كتب

ظهور الإسلام وفرض قانون السوق.. قراءة في كتاب

ظاهرة الاحتكار المرتبطة عادة بالاقتصادات الحديثة المتقدمة، كانت مصدر قلق في عصر النبي ذاته..
الكتاب: "الإسلام المبكر ومولد الرأسمالية"
الكاتب: بينديكت كوهلر
ترجمة: حبيب الحاج سالم
الناشر: ابن النديم للنشر والتوزيع ط 1 وهران- الجزائر، ودار الروافد الثقافية - ناشرون، الشارقة - الإمارات المتحدة 2023
عدد الصفحات: 326 

ـ1 ـ

تلحّ الدراسات التي تناولت الإسلام المبكّر على تشكيل صورة النبي الممثل للسلطة وباني الدّولة الإسلامية في مجتمع قبليّ أساسا. فبانتقاله من مكة إلى المدينة تشكلت نواة دولة ذات أساس عسكري ومثّل النبي محمد قائدها الذي يعقد التحالفات (في يثرب مثلا) ويدونها في الوثائق (الصحيفة مثلا).

ويبحث عن الشروط السياسية لنجاح الناشئة. وهذا ما وسّع من أفق العقل الإسلامي وجعله فاعلا بانيا بعد أن كان أميل إلى التأثر والمعاناة في مكة. غير أنّ "كتاب الإسلام المبكر ومولد الرأسمالية" الذي ألفه بينديكت كوهلر ونقله إلى العربية حبيب الحاج سالم سينظر إلى هذا الإسلام المبكر من زاوية الاقتصاد. فيركّز على صورة محمد التاجر الذي سيؤسس نظاما يقوم على خلق الثروات ويتّخذ  الإجراءات المشجعة على الاستثمار لمضاعفتها، لينتهي إلى استنتاج على قدر من الجرأة مداره على أنّ النبي محمّد هو مؤسس النظام الرأسمالي الحقيقي.

ومن هذا المنطلق كان الباحث يستقرئ منجزه على مستوى تنظيم الأسواق من منظور "اقتصاد السوق" كأن يرى في بعض إجراءاته "استحداثا لضرائب مخصصة لتمويل ضمان اجتماعي" أو كـ"وضعه لحزمة من الحوافز التجارية"، فقام بـ "حماية المستهلك" "وسن مبادئ توجيهية لصياغة العقود التجارية" و"حظر الاحتكار وغير التدابير" ويجد في هذه المنظومة من الانسجام والتناسق ما يجعلها قادرة على الاستمرار بعده. فقد "كان خلفاؤه الثلاثة الأوائل تجارا محترفين مما مكنهم من ملاءمة الأعراف التجارية مع التوسع من مجتمع صغير إلى إمبراطورية".

ـ 2 ـ

خضعت إجراءات النبي إذن لمنهج يسمح بالنمو الاقتصادي. ويستند الكاتب إلى ماكس فيبر ليؤكّد أنّ الإسلام المبكر ركّز بوضوح على الإشباع المادي والتشجيع على اكتساب الثروة والسلطة والشرف، حتى أنّ التاجر العربي أضحى لاحقا مضرب الأمثال وتم تمجيد صورته في أشهر أبطال قصص الأدب العالمي (ألف ليلة وليلة). ويجد لهذه النزعة الآلية لنظام السوق وقوانينه شروطا موضوعية أسهمت في ترسيخها. فلموقع شبه الجزيرة العربية دور بيّنٌ جعل من التجارة العربية حلقة وصل بين أوروبا وآسيا. وقد كان العرب واعين تماما بهذا المعطى مستوعبين لآليات التجارة العابرة للحدود. فعملوا على استغلاله والعمل على تحقيق الأرباح من توريد السلع. وعمل النبي على توظيفه في إنجاح الدعوة.

وكان السياق الحضاري يدفع نحو ظهور هذه البوادر الأولى للنظام الرأسمالي. فالمؤرخ هيرودوت يعرض ما يعدّه الباحث [قواعد للتجارة وفق اقتصاد السوق اليوم] ويضبط العناصر التي تشكل الأسواق وهي ضمان السلامة الشخصية لطرفي العملية التجارية ومنع الغش بحظر الاتجار مع لص والاتفاق على تحديد الأسعار من خلال المساومة. وهذا ما تمثله العرب. ولكن الحدث الذي يعتبره الكاتب معرجا هو "تحرير النبي للأسعار" وجعلها خاضعة لقانون السوق. فقد كانت الأعراف التجارية ثابتة في المجتمعات الشرقية منذ العصر البابلي.

وكان القائمون على الأسواق من يحدد الأسعار وليس الباعة. ولمجاعة ألمت بالمدينة في فجر الدولة الإسلامية الناشئة ارتفعت الأسعار كثيرا وطُلب من النبي التدخل لوضع سقف لها. فرفض. وأمام معارضة بعض الصحابة اختلى بنفسه راجيا أن ينزل الوحي لبيان الوجه الذي سيحل المسألة، وعند عودته أعلن أن الله من يحدّد الأسعار وليس هو. بما يعني قراره القيام بإصلاح جذري على نظام الأسواق وإلغاء تدخّل السلطة لتسعير بضائعها وتركه لقانون العرض والطّلب.

ـ 3 ـ

وللتشجيع على الاستثمار دعم الإسلام الملكية الخاصّة وضَمن للنساء وللأقليات الدينية والأجانب حقوق الملكية وأرسى  قواعد التجارة العادلة وفي الآن نفسه حمى المستهلك ومنع الاحتكار. وقد يجيب بعضهم  عن سؤال "كيف أمكن للمسلمين أن يطيحوا بالإمبراطوريتين الفارسية والبيزنطية في بعض العقود القليلة؟" بالبسالة القتالية والطموح. قد يفسر هذا الجواب سبب نجاح غزواتهم بالفعل، غير أنّه لا يفسر سبب ثبات حكمهم، والأسلم أنّ الدولة الإسلامية أفادت من النظم الإدارية والاقتصادية السابقة وعملت على تطويرها وتكييفها مع مبادئ الدين الجديد. فوضع مسؤولون بيزنطيون سابقون ميزانية حكومية تعطي كل مسلم منحة سنوية ثابتة.

بديهي أن يرتبط تكديس الثروة وتوفر الموارد بظهور النزعة الاستهلاكية، غير أنّ الدولة الإسلامية أحسنت توجيه هذه النزعة وتحويلها إلى استثمار يوفّر شروط النمو والتطور ويضمن الرخاء الاقتصادي.
ومثّلت "أول خطة معاشات حكومية في العالم" وتولى موظفو ضرائب مسيحيون سك الدينار الذهبي الإسلامي ليكون وحدة تسوق موحدة. ونشأ في بغداد، ومع مطلع القرن العاشرة قطاع مصرفي متكامل يوفر صرف العملات الذهبية والفضية وإقراض الأموال للحكومة والتجار. ولعل الابتكار العبقري هنا أن يتمثّل في تمكينهم من إيداع أموالهم في أحد مصارف مدينة وصرفها في مدينة أخرى، وكان لتلك المعاملة أسماء عدة منها الكلمة الفارسية "صك" التي دخلت اللغة العربية ومنها تسربت إلى اللغات الأوروبية ولا تزال تتداول إلى اليوم في الفرنسية (chèque) وفي الإنجليزية (check). وقامت التجارة على المخاطرة. فظهرت كلمة الزهر أي الحظ ومنها وصلت إلى الفرنسية والإنجليزية أيضا في صيغة Hazard  للتعبير عن التجار المغامرين (وهذا ما لم يتحقّق منه المترجم فيؤكد أن الكلمة المنسوبة إلى العربية هي من مفردات العامية في شمال إفريقيا). وظهرت مؤسسات الأوقاف الخيرية ومراكز للتجارة الخارجية وشركات المضاربة.

ـ 4 ـ

بديهي أن يرتبط تكديس الثروة وتوفر الموارد بظهور النزعة الاستهلاكية، غير أنّ الدولة الإسلامية أحسنت توجيه هذه النزعة وتحويلها إلى استثمار يوفّر شروط النمو والتطور ويضمن الرخاء الاقتصادي. وأنفقت على المعرفة والثقافة مالا كثيرا. فأُنشئ بيت الحكمة وجمعت أعمال فلاسفة اليونان وتُرجمت إلى العربية. واطلع العرب على ثقافات الهند ودياناتها وعلومها منها الرياضيات خاصّة لصلتها بإدارة الأعمال التجارية والجغرافيا لصلتها بالتجارة. وككل حضارة تريد استدامة هيمنتها لم تنكفئ على نفسها أو تقتصر على عقول أبنائها وسواعدهم فقط لصناعة مجدها. وغلّبت رؤية براغماتية تعتقد بأنّ قوة أي دولة صاعدة تكمن في القدرة على استقطاب الكفاءات والخبرات من الخارج وإدراجها في دورتها الحضارية،  شأن ما يفعل الغرب اليوم.

ـ 5 ـ

ضمن هذه الخلفيات الدينية والأخلاقية ستتأسس اللبنات الأولى لعلوم الاقتصاد الإسلامي. فقد حوّل الربا التخلفَ عن سداد الديون قبل الإسلام إلى مشكلة اجتماعية كبيرة. فجعل العهدُ القديم المتعثرين عن تسديد الديون عرضة للاسترقاق. وكانوا يوضعون في السجون وفق العهد الجديد. أما عند العرب قبل الإسلام، فكانوا يطالًبون بدفع ضعف المبلغ الأساسي، فإن عجزوا عن ذلك يتم طردهم إلى الصحراء خارج مكة لمواجهة مصيرهم المظلم.

وأمّا التصوّر الإسلامي فيجعل من تبادل البضائع المتكاملة القيمة والتجارة العادلة وتدعيم تنظيم اقتصاد السوق وضبط السياسات المتصلة بالمنافسة ومقاومة الاحتكار والبيع الفاسد البديلَ. فحين يكون التجار أحراراً في تحديد الأسعار، بتغير شكل التنافس بينهم. فبإمكانهم رفع الأسعار لزيادة أرباحهم عند كل عملية بيع أو خفضها لزيادة حصتهم من السوق على حساب منافسيهم. وظهر مفكرون في هذا المجال، فيذكر الكاتب من بينهم أحمد بن تيمية وأبا الفضل الدمشقي وعبد الرحمن بن خلدون. 

ومن الآراء الفقهية حول استراتيجيات التنافس ذهاب مالك بن أنس أن رفع الأسعار لمضاعفة الأرباح مشروع، ودليله بيع النبي بضائع لمن بذل له السعر الأرفع، وذهاب أحمد تيمية إلى أنّ رفع الأسعار أمر مشروع كذلك، إذا كان الناس يبيعون سلعهم على الوجه المعروف من غير ظلم. فالأسعار ترتفع إما لقلة الشيء (ندرة البضاعة) أو لكثرة الخلق (الطلب)، فهذا إلى الله المسعّرِ. وفي إسناد الدور إلى الله تعبيرٌ ديني عن السوق التي تعدّل نفسها آليا بحسب قانون العرض والطلب كما تمثلها النظام الاقتصادي الإسلامي.

وعامة يخلص الباحث إلى أنّ "للمنافسة في الأسعار آثارها في السياسات المتعلقة بالاحتكار والتداول الداخلي، وقد يذهل المرء للوهلة الأولى حين يعرف أن ظاهرة الاحتكار المرتبطة عادة بالاقتصادات الحديثة المتقدمة، كانت مصدر قلق في عصر النبي ذاته فقد كانت قواعد تحديد الأسعار مرتبطة بقواعد المنافسة، ولذلك جمع النبي بين منع تدخل الحكومة في تحديد الأسعار ومنع الاحتكار بقوله بئس العبد المحتكر" وتتمثل الممارسة الاحتكارية بالمعنى الواسع في إساءة وضع تجاري قوي للإخلال بالأسعار".

ـ 6 ـ

مما ذكر الدكتور محمد بالطيب أستاذ التصوف الإسلامي والحضارة العربية بالجامعة التونسية في تقديم الكتاب: "لقد تتبع المؤلف بكثير من المهارة والحذق حياة النبي الكريم قبل البعثة وبعدها، فتصيد الأخبار التي لا تلتفت إليها في الغالب وهي المتعلقة بحياته المهنية باعتباره تاجرا حافظا عارفا بأصول التجارة ذا خبرة بمبادلاتها ومعرفة بأسرارها، وهو ما أتاح له أن يكون أثرى العرب في زمانه، مشيرا إلى أن كتب السيرة مالت إلى الاهتمام بتكوينه الرّوحي أكثر من نشاطه التجاري، وأنه غلب لدى الدارسين الاعتناء بالنبي باعتباره قائدا دينيا سياسيا، وقلما انتبه إلى دوره الاقتصادي، ولما كانت دعامة المجتمع الرأسمالي السعي إلى الربح، ومن ثم فإن حجر الزاوية فيه هي السوق، فقد أشار المؤلف إلى أن أول قرار للنبي في مدينة أنه أقام المسجد والسوق، ووضع قواعد التجارة العادلة، فمنح مجتمعه إلى جانب الدين الجديد إطارا اقتصاديا جديدا تميز بتأييد النبي تحرير الأسعار في المدينة المنورة، وهو ما اعتبره قرارا ثوريا حاسما منقطع النظير في زمانه وقبل زمانه، وفي هذا السياق، حلل المؤلف بمهارة ما كان لإجراءات النبي في إعفاء السوق من المكوس وتحرير الأسعار، من أثر في توليد ميزات تنافسية خفضت التكاليف وشجعت على الاستثمار ومراكمة الثروة، فكانت مقاربته المالية القائمة على الحوافز، أحد الأصول التي قامت عليها الرأسمالية، وصار من المعلوم بعد ذلك أن زيادة الضرائب تؤدي إلى نقص العائدات وأن التشجيع على الاستثمار يزيد منها".

ـ 7 ـ

لابدّ من أن نسوق ملاحظتين في نهاية هذه الورقة:

ـ على أهمية هذا الكتاب وجدناه يميل أحيانا إلى الإفاضة في وصف بعض خصائص الثقافة الإسلامية على حساب الاستقراء والتحليل. ولا شكّ أنّ الأمر مبرّر تماما لأنّ الكاتب يضع في اعتباره القارئ الغربي البعيد عن الحضارة العربية الإسلامية والذي يفتقر إلى الموسوعة الثقافية التي تخوّل له استيعاب الفكرة باللمح. ولكننّا نجد فيه الكثير من المبالغة في الاستنتاج وهو يصوّر كل المعاملات التجارية في الدّولة الإسلامية على أنّها ميلاد للنظام الرأسمالي. فالرأسمالية منظومة متكاملة ورؤية للعالم وليست تنظيما للأسواق فحسب.

ـ ليس من الهيّن نقل نص مثل "الإسلام المبكّر ومولد الرأسمالية" إلى العربية. ففضلا عن الصعوبات المعهودة في عمل الترجمة عامّة وجدنا الأثر يأخذ اقتباساته من الكتب المترجمة عن العربية. وكان على المترجم أن يعود إلى المتون العربية حتى لا يعرّب المترجم عنها. فيضيع أصل المادة وينافي جوهر العمل العلمي الرّصين. ولكن قائمة المتون العربية طويلة جدا.

ولا شكّ أن العودة إلى اثنين وستين مرجعا عربيا قديما والبحث في متونها عن أصل الاقتباسات المضمّنة في الكتاب، قد كلّف المترجم جهدا مضاعفا ومن هذه الكتب: "فتوح الشّام" و"المغازي" للواقدي و"تاريخ اليعقوبي" لليعقوبي و"رسائل المقريزي" و"المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار" للمقريزي و"الإعلام بأعلام بيت الله الحرام" للنهرواني. أضف إلى ذلك ما يحسب لهذه الترجمة من قدرة على نقل النص إلى روح عربية وإيراده في لغة سلسة.