قضايا وآراء

الحصار داخل المصفوفة

1300x600
المصفوفة هي مجموعة أرقام متراصة في أعمدة وصفوف بشكل منظم وهي من أهم الأدوات الرقمية في التعامل مع الحاسبات الآلية. إنها وسيلة جيدة لصناعة عالم مواز يبدو لك كأنه حقيقي ولا تستطيع أن تفرق في أحيان كثيرة بين الواقع الحقيقي والواقع الناتج عن المصفوفة. وقد تناول عمل أمريكي فني شهير هذه الفكرة ببراعة.

ما يحدث في المنطقة منذ زمن طويل هو بصورة ما تطبيق عملي لتلك الفكرة؛ صناعة عالم مواز غير حقيقي يبدو لنا أنه حقيقي ثم تفاجأ في لحظة ما صادمة بأن الكثير مما كنت تظنه صوابا كان وهما كبيرا؛ وأن السؤال الذي يتردد في أذهاننا في تلك اللحظة "كيف فعلنا ذلك؟" قد أصبح متأخرا جدا.
والممتع أن مصمم هذه المصفوفة الضخمة لا يجبرك على الدخول بها ولكنه يصنع لك المقدمات التي تجعلك تدخل بنفسك في المكان الذي يريده لك وتصبح كل معاركك في المكان الخطأ وضد العدو الخطأ.

والنماذج متعددة ومؤلمة؛ ففي أفغانستان حشدت الأمة طاقاتها لخوض معركة ليست معركتها ودخلت في صراع لصالح أطراف أخرى؛ وبالرغم من التضحيات الهائلة وبسالة الأبطال المجاهدين فإن المعركة بشكل عام أُجبرت الأمة عليها بفتح مسارات الصدام في أفغانستان.. لكن القتال كان لصالح أطراف أخرى. 

وهناك نموذج حالي، وهو ما يحدث بين إيران والعالم الغربي وعلى رأسه الولايات المتحدة، من تفاهمات حول مشروعها النووي الذي أصاب الكثيرين بالصدمة؛ فقد كانت المسارات الصانعة للوعي الجمعي العام للكثير – إن لم يكن الجميع – لها دلالات أخرى؛ وتضعك في مربع آخر تماما تجعل كل حساباتك لا تسير إطلاقا إلى مثل هذه النتيجة، ولكن في لحظة ما تظهر المقدمات الحقيقية ويتضح المسار الحقيقي ولكن بعد فوات الأوان.

ولا نخفي إعجابنا بمن يصنع هذه المسارات المضللة التي نندفع بها بكل حماس ظانين أننا على الطريق الصحيح ونفجأ بعد زمن قليل أو كثير بأنه الطريق الخاطئ.. والأكثر سوءا أننا ربما نعجز عن تصحيح المسار ونضطر إلى الاستمرار في نفس المكان الخاطئ ونفس الأداء البائس. هذه المهارة هي نتيجة لعمل مضنٍ وتفكير علمي ودراسات وافية ومعمقة لكل أدواتنا وطريقة تفكيرنا التي أصبحت كالكتاب المفتوح للجميع؛ وعن طريق ذلك تصنع المسارات الزائفة التي توصلنا إلى النقاط الخطأ.

فبعد انهيار الاتحاد السوفييتي الذي كان المجاهدون في أفغانستان إحدى أهم أدواته وجدنا أن كل نضالنا كان من أجل مشروع آخر معاد لنا. وبعد غزو العراق الذي ساهمت فيه دول عربية وإسلامية فُتحت بوابات جهنم على المنطقة. وفي النهاية بعد سنوات حققت إيران نصرا استراتيجيا بالقبول الدولي لمشروعها النووي.

هناك أدوات متعددة لضبط مساراتنا في نطاق محدد ومدروس؛ أهمها كما ذُكر هو دراستنا بشكل كامل؛ وأيضا ضبط رأس السلطة بشكل محدد قدر المستطاع وسط توازنات معينة وقدر لابأس به من العمالة داخل النظم الحاكة مع تدمير ممنهج لبنية المجتمع؛ فتجد في النهاية استعدادا كاملا للسير في المسارات الزائفة؛ ويزداد عمق الأزمة بالثبات الكبير في قيادات العمل السياسي سواء في السلطة أم في المعارضة، فكلاهما من أسباب سهولة الاندفاع إلى المربع المطلوب دون عناء؛ وأيضا حصر الصراعات بين القوى الكبرى الرئيسة في المجتمع الذي يحاول صانع المصفوفة الاحتفاظ بهم جميعا كما هم للحفاظ على ثبات المقدمات؛ كما أنه يحاول تدمير أي محاولة لصناعة قوى جديدة عن طريق احتوائها أو شيطنتها؛ فتبقى مقدمات الصراع كما هي ليكون المنتج سهل المنال

إذن، نحن في أزمة كبرى فهناك في أمتنا ثبات لا نظير له في بنية السلطة وأفرادها وثبات في رؤوس المعارضة ينازع ثبات السلطة في عمره؛ وتلك الأزمة نراها بوضوح في ما يحدث في مصر حيث يناضل التيار الإسلامي نضالا أسطوريا.. غير أنه يبدو في المربع الخاطئ في المصفوفة وربما يكون جزءا من شيء أكبر لم يدرك بعد أبعاده.

إنها ليست بالتأكيد دعوة لعدم المقاومة أو الاستسلام ولكنها دعوة للخروج من النمط الثابت للصراع والتحرر من الأفكار الثابتة التي نُصِر عليها كمقدمات للصراع وهي ليست حقيقية؛ دعوة للتحرر من مركزية القيادة التي تسهل كثيرا من صناعة المسارات الخاطئة مهما كان نبل وبطولة القيادة.. دعوة لإعادة بناء التصورات الخاصة متحررين من أغلال وتعقيدات التنظيمات التاريخية الكبرى، سواء تنظيمات الدولة التي فرضت علينا فرضا أم تنظيمات المعارضة التي تأبى إلا العمل بما يسهل دخولها المصفوفة.

إن الابتعاد قليلا عن النمط الثابت لمحددات الصراع في الأمة الذي فرضته علينا المائة عام السابقة ليس سهلا، ولكننا لن نحقق نجاحا إذا ما قبلنا بالحصار المفروض علينا لأنه حصار يضعك في خانة محددة وتصبح كل طاقاتك مهما كانت كبيرة حبيسة هذه المساحة؛ ونظن جميعا أننا نفعل المستحيل من أجل الحرية؛ ربما نكون صادقين في أننا نفعل أقصى ما نملك ولكننا بكل هذا الجهد -ما دمنا داخل المصفوفة – قد نجد أنفسنا في لحظة ما جزءا من خطة أكبر وتصور أكثر شمولا لا نستطيع أن نراه لأننا أسرى داخل مربع واحد ونحن لا ندرك.