كتاب عربي 21

حكومة السبسي ناطقة باسم التونسيين أم باسم شركة نفطية؟

1300x600
لا يوجد أهم من احتلال العقول. الاستلاب الذهني يتم عادة بشكل ناعم. لنأخذ مثلا الأزمة الأولى التي تواجهها حكومة السبسي الثانية، المسماة بحكومة الشاهد، وهي احتمال "انسحاب" الشركة البريطانية "بتروفاك" التي تستغل بالشراكة مع المؤسسة العمومية التونسية "إيتاب" حقلا للغاز "حقل الشرقي" في جزيرة قرقنة المحاذية لصفاقس بسبب اعتصام شبان عاطلين عن العمل من أبناء الجزيرة. الحقل يوفر ما يعادل 10% من حاجات تونس في الغاز وتوقفه عن العمل يمثل عجزا مهما تقوم الحكومة بتغطيته عبر الجزائر.  

خطاب الحكومة وأنصارها، منها وسائل إعلام مساندة لها تعرض وجهة نظر واحدة وتتجاهل وجهة نظر المحتجين، يركز على أن "الخاسر الوحيد هو مئتي عامل في الشركة وعائلاتهم التونسية"، محملين ما يحصل حصرا وأساسا للمعتصمين. في هذا الخضم لا أحد سأل عن موقف هؤلاء العمال. مسؤول نقابتهم أصدر تصريحا لم يهتم به تقريبا أحد من أنصار الحكومة، يقول فيه ببساطة ما يلي: "تحصلنا على أجورنا رغم توقف العمل، لكن الدولة بقيت غائبة ولم يتحرك أي مسؤول، وقدموا لنا وعودا زائفة.
بمعنى آخر كذب ممثلو عمال الشركة الحكومة ولم يوجهوا سهامهم للمعتصمين. المشكل ليس في في المعتصمين بل في بطء الحكومة وغيابها. باسم من تنطق حكومة السبسي؟ كل المؤشرات تشير إلى أنها تنطق باسم "بتروفاك" وليس باسم التونسيين سواء عمال الشركة او المعتصمين. 

مشكل استغلال "حقل الشرقي" والاحتجاجات في جزيرة قرقنة معقد وليس هينا ولا يمكن اختزال مسؤولية تطوراته لطرف واحد، لكن بكل تأكيد ما تقوم به الحكومة الآن، من حصر المسؤولية في أهالي الجزيرة والمحتجين منها، والتحريض عليهم، بل اتهامهم بأنهم سوغوا لـ"لاحتلال الجزيرة" من قبل متطرفين دينيين (حزب التحرير) في حين أن أنصار هؤلاء يقطنون في منطقة محددة ("العطايا") بعيدة عن الاحتجاحات، يمكن اعتباره تصرفا غير مسؤول ولا يعبر عن حكومة تهتم بالصالح العام بل تخدم أساسا أجندات مصالح خاصة. 

يوجد ثلاثة فاعلين في الأزمة الحالية، الحكومة والشركة والمحتجين مع اتحاد الشغل. لنبدأ بالحكومة. إذ صرح ناطقها الرسمي هذا الأسبوع بالحرف ما يلي: "مؤكد أن الشركة قامت بمراسلة الحكومة التونسية وأعلمتها باتخاذ إجراءات المغادرة من بينها إيقاف أجور الخدامة وإيقاف الأمور الفنية والتقنية بحقل الغاز". كما أشار إلى "أن مسألة التفاوض مع المحتجين قد انتهت"، موضحا أن الحكومة استوفت كل الجهود لإيجاد حل إلا أن الطرف المقابل لم يبد أي جدية في الحوار". عضو آخر في الحكومة اعتبر أن الجزيرة أصبحت خارج سيطرة الدولة، متجاهلا تواصل وجود ممثليها الإداريين من معتمد وغيره، كأن غياب الشرطة هو تحديدا غياب الدولة. قياديون حزب السبسي والذي يمثله في الحكومة رئيسها وأغلب أعضائها تحدثوا في الوقت ذاته عن أن من يحكم الجزيرة أنصار حزب التحرير، وهو أمر مجانب تماما للحقيقة مثلما يعلم أي شخص يعيش في جزيرة قرقنة. كل هذه التصريحات تعتبر أن "الطرف الآخر" هو المحتجون أبناء جزيرة قرقنة، وتخملهم حصرا وأساسا المسؤولية بل وتصورهم كمتطرفين دينيين. 

بالإضافة إلى ذلك ما يحصل الآن هو نتيجة مباشرة لعدم الاستقرار الحكومي والتعثر في معالجة الملفات. لا يوجد أي شك أن بطء حكومة السبسي الأولى ثم كل الوقت الضائع الذي استهلكه السبسي في تصريف مبادرة "حكومة الوحدة الوطنية" أي حوالي أربعة أشهر ساهم في تعقيد الوضع. بالمناسبة من المهم التذكير أن استطلاعات مختلفة آخرها قام به "المعهد العربي لرؤساء المؤسسات" أن أهم مصادر القلق للمستثمرين، ليس "مجلة استثمارات" التي تم التهليل بها مؤخرا، بل عدم الاستقرار السياسي وغياب الرؤية. 

الحكومة أيضا لا يبدو أنها مهتمة أصلا بوجود إحدى مؤسساتها في حقل الشرقي، ولدى هذه المؤسسة ما يلزم من كفاءات تقنية لتسييره ومنع توقفه ومردودية الحقل تضمن بالتأكيد إيجاد تمويل أو إيجاد شركاء آخرين. وبالمناسبة حتى علاقة الحكومة بالجزائر التي نستورد منها جزءا من حاجاتنا في الغاز ليست على أحسن ما يرام. فالأداء الديبلوماسي لحزب الكفاءات بين السبسي ووزيري خارجيته البكوش سابقا والجهيناوي حاليا كارثي، خاصة في أهم ملف أي العلاقة بالجارين بشكل لم يحصل البتة سابقا. آخر الأمثلة تدهور العلاقة مع الجزائر حيث صرح السفير الجزائري في تونس الحجار (معروف بنفوذه داخل الحكم في الجزائر) بأنه طلب لقاء من اشتهر بالسبسي ولم يستطع لقاءه بعد تسليط ضريبة دخول على المسافرين الجزائريين إلى تونس. 

لنأت الآن لشركة "بيتروفاك". الأخيرة أوقفت مؤخرا الإنتاج وهددت بالانحساب نهائيا احتجاجا على شبهات فساد شركة بيئية تم الاتفاق على تأسيسها وتمويلها من قبل الشركة لتشغيل عاطلين عن العمل في الجزيرة، لوجود ما يشير إلى أن المنتدبين لا يعملون أصلا وأن بعضهم لا يوجد في الجزيرة. من المفارقات، الحقيقة، أن تحتج شركة "بيتروفاك" على الفساد في حين أن وجودها في "حقل الشرقي" متعلق ليس بمجرد شبهات فساد بل بفساد تم توثيقه في المحاكم. ومثلما نقلت صحيفة "الصباح" التونسية منذ جويلية 2012: "في سنة 2006 عمد المنصف الطرابلسي (شقيق ليلى الطرابلسي زوجة بن علي) إلى التدخّل لفائدة شركة "بتروفاك" البريطانية ومديرها التنفيذي الفلسطيني أمجد بسيسو لدى الشركة الوطنية للأنشطة البترولية للحصول على رخصة إنتاج الغاز والنفط بحقل الشرقي بجزيرة قرقنة مقابل أن يسحب البساط من تحت أقدام شركة آل نهيان الإماراتية التي قدمّت عرضا مغريا يناهز 50 مليون دولار ورغم ذلك وجدت نفسها خارج الصفقة التي ذهبت على طبق من فضة لفائدة بتروفاك بعرض أقل بكثير ماديا من عرض الإماراتيين. وعند مثوله أمام القضاء في طور الاستئناف أمام المحكمة لم ينكر المنصف الطرابلسي تهمة التوسّط والتربّح باستغلال نفوذ صهره المخلوع." التجاء "بتروفاك" للعملات ليس جديدا وخاص بتونس. آخر القضايا تم اثارتها في الصحافة البريطانية في أبريل من هذا العام تتعلق بشبهات في صفقة نفطية في الكويت. الحقيقة يجب فتح كل الملفات التي يشوبها الفساد. ويلتحمل الجميع المسؤولية بلا أي تمييز. 

في النهاية يجب التأكيد على عدد من النقاط: 

أولا، لا نعتقد أنه من المفيد للمفاوضات إجراؤها تحديد تهديد الشركة بالانسحاب (إلى حد الآن لا يوجد أي مؤشر حقيقي على أنها ستفعل إذ ستكون متضررة من ذلك في البروصات الأجنبية).

ثانيا، السلطة الحالية بالحكومة الراهنة أو السالفة تصرفت بسلبية كبيرة ثم بقمع مفاجئ كبير والآن تبدو متحدثة باسم الشركة أكثر من أنها طرف يبحث عن الصالح العام.

ثالثا، إلى حد الآن لا يوجد أي تحقيق في كيفية إسناد رخص حقل الشرقي في قرقنة لشركة بتروفاك رغم ما ورد من شكوك في تقرير "اللجنة الوطنية لمكافحة الفساد" برئاسة عبد الفتاح عمر واعترافات المنصف الطرابلسي خاصة فيما يتعلق بالدور المشبوه لممثلها القانوني وحصوبل الشركة البريطانية على الرخصة عبر عمولات.  

رابعا، نعتبر أن التنمية الجهوية والمحلية لا يمكن أن تنجح إلا بمشاريع منتجة جدية وليس بإسناد منح بدون أفق إنتاجي. 

خامسا، من المهم التفكير جديا في دور اكثر فعالية للشريك الوطني التونسي Etap في قطاع البترول والغاز. من الضروري دراسة إمكانية قيامه بالاستثمار بشكل كامل بعد انسحاب الشريك الأجنبي وطلب التمويل لذلك خاصة أننا بصدد مشروع مربح بناء على ما يحتويه هذا الحقل وذلك بعد الاتفاق مع المعطلين على صيغة معقولة لتأسيس شركة ذات أفق إنتاجي.