذلك جاء دور المحامين الذين "تمردوا" بدورهم على الحكومتين السابقة والراهنة. وعندما ذكر وزير العلاقة مع الهيئات الدستورية والمجتمع المدني وحقوق الإنسان أن من لا يدفع الضريبة ويخفي دخله يعد سارقا، قررت عمادة المحامين تقديم شكوى للقضاء ضد هذا الوزير.

اليوم، يحاول رئيس الحكومة إقناع أكبر منظمة نقابية في تونس، وهي الاتحاد العام التونسي للشغل، بضرورة تحقيق هدنة اجتماعية، واقترح في هذا السياق تأجيل الزيادات المقررة في الأجور لمدة سنتين، وذلك حتى تتمكن البلاد من استرجاع أنفاسها والعمل على تحريك الدورة الاقتصادية وتوفير فرصة لكسب ثقة المستثمرين التونسيين والأجانب.

لكن بعد نقاش طويل، أعلن اتحاد الشغل رفض مقترح الحكومة، ودعاها إلى الضغط على رجال الأعمال ومحاربة الفساد ومواجهة الاقتصاد الموازي، وبعد استنفاد هذه الوسائل سيكون النقابيون على استعداد للتفاوض حول حجم التضحيات المطلوبة من العمال إن كانت هناك ضرورة لذلك.

وهكذا، وجد الشاهد نفسه في حالة تسلل، وذلك في وقت تتزايد فيه ضغوط البنك الدولي على الحكومة من أجل التعجيل بتنفيذ بقية الإصلاحات المؤلمة.

في الديمقراطيات يتعدد اللاعبون، وكل لاعب يحاول أن يمارس الضغط من أجل حماية مكاسبه الخاصة أو الفئوية، وعندما تعجز الأحزاب الحاكمة عن إقناع هذه الأطراف بضرورة التقيد بما يطلق عليه "المصالح العليا للبلاد"، تكون النتيجة أن تصبح الغلبة للحسابات الخاصة بهذه الفئة أو تلك، وهو ما من شأنه أن يضعف الدولة، التي تصبح عاجزة عن تنفيذ القانون وفرضه على الجميع.

أي أن تصبح دولة خائفة ومرتعشة الأيدي، فتضيع هيبتها مما يوفر فرصة إضافية لانتعاش شبكات الفساد، ويستأسد الخارجون على القانون لممارسة أبشع أنواع الابتزاز وإجهاض الاختيارات والمبادرات المتعارضة مع مصالحهم وحساباتهم غير المشروعة.

في هذا المنعرج الفاصل والحاد، تقف اليوم الحكومة التونسية حائرة، وهي تخشى أن يستمر الاشتباك بين اللاعبين الرئيسين دون التوصل إلى صيغة توافقية تخرج البلاد من المأزق الراهن.

وهو المأزق الذي يهدد بجدية المسار الانتقالي، ويجعل الديمقراطية الناشئة في تونس معرضة للسقوط إذا عجزت القوى الاجتماعية عن حمايتها من خلال تقاسم التضحيات وتقليل المخاطر.

لهذا، قالوا منذ زمن طويل إن الديمقراطية هي أقل الأنظمة السياسية سوءا، ولكنها في كل الحالات تبقى أفضل من الاستبداد القاتل.