كتاب عربي 21

رحيل حسن الترابي وهيجان الشجون

1300x600
كان كرهي لمدمر ليبيا العقيد معمر القذافي، يفوق كرهي لمدمر العراق نوري المالكي، الذي لا هو بمالكي ولا حنبلي ولا شافعي، وقد عزا بعض أصدقائي كرهي للقذافي لكونه اختطف يوم مولدي (الأول من سبتمبر)، ليس لأن ذلك اليوم يعني بالنسبة لي شيئا، فلست ممن يحفلون بـ"أعياد" ميلادهم، بل لأنهم يزعمون بأن احتفال القذافي بذكرى انقلابه المهبب عاما بعد عام، كان يذكرني بعمري البيولوجي/ الحسابي الذي أعتبره من الأسرار القومية، ولا أبوح به، ليس من باب التصابي والتشبث بالشباب، ولكن لأنني أعتقد أن السؤال: "كم تبلغ من العمر؟" لا يخص إلا الطبيب أو جهة العمل، أو القاضي عند مثولك أمامه، أو ولي أمر امرأة تعتزم الاقتران بها.

وازددت كرها للقذافي لأنني كنت أحتفظ بكتابه الأخضر، واستخدمته كمواد لعشرات المقالات الصحفية على مدى سنوات طوال، وفي ذات مطار عربي عثروا على الكتاب في حقيبة يدي، واحتجزتني السلطات الأمنية في المطار، وخضعت لاستجواب طويل باعتبار أنني أروج لأفكار هدامة، فقلت للمحقق إن محتويات الكتاب فعلا هدامة، ولكن فقط لليبيا، فاعتبر كلامي هذا ضربا من الاستهبال، لنفي تهمة اعتناق النظرية العالمية الثالثة القذافية عن نفسي، فاستأذنت منه وفتحت الكتاب وطلبت منه أن يقرأ ملاحظات كتبتها على هوامشه، فقرأها وابتسم وأطلق سراحي.

كان بعض ما كتبته على هوامش "الكتاب الأخضر" يقول بالحرف الواحد عن فكرة "شركاء لا أجراء": ينصر دينك يا أخ معمر، وسأطالب جهة عملي في دولة قطر أن تعطيني أسهما تجعل لي نصيبا ثابتا في أرباحها، وعن قوله "البيت لساكنه" كان تعقيبي: شكرا لأنك ستجعلني من أصحاب الأملاك العقارية في قطر، أما ما جعل المحقق في ذلك المطار يتبسم، فهو تعقيبي على مقولة القذافي "المركوب للراكب"، حيث قلت: دي ما تلزمنيش، لأن المركوب عند أهل السودان هو حذاء يصنعه الإسكافي يدويا ويسبب لبسه بواسير القدمين.

وانتهى الأمر بالقذافي محشورا في أنبوب للصرف الصحي على مشارف مصراته، ومات وعود خشبي محشور في مؤخرته، ورغم أنني ظللت أتمنى أن يمد الله في أيامي حتى أشهد نهاية حكمه هو وبقية الطواغيت العرب، إلا أنني استأت كثيرا لتعذيبه ثم عرض جثمانه في محل تجاري لعدة أيام، وبرر من قاموا بذلك من ثوار ليبيا بأنه كافر لا تجوز الصلاة عليه وهو ميت، وأنه يجوز التمثيل بجثته.

ووصلت الخرطوم في اليوم نفسه الذي صعدت فيه روح الدكتور حسن الترابي إلى بارئها، ومنذ يومها وصحف السودان تتبارى في تعداد مآثر الفقيد وألقابه: المفكر المجدد والعالم الفقيه والسياسي المحنك وعبقري الفقه الدستوري، وكان لافتا أن تلاميذه الذين انقلبوا عليه في ديسمبر من عام 1999 كانوا الأكثر لطما للخدود وشقا للجيوب لوفاة الرجل، الذي جعل الحركة الإسلامية في السودان رقما مهما في المسرح السياسي في السودان، بعد فك الارتباط بالتنظيم العالمي للإخوان المسلمين.

كان الترابي هو مهندس الانقلاب العسكري الذي حدث في يونيو من عام 1989، وكاتب سيناريو الفيلم الهندي الذي نصّ على أن يذهب هو عند تنفيذ الانقلاب إلى السجن حبيسا، على أن يذهب العميد (المشير حاليا) عمر البشير إلى القصر رئيسا، لإيهام الشعب السوداني بأنه ليس للجبهة الإسلامية القومية التي أسسها وقادها الترابي صلة بالانقلاب، ثم حدثت المفاصلة في عام 1999 عندما رفض تلاميذ الترابي الذين ذاقوا حلاوة السلطة ومتعة التسلط، أن يبقى وصيا على التنظيم السياسي ونظام الحكم فعزلوه وزجوا به في السجن.

لم أصفق طوال حياتي للترابي، لا قبل الانقلاب الذي دبره ولا بعده، ورغم أنني كنت مدركا أنه يتمتع بقدرات ذهنية وفكرية عالية، إلا أنني كنت أرى فيه النموذج الكلاسيكي الذي لا يرى الخيط الرفيع بين الميكافيلية والبراغماتية، وفي الوقت نفسه كنت وما زلت أعتقد أنه أمهر وأذكى القادة السياسيين في سودان اليوم، ومن آيات ذكائه أنه وهو الرجل الذي انقلب على الديمقراطية التعددية، صار في سنواته الأخيرة، يعتقد أنه لا خلاص للسودان من أزماته التي تمسك برقاب بعضها البعض إلا بنظام ديمقراطي ليبرالي، يسمح حتى بوجود أحزاب شيوعية وبعثية وناصرية.

ورغم أنني ظللت أسيء الظن بأطروحات الترابي السياسية والفكرية والفقهية منذ أن صرت أفهم بعضا من تلك الأمور، واعتبره مسؤولا عن الانقلاب (وهو فعلا كذلك) الذي فصل جنوب السودان، وصار طرفا في حروب في عدد من أطراف البلاد، إلا أن الاستياء بلغ بي حد التقيؤ عندما انبرى نفر من أهل السودان، يعتبرون أنفسهم أوصياء على الإسلام والمسلمين يسبون الترابي بعد موته، باعتبار أنه كافر ولا تجوز الصلاة عليه وهو ميت، وعندما قال لهم البعض "اذكروا محاسن موتاكم" قالوا: هذا حديث ضعيف.

أخلاق المسلم، بل حتى غير المسلم السوي لا تجيز الشماتة بالموتى وكيل السباب لهم، وانتقاد شخصية عامة في أفعاله وأقواله جائز بل ومستحب، ولكن حتى انتقاد الأحياء يجب أن يخلو من الفجور والغلو في الخصومة.

أقول هذا رغم أن هناك من استاؤوا من نقدي العنيف لمعمر القذافي بعد موته قائلين: اذكروا محاسن موتاكم، فكان ردي: هو ليس من موتاي، ولا أعرف له محاسن تستحق الذكر، وشتان ما بين مزمجر الجزافي "أبو مخ ضارب" والدكتور حسن الترابي، تجاوز الله عن سيئاته وزاده إحسانا على حسناته وتغمده بواسع رحمته.