تقارير

الشعب الفلسطيني في مواجهة العدوان على غزة.. قراءة في الأسباب والمآلات

انتقاد المقاومة ولومها في هذا الظرف هو انتقاد في غير محله، وفي غير وقته، ولا يتناسب مع قواعد النصح المعروفة..
أشعلت معركة "طوفان الأقصى" بكل تداعياتها البطولية والمأساوية الدامية معركة أخرى على المستوى الفكري، تمثلت في بعض جوانبها بمهاجمة المقاومة، ولومها على ما أقدمت عليه، وتحميلها مسؤولية الإبادة الجماعية التي يقترفها جيش الاحتلال بحق المواطنين الأبرياء في قطاع غزة.

تتذرع بعض تلك الأصوات بالعقلانية والحكمة، متهمة المقاومة بعدم مراعاتها لموازين القوى، وإساءة تقديرها لعواقب ما أقدمت عليه، ويتدثر بعضها الآخر بعناوين دينية كضرورة الأخذ بفقه الأسباب، ومراعاة السنن الكونية في التدافع، والموازنة بين المفاسد والمصالح، وعدم إلقاء الأنفس إلى التهلكة.

ومع ازدياد المجازر الصهيونية بحق الأبرياء في قطاع غزة، وتوسيع دائرة استهداف المستشفيات والمساجد والمجمعات السكنية بشكل مباشر، وإطلاق يد القتل والتدمير الصهيونية من قبل الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبية، وفي ظل صمت عربي مطبق، ارتفعت نبرة تلك الأصوات وتكاثرت، وزادت حدة مهاجمتها وانتقادها لقوى المقاومة.

ومن اللافت أن ارتفاع تلك الأصوات بانتقاد حركات المقاومة يأتي في ذروة المعركة واحتدام مواجهاتها على الأرض، وهو ما اعتبره الداعية المغربي، الباحث في العلوم الشرعية، حسن الكتاني "نوعا من الإرجاف، الذي هو بالأساس من فعل المنافقين"، كما ذكر تعالى في قوله {لَوْ خَرَجُوا فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [سورة التوبة: 47].


                                                 حسن الكتاني، داعية وباحث مغربي.

وأضاف: "فمن طبيعة المنافقين الإرجاف، وهم في وقت الأزمات والمقاومة يمارسون ذلك، فتراهم يقولون العدو قوي ولا طاقة لنا به، ولا ينبغي مواجهته، فإذا قام من يواجه الاحتلال، وجهوا أصابع الاتهام واللوم له، مع أن واقع الحال في فلسطين أننا أمام بلد محتل، مضى على احتلاله أكثر من مئة عام، من الإنجليز ثم من الصهاينة، ومقاومة ذلك الاحتلال مستمر من ذلك الوقت إلى يومنا هذا".

وتابع لـ"عربي21": "فهل يُقال لكل مقاوم لذلك المحتل أنك تسببت في البلاء للمسلمين، مع أنهم في بلاء حقيقي بسبب ما جره عليهم الاحتلال منذ احتلاله لأرضهم، ثم إن الذين قاموا بهذه المعركة لو لم يقوموا بها اليوم فسيقومون بها في وقت آخر، لأنهم في مقاومة مستمرة، وهم يعدون العدة بشكل دائم، والعدو في كل الأحوال والأوقات أقوى منهم عددا وعدة".

وقال الباحث والداعية الكتاني: "من المعلوم أن المحتل عادة ما يكون أقوى من الشعوب المحتلة، وهو ما يدفع الشعوب التي تقع تحت نير الاحتلال إلى مقاومة المحتل، مستعذبة في سبيل ذلك تقديم التضحيات الكبيرة، فهي تقدم أرواحها ودماءها وأموالها رخيصة فداء للأوطان وتحريرها من المحتل المغتصب، وهذا وقع للمسلمين ولغيرهم".

وأردف: "إن ذلك الكلام من أولئك المنتقدين والمهاجمين لحركات المقاومة، لا يصدر إلا من قوم لا يريدون مقاومة المحتل أصلا، وغالب الظن أن الذين يبثون مثل هذا الكلام هم من القاعدين، رضوا بأن يكونوا مع الخوالف، وهذا من الذل والجبن، فالجبان الذليل يرى جبنه حكمة ورصانة، وهم في غالبهم ممن قال فيهم الشاعر:

يرى الجبناء أن العجز عقل *** وتلك خديعة الطبع اللئيم".

من جهته رأى الأكاديمي الأردني، المتخصص في العلوم الشرعية، الدكتور رامي العياصرة أن "انتقاد المقاومة في ظروف المواجهة العسكرية مع العدو الصهيوني بحجج وذرائع مختلفة، كاختلال موازين القوى، وعدم مراعاة السنن الكونية، ينافي ما قام به الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام في غزواتهم ومعاركهم مع الأعداء".


                            رامي العياصرة، أكاديمي أردني متخصص في العلوم الشرعية.

وواصل حديثه لـ"عربي21" بالقول: "هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن المبدأ الشرعي في مواجهة العدو يقوم على الإعداد بالمستطاع وليس المكافئ لقوة العدو خاصة في حالة جهاد الدفع التي يتوجب على أهل البلد فيها مجابهة العدو بالممكن والمستطاع، وكل ما تطاله اليد".

ووصف تلك الأصوات بـ"الشاذة والمشبوهة، وما هي إلا أدوات سوء بيد غيرهم من المنافقين والمتخاذلين الذين يخدمون المشروع الصهيو ـ أمريكي، ولو كانوا صادقين في دعواهم لسمعنا أصواتهم وأهل غزة يجوعون ويموتون تحت الحصار منذ أكثر من 17 سنة".

وتساءل: "لماذا كانت تلك الأصوات تلوذ بالصمت وتخرس، ولا نسمع لها حسيسا حينما انتهك الصهاينة حرمة المسجد الأقصى، وتم تدنيسه من قبل المستوطنين، وأقاموا في ساحاته الصلوات التلمودية؟"، مضيفا: "على جماهير أمتنا ألا تلتفت إلى هؤلاء النكرات، بل يجب عليها نبذهم وإسكاتهم بكل وسيلة ممكنة لأنهم بمثابة معول هدم في بنيان هذه الأمة، كلما قام وارتفع".

وعن واجب العلماء والدعاة والمفكرين في هذه المعركة مع العدو الصهيوني، بيَّن العياصرة أن واجبهم "الدعم والإسناد، وقيادة جموع الأمة في سبيل تحقيق ذلك ببثّ روح الأمل والتفاؤل بنصر الله وتأييده، مع استثمار هذه الحالة في تغذية قلوب وعقول الناس بجملة القيم الإسلامية الهامة، وفي مقدمتها وعلى رأسها إحياء قيمة المقاومة، وبيان المنطلقات والمبادئ التي تقوم عليها، وضرورة حفظ دين الأمة ومقدساتها".

وأردف: "أما انتقاد المقاومة ولومها في هذا الظرف فهو انتقاد في غير محله، وفي غير وقته، ولا يتناسب مع قواعد النصح المعروفة، واختيار هذا الوقت يرسم علامات استفهام حول نوايا أصحاب هذه الممارسة، لأنه يدل بكل صراحة ووضوح على نوايا مبيتة، ويفضي إلى الفتّ في عضد المقاومة والتشكيك في تضحياتها بطريقة مبطنة وغير بريئة".

بدوره رأى الكاتب والباحث المصري، حسين القاضي أن "الحرب الدائرة حاليا على غزة من جيش الاحتلال أفرزت 4 تيارات من التفكير: الأول تيار العنترية والحماس وهو التيار الشعبي العام الذي يطالب بدخول الدول العربية وعلى رأسها مصر في حرب مع إسرائيل والغرب.. والثاني: تيار الاستغلال والتربص وهو تيار استغل خصومته مع الأنظمة التي يختلف معها، فوجد الحرب فرصة لتشويه هذه الأنظمة ".


                                             حسين القاضي، كاتب وباحث مصري.

وتابع: "أما التيار الثالث فهو تيار الحق والعقلانية، وهو الذي يتعامل بعقلانية وواقعية وفق كل السبل المتاحة، ويقف مع المقاومة ضد العدو، دون حماس أو استغلال، والرابع هو تيار الصهيونية العربي، وأظنه أقل التيارات عددا وتأثيرا، وهو تيار يرى أمامه المجازر اليومية، فعمي قلبه وبصره عن التاريخ، وعن الإبادة الجماعية التي يقوم بها جيش الاحتلال، وما زال مشغولا بأن المقاومة تنفذ مشروع إيران، وأنها هي التي بدأت المعركة يوم 7 أكتوبر، فجلبت المجازر للمدنيين..".

ووصف في تصريحاته لـ"عربي21" التيار الأخير بـ"تيار الخنوع الذي يرى أن الحكمة تقتضي مراعاة موازين القوى، وأن قيادات المقاومة صدَّرت المعركة للشعب وهربت إلى قطر" مضيفا: "هذه أصوات الخزي والعار والانهزامية والخيانة، وفوق ذلك هي أصوات بعيدة عن أمانة وشرف التحليل السياسي الصادق، وتقرير الواقع".

وتابع: "فقيادات المقاومة موجودة في غزة، والقليل جدا منها في الخارج، وبنظرة سريعة تكتشف أن المئات من أبناء المقاومة استُشهدوا، كما أن إسرائيل هي من بدأت الحرب من حوالي 75 سنة، وما 7 أكتوبر إلا جولة واحدة، نتيجة الخنق والقتل المستمر، والتاريخ لا يكذب، والمقاومة وجهت سلاحها ضد عدوها، فوجب التضامن معها، وتأييدها، بل ومساعدتها بكل السبل".

ولاحظ القاضي أن "التيار الرابع ـ بقصد أو بغير قصد ـ اتخذ مصطلحات مطاطة في التعامل مع حرب الإبادة، فمرة يقولون: تصعيد في غزة، ومرة يقولون: الحرب بين إسرائيل وغرة، ومرة يقولون: الحرب على حماس، والحقيقة هي حرب إبادة إجرامية يقوم بها العدو المستعمر على أهل غزة بهدف تصفية القضية الفلسطينية".

وأنهى حديثه مؤكدا على أن "التدافع البشري الطبيعي يخضع لموازين القوى، لكن عندما يعتدي العدو على النساء والأطفال والمقدسات فيجب أن يقتصر الحديث هنا على التضحية والفداء والشهادة بالممكن والمتاح، وأي حديث عن مراعاة موازين القوى في هذا التوقيت هو حديث يخدم الاحتلال، ويشيع الانهزامية، حتى وإن سلمت مقاصد ونيات قائله".