قضايا وآراء

غضب المهمشين بمصر.. جوكر 2020

1300x600

في نهايات عام 2019 قدمت السنيما الأمريكية فلم "جوكر"، يحكي قصة شخص عادي جدا، بل ربما أقل من العادي، إلا أن السمة المميزة له أنه يعيش على هامش كل شيء... لا يراه أحد... يسخر منه الجميع، ويقابل كل هذا بضحك مرضي.

 

فهو لا تمكنه المواجهة، ويهرب دائما بالضحك. فالضعفاء جدا لا بد لهم من وسيلة ما حتى لا يواجهوا أنفسهم بضعفهم، ربما يختبئون، ربما يصبحون مهرجين على أعتاب أي شخص قوي يحتمون به، ربما ينتحرون، وربما أيضا يقتلون بشراسة تجتمع فيها كل ضغوط عقود التهميش.

في لحظة فارقة استطاع "جوكر" أن يحول كل طاقة الغضب الكامنة إلى فعل احتجاجي غاية في العنف، فمن الخطر الشديد أن تستسلم لقناعات مسبقة أن هذا الشخص العادي سيبقى عاديا هكذا، ففي لحظة ما لا ندري كيف ستأتي أو متى ستندلع ستجده حول طاقة الغضب المكتومة إلى فعل لا يمكن تحمله.

إن واحدا من الضغوطات الكبيرة على أي فرد أن يشعر أنه غير موجود، وأنه يختبئ من كل شيء حتى لا يتعرض لأي حدث قد يدمر حياته، فهو دائما مكبل بقيود صنعها بنفسه ليحمي نفسه من المجهول، وهذا الضغط يحدث تشويها عنيفا لمن يحمله، ولا ندري كيف ستتحول لغضب وفي أي اتجاه.

في إحدى موجات السخرية منه وإهانته قرر أن يغيّر طريقة التعامل بدلا من الضحك، فقد قرر قتل ثلاثة دفعة واحدة، وبإصرار شديد تحرك وراء الثالث حتى أرداه قتيلا. وهذا التغيير لم يأت فجأة؛ ولكنه تراكم غير مرئي، وربما حتى غير مرئي لصاحبه ولكنه موجود بالتأكيد.

إن المهمشين أمثال جوكر 2019 قد ملأوا كل شوارع العالم... وهم يتحملون كل الجنون الموجه إليهم في موجات عنيفة أدت إلى قائمة طويلة جدا من الإحباطات، نستعرض بعضها حتى نحاول الفهم.

1- فقدان الأمل: منذ نصف قرن كانت هناك مسارات متاحة لنسبة كبيرة من البشر لتغيير نمط حياتهم، سواء بالهجرة أو التعليم أو التحرك في المساحات التي لم تستقر أو تتشبع بعد وكانت كثيرة نسبيا، وبالتالي كان من المقبول (لا أرى ذلك صحيحا) أن يلام كل من لم يحقق نجاحا ما في مسار ما. أما الآن فقد أغلقت تقريبا كل المجالات وتجمدت الخطوط الفاصلة بين الطبقات الاجتماعية والاقتصادية، ولم يعد بالإمكان التحرك والتغيير بنسبة كبيرة. وغياب الأمل في التغيير للأفضل كارثة، وخاصة في ظل المادية المفرطة وغياب للقيم الروحية والأخلاقية والتي تستخدم فقط لخداع المهمشين والفقراء.

2- لا شيء يكفي: لم تعد قدرة قطاع واسع جدا من البشر كافية لتحمل الالتزامات الحياتية، ومهما كان حجم العمل أو مدته فهو يلهث دائما خلف محاولة اللحاق، وهذا ناتج عن خلل كبير في النظم المالية والنقدية، والتي تدفع القيمة إلى أعلى الهرم الاجتماعي بلا رحمة، تاركة مليارات البشر يلهثون للبحث عن قيمة لا يجدونها في أوراق مالية لم تعد تعبر حقيقة عن شيء. إن هذا الصراع الدائم يجعل الكثير في لحظة ما يتوقفون بلا شك، ولا ندري في أي اتجاه سيقررون المسير.

3- أنا لا شيء: لم يصنع هذا الإحساس من ضعف صاحبه فقط، ولكن الأكثر قسوة هو إعلان الطبقة الحاكمة وتابعيها عن هذا بوضوح وقح. فالاحتقار والمعاملة الفوقية (التي تختلف حدتها بالطبع من مجتمع لآخر) والإحساس الذاتي بالتميز لم يعد خافيا على أحد، وهذه نتيجة حتمية للحدود الصلبة في السلم الاجتماعي. كما أن الحداثة تعادي الأسرة وتستمتع بالتعامل مع الفرد وحيدا، فتحول مع الوقت والضغط إلى وحيد مسحوق، لا هوية ولا أسرة ولا مجتمع... فقط حالة فردية فشلت في أن تكون فاعلة في مجتمع طبقي بلا قيم، وفشلت في أن تصنع هوية حتى على مستوى أسرة صغيرة، فالمجال العام لم يعد يحتمل فكرة الأسرة السوية وخاصة في الغرب.

4- سأختبئ: لا بد من الهروب، فعندما يكون الخارج ضاغطا للغاية فلا بد من رد فعل يقلل من الأزمة. ويكون الهروب إما للداخل بالانعزال التام عن كل العالم، أو الهروب للخارج بضبط العقل للتعامل مع الواقع على أنه شيء جيد، وهذا بالتماهي معه ليصبح مهرجا في هذا المسرح الكبير.

كل هؤلاء غاضبون وبشدة من الجميع، وتبقى الرغبة في تأمين الذات إما بالانعزال أو القيام بدور المهرجين هي المسيطرة على الجميع، إلى أن تأتي لحظة ما يمكن للمختبئين أن يخرجوا من مكمنهم ليقولوا كلمتهم التي لا يسمعها أحد، وليعلنوا عن وجودهم بعد أن كان لا يراهم أحد.

ما يحدث في الولايات المتحدة هو صورة من صور هذا النموذج من غضب المهمشين، وكان مقتل جورج فلويد شرارة الانطلاق واللحظة التي وجدوا فيها مقدرة أن يعبروا عن غضبهم. والمهمشون ليس بالضرورة أن يكونوا فقراء، ولكنهم بالتأكيد غاضبون، كما أنه ليس بالضرورة أن يخرج كل المختبئين للتعبير عن الغضب؛ بل سيبقى بعضهم هناك.

هذا الغضب ربما ينتهي كما بدأ سريعا بلا أي تغيير، ولكن تسارع خروج الغاضبين في أكبر اقتصادات العالم، كفرنسا وأمريكا، في عام واحد وبعد سنوات قليلة من أكبر خروج عربي جماعي للشوارع، يشير إلى أن الخروج من كهوف المختبئين لن يتوقف وستزداد وتيرته مع استمرار فشل النظام العالمي في تقليل المهمشين، ليس فقط في بلاد الاستبداد التي يدعمونها؛ ولكن في بلادهم أيضا. كما أعتقد بقدر كبير من التبسيط أن النظام الدولي بشكل عام أصبح غير قادر على حل أزماته البنيوية، ولذلك فلننتظر خروجا بعد خروج.