كتب

كيف تعيق النخب الثقافية العربية تطور الديمقراطية؟ كتاب يجيب

يمكن القول إن المثقفين العرب يؤمنون بخصوصية وضعهم في المجتمع، وهي خصوصية تبرر لديهم فرض وصايتهم الفكرية على الشعب
الكتاب: "المثقف العربي ومتلازمة ميدان تيانانمن"
المؤلف: عمروعثمان ـ مروة فكري
الناشر: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات


يختبر الباحثان عمرو عثمان، استاذ العلوم الإنسانية في جامعة قطر، ومروة فكري، أستاذة العلوم السياسية بجامعة القاهرة، فرضية لافتة في هذا الكتاب تقول أن المثقف العربي يعاني بصفة عامة مما أسمياه "متلازمة تيانانمن" نسبة إلى الميدان الشهير في العاصمة الصينية بيجين، الذي شهد في العام 1989 ما وصف بأنه أكبر حركة ثورية للإصلاح الديمقرطي منذ قيام النظام الشيوعي في الصين عام 1949.

والمتلازمة بحسب الباحثين ترتبط بحزمة من التصورات تتعلق بنظرة المثقف إلى نفسه وإلى وضعه المجتمعي، وموقفه من الشعب والديمقراطية والسلطة السياسية والأهداف التي يسعى إليها. غير أن الباحثين يلفتان الانتباه إلى أن هذه الحركة، بالرغم من شهرتها، لا تتوافر عنها كتابات كثيرة تتناول العقيدة أو الثقافة السياسية للذين دعوا إليها أو شاركوا فيها، ولا حتى عن الأهداف التي سعوا إلى تحقيقها. ويقولان أن الحركة في الواقع لم تهدف إلى إقامة نظام ديمقراطي، كما شاع، كما أنها اتسمت بالنخبوية الصارخة والازدراء المقيت لطبقات اجتماعية معينة، وهي عوامل تسببت بإخفاقها في النهاية، بحسب ما يشرح ذلك أستاذ العلوم السياسية دانييل كلهر في مقالة له بعنوان"الحفاظ على الديمقراطية من العامة: المثقفون والنخبوية في حركة الصين الاحتجاجية".

يشرح الباحثان كيف أنه في سبعينيات القرن العشرين ظهر داخل النخبة الصينية المثقفة تياران؛ دعا الأول والأكبر إلى تأسيس الحريات العامة، مثل حرية التعبير والعمل والانتقال والتملك..، وتدعيم هذه الحريات لم يكن من أولوياته إنشاء نظام ديمقراطي يقوم على حق الشعب في اختيار قادته وسلمية تداول السلطة. وبالنسبة لهذا التيار فإن الديمقراطية عنت قصر المشاركة السياسية الكاملة على الطبقات المتعلمة. حتى أن بعض الطلاب المعتصمين أثناء حركة ميدان تيانانمن رفض انضمام بعض العمال إليهم، وذهب بعضهم إلى إرجاع سبب إخفاق الحركة إلى مشاركة العمال فيها من دون رضا القيمين عليها.

ونظرا لهذا الازدراء الثقافي وانعدام الثقة السياسية، يرى كلهر علاقة قوية بين هذالاتجاه وما أطلق عليه "السلطوية الجديدة" وهي فلسفة اعتمدها الحزب الشيوعي نفسه، على أساس أنها ديمقراطية مقصورة على المثقفين، رأي قادة الحزب ومن لف لفهم، وتقوم على فلسفة أن تحقيق الديمقراطية يتطلب مرحلة من "الاستبداد المستنير".

إن الديمقراطية الشعبية، كما يعرفها الباحثان، لم تكن قط من القضايا الأساسية والملحة التي شغلت المثقفين في فترة "النهضة العربية" وما تلاها. إذ انصب اهتمام المثقفين على قضايا ما سمي الأصالة في مقابل المعاصرة، أو التراث في مقابل الحداثة.
أما التيار الآخر "الراديكالي" والأصغر من حيث عدد أعضائه، فارتأى أن الديمقراطية جزء لا يتجزأ من أي عملية إصلاح، وأن لا قيمة للحريات من دون الديمقراطية الإجرائية التي تنتخب برلمانا وحكومة وتضمن استمرارها. مع ذلك فإن التيارين جمعتهما النظرة إلى نفسيهما باعتبارهما طبقة متميزة تعلو على طبقات المجتمع الأخرى، وتعد الأجدر والأحق وحدها بالقيادة.

ويعزو كلهر إخفاق الحركة إلى مجموعة عوامل منها غياب تراث يمكن البناء عليه لإضفاء الشرعية على نظرة شاملة إلى الديمقراطية، وكذلك عدم وجود نقابات عمالية أو قيادة قروية يمكنها أن تجبر المثقفين على تطوير نظرة إلى الديمقراطية تقوم على المساواة بين جميع الطبقات، والأهم من ذلك أن الإخفاق ارتبط أساسا بعقيدة قادة الحركة وأعضائها، فقد منعت النخبوية المفرطة الممزوجة بازدراء شديد لطبقات اجتماعية كاملة، التيارين من الالتحام بتلك الطبقات وطلب دعمها، بل أنها سعت إلى تجنب انضواء تلك الطبقات إلى الحركة.

يتوقف الباحثان هنا لتسجيل ملاحظة مهمة حيث يلفتان إلى أنه لا يمكن لمتابع موقف الكثير من المثقفين العرب من أحداث الربيع العربي إلا ملاحظة التشابه الصارخ بين ذلك الموقف وموقف مثقفي الصين، إذ يمكن النظر، مثلا، إلى الجدل في أسبقية الدستور أو الانتخابات بعد الثورة المصرية في عام 2011، على أنه انعكاس لنظرة نخبوية اتسم بها من اعتبروا أنفسهم الأجدر بتعريف صيغة الحريات المنشودة وحدودها. وكان تخوف هؤلاء من العملية الديمقراطية واضحا حتى أنه بلغ درجة الضغط على الحكام العسكريين من أجل تأجيل الانتخابات. وتجلت تلك النخبوية أيضا في الداعين إلى وضع "مبادىء فوق دستورية" تكون ملزمة حتى للأجيال اللاحقة.

الشورى والنخبة

يبدأ الباحثان دراستهما هذه بمقدمة نظرية لتعريف "المثقف" وعرض بعض الأدبيات التي تتناول وضعه في المجتمع وعلاقته بالسلطة، ثم ينتقلان إلى عرض تاريخي موجز يمهد لفهم بعض المثقفين العرب للديمقراطية منذ أن أصبحت موضوعا مطروحا للبحث والمناقشة في المراحل المختلفة، وتحديدا ما أطلق عليه"عصر النهضة العربية" الذي بدأ في القرن التاسع عشر، وصولا إلى الوقت المعاصر من خلال عرض أدبيات بعض المثقفين العرب في شأن الديمقراطية.

وبحسب الدراسة فإن الديمقراطية الشعبية، كما يعرفها الباحثان، لم تكن قط من القضايا الأساسية والملحة التي شغلت المثقفين في فترة "النهضة العربية" وما تلاها. إذ انصب اهتمام المثقفين على قضايا ما سمي الأصالة في مقابل المعاصرة، أو التراث في مقابل الحداثة. وعلى سبيل المثال فإن كتاب المفكر اللبناني البريطاني ألبيرت حوراني" الفكر العربي في العصر الليبرالي" الذي يؤرخ للعقود الأخيرة من القرن التاسع عشر والعقود الأولى من القرن العشرين، لا يفرد أي مساحة لقضية الديمقراطية، حتى أن مصطلح الديمقراطية لا يظهر في فهرس مفردات الكتاب.

وبحسب تعبير المفكر الفلسطيني هشام شرابي في كتابه" المثقفون العرب والديمقراطية: عصر النهضة 1875 ـ 1914" فإنه في الوقت الذي كانت فيه الجماهير العربية" غائبة سياسيا واجتماعيا وثقافيا" لم يظهر المثقفون المسلمون المحافظون منهم والإصلاحيون على السواء، اهتماما بعملية الديمقراطية باعتبارها جزءا من مشروع الإحياء الإسلامي على اختلاف فهمهم لمتطلباته.

ويمكن القول، بحسب الباحثان فكري وعثمان، أن فهم هؤلاء المثقفين للديمقراطية كان يتحقق بمجرد وجود مجلس شورى، على سبيل المثال، الذي يتكون من " أهل الحل والعقد" الذين ربما يعينهم الحاكم نفسه، أي أن الشورى هنا مبدأ نخبوي لا يشكل أساس شرعية الحكم ، ولا يمثل آلية تداول السلطة.

ثلاثة تيارات

في ما يتعلق بأدبيات بعض المثقفين العرب المعاصرين فقد اعتمد الباحثان على أسلوب تحليل المضمون لعينة من المقالات وتحديدا تلك التي ضمتها دورية "الديمقراطية" المصرية بين عامي 2000-2014، وجاء هذا الاختيار بسبب تخصص هذه الدورية بقضية الديمقراطية، الأمر الذي يبرر اعتبار ما تنشره من مقالات لمثقفين عرب ومصريين معبرا عن موقفهم من الديمقراطية وما يرتبط بها من قضايا. وفي هذا الإطار يوضح الباحثان أنه يمكن التمييز بين ثلاثة تيارات أساسية في هذا الشأن؛ الأول يعطي الأولوية للحريات الفردية الذي يعتمد "المفهوم الليبرالي للحرية"، وعبر بعض أنصار هذا التيار بصراحة شديدة عن رفضهم التسرع في تطبيق الديمقراطية الإجرائية، على اعتبار، بحسب حازم الببلاوي، أن الأخذ بالمزيد من الإصلاحات الليبرالية غير المخططة قد يؤدي إلى تمكين القفز على السلطة لعناصر معادية أصلا لليبرالية ويهدد بإجهاض التجربة في مهدها. بل إن بعض مثقفي هذا التيار صرحوا في الأعوام التي سبقت الربيع العربي بعدم ثقتهم بقدرة المجتمع وجهوزيته للانتقال إلى الديمقراطية فورا، نظرا إلى افتقاده المقومات الثقافية المطلوبة.

بينما يركز التيار الثاني على الجوانب الإجرائية والإطار المؤسسي للديمقراطية، ويركز كذلك على الدور الحاسم لجميع أفراد الشعب في الحياة السياسية. ويرى مثقفو هذا التيار أن الديمقراطية التمثيلية هي النموذج الأفضل لتعبير الجماهير عن إرادتها، وأن هذه الديمقراطية تبدأ مع إقرار حق الاقتراع العام.، ويربطون تطور الديمقراطية بانتشار المشاركة السياسية لأغلبية المواطنين ، ويرون أن الثقافة السياسية الديمقراطية هي نتاج التجربة والممارسة الديمقراطية.

في الوقت الذي كانت فيه الجماهير العربية" غائبة سياسيا واجتماعيا وثقافيا" لم يظهر المثقفون المسلمون المحافظون منهم والإصلاحيون على السواء، اهتماما بعملية الديمقراطية باعتبارها جزءا من مشروع الإحياء الإسلامي على اختلاف فهمهم لمتطلباته.
أما التيار الثالث فيقدم تصورا أوسع يتخطى ثنائية الحريات أو صناديق الاقتراع، ليؤكد ضرورة توفير الشروط اللازمة التي تمكن الفرد من ممارسة اختياراته بشكل حقيقي، فالديمقراطية الإجرائية تكون زائفة إذا لم تقترن بتمكين الفرد بصورة ايجابية من ممارسة حقوقه السياسية والعامة. وفي هذا السياق يعرف حسن حنفي الديمقراطية بأنها ليست "غاية في ذاتها ولكن وسيلة لتحقيق غاية أخرى وهي مجموع المقاصد والأهداف التي يضعها المجتمع من أجل العدالة والتنمية..". كما يهتم هذا التيار بالثقافة السياسية للنخب، ويرى أن تعثر الديمقراطية يعكس بشكل عام مشكلة ثقافية لدى النخب والناشطين سياسيا والجماهير، بل يذهب بعض مثقفي هذا التيار إلى الزعم أن الجماهير برهنت على جهوزيتهاللتجربة الديمقراطية، على العكس من النخب التي أخفقت في بناء توافق وطني يدعم التحول الديمقراطي الأمر الذي يشكك في جهوزية النخب نفسها.

يرى الباحثان أنه بشكل عام يمكن القول أن المثقفين العرب يؤمنون بخصوصية وضعهم في المجتمع، وهي خصوصية تبرر لديهم فرض وصايتهم الفكرية على الشعب وإن لم تكن مبررة تاريخيا وعمليا. وهم يرون لأنفسهم أفضلية على السياسيين الذين ينخرطون في الحياة السياسية انطلاقا من دوافع ذاتية أو طبقية، ويفتقدون الفهم العميق لماهية الفكر الذي يؤسس للفعل السياسي في المجتمع. وهم فوق ذلك غير مهتمين كثيرا بإثبات استحقاقاتهم النخبوية هذه بناء على إنجازات تاريخية، ولا يهتمون بمراجعة هذا الخطاب في ضوء انطلاق ثورات الربيع العربي من صفوف الجماهير، لا النخبة المثقفة.

ويضيف الباحثان: "إننا نذهب إلى القول بسيطرة صورة الضحية على تصورات هؤلاء المثقفين الذين قاموا بإلقاء اللوم على الأنظمة القمعية، أو الشعوب التي لا تتجاوب معهم بالقدر الكافي، أو التيارات الإسلامية التكفيرية والظلامية، أو أشباه المثقفين الانتهازيين والمتحالفين مع السلطة، أو الإعلام الذي أنتج متكلمين وكتابا تجرأوا على تقديم أنفسهم كمفكرين ومثقفين... وهؤلاء من يخفي دور النخبة ويضعف رسالتها ويشوش بكثافة على معنى الثقافة". وفي المحصلة تكشف الدراسة عن أن أغلبية المثقفين العرب وعلى اختلاف توجهاتهم تنظر إلى الدولة أو السلطة بشكل عام على أنها الأداة الأساس للتغيير. والمثقف الذي يعتقد بمحورية دور السلطة في عملية الانتقال الديمقراطي ربما يتخذ موقفا عدائيا من الثورات الشعبية التي تقوم بها الجماهير، ومن المنطقي في ضوء ذلك أن يحاول بعض المثقفين العرب تبرير الممارسات الاستبدادية للسلطة في الدول العربية، بناء على عدم الثقة برشاد الجماهير أو عدم الرغبة في سقوط الدولة بسقوط السلطة القائمة.