قضايا وآراء

غزة التي كشفت انحطاط العالم

- الأناضول
دع عنك كل المفاهيم والمصطلحات التي تعلمتها عن الحروب وأهدافها الجيوسياسية واستراتيجيات فاعليها، ودع عنك الحديث عن السياسة الدولية ونظرياتها ومقارباتها، وعن النظام الدولي ومجلس الأمن والأمم المتحدة، تلك ليست سوى كلام إنشائي مدرسي تلوكه الصحف والمجلات، ويجري تعليمه في كليات العلوم السياسية للطلبة.

وإن أردت أن تفهم العالم المعاصر، وتطبيقاته العملية في إدارة السياسات والصراعات وتطبيقه لقواعد القانون الدولي واحترامه لحق الحياة والحرية، ما عليك سوى متابعة ما يجري في غزة، وستكتشف أن كل ما سبق ذكره مجرد غناء كئيب في واد لم تسمعه البشرية، بل إن كل ما أنتجه العقل البشري من فلسفات عقلانية وأنوارية ليست سوى قوالب كلامية فارغة، تصلح للاستعراض في الصالونات الشيك حيث تمتزج روائح البارفانات بالويسكي بالتحذلق الممجوج.

دعوا الوحش يُخرج كامل غضبه، لا توقفوه ولا تعطلوه عن مهمته، أغمضوا عيونكم عن الضحايا، سايروا الوحش، أكدوا له أنه محق في كل ما يفعل، ولا يجوز للفريسة أن تخدشه تحت أي ظرف، هذا هو حقيقة السياسات التي يديرها الغرب اليوم تجاه غزة، الغرب الذي يعود له فضل اختراع أغلب نظريات السياسة التي نعرفها في عالمنا المعاصر، وعن العقلانية المطلوبة في التطبيقات العملية للسياسة، ومراعاة الديمقراطية وحقوق الإنسان!

كنت أفكر في كتابة مقال عن المواقف الدولية من حرب غزة، عن مصالح وأهداف كل طرف، عن الرؤى والاستراتيجيات التي يتبعها هؤلاء، عن الديناميكيات التي ستتشكل بعد حرب غزة، عن حسابات اللاعبين وتكتيكاتهم، لكن هل هذا الجنون وحفلة الدم الرهيبة وقتل آلاف الأطفال والنساء وتدمير حواضر سكنية بحالها، يمكن أن تتم مقاربته وفهمه بلغة السياسة التقليدية أو الأكاديمية؟ من المؤكد أن ذلك سينتج نصّا عاجزا عن وصف وتحليل ما يحصل في غزة.

دعوا الوحش يُخرج كامل غضبه، لا توقفوه ولا تعطلوه عن مهمته، أغمضوا عيونكم عن الضحايا، سايروا الوحش، أكدوا له أنه محق في كل ما يفعل، ولا يجوز للفريسة أن تخدشه تحت أي ظرف، هذا هو حقيقة السياسات التي يديرها الغرب اليوم تجاه غزة، الغرب الذي يعود له فضل اختراع أغلب نظريات السياسة التي نعرفها في عالمنا المعاصر، وعن العقلانية المطلوبة في التطبيقات العملية للسياسة، ومراعاة الديمقراطية وحقوق الإنسان!

ما فائدة الحديث عن المجتمع الدولي الذي وقف عاجزا عن منع مجانين صهاينة من ممارسة ساديتهم وجنونهم تجاه أكثر من مليونين من البشر؟! وأين السياسة في تصرف أولئك أصلا؟ هل ينتمي ما يمارسونه للسياسة بأي شكل من الأشكال؟ ما فائدة الحديث عن مجتمع دولي ومجلس أمن وأمم متحدة لم يستطيعوا إنقاذ أكثر من مليون طفل في غزة تدوسهم آلة القتل، بعضهم تم قتله، والآخرون ينتظرون دورهم، فيما ما يسمى المجتمع الدولي، أو القوى الفاعلة فيه، تتقاطر على تعزية بنيامين نتنياهو وأخذ خاطره وتقديم عروض الدعم بمختلف أنواع الأسلحة والقدرات الاستخباراتية، وبعضهم جاء يتفقد حاجة مخازن إسرائيل وتسجيل ما تتطلبه عمليات إبادتها لسكان غزة من ذخائر فتاكة وأسلحة ذكية وغبية؟!

ما فائدة الرأي العام العالمي طالما هو مستعد لتصديق رواية مجانين إسرائيل، وإغماض العيون عن المذابح التي تفقأ العيون وعلى الهواء مباشرة؟ هل ثمة جدوى من التعويل على رأي عام تغذيه ماكينة الإعلام الصهيونية وتلقنه إحداثياته، بل وتحذره من عدم التفكير من خارج صندوق أدواتها الذي يرتكز على مزاعم مظلومية إسرائيل وديمقراطيتها وإنسانيتها، مقابل المتوحشين والظلاميين، أبناء النور مقابل أبناء الظلام، كما وصف نتنياهو الحرب التي تشنها إسرائيل على غزة؟

طالما تشدق منظرو سياسات العالم المعاصر، عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، بقدرة النظام الدولي على صياغة التوازنات العالمية بدقة ومهارة، والقدرة على ضبط الصراعات عبر الآليات التي يوفرها مجلس الأمن الدولي، غير أن أحدا لم يرَ ملامح ذلك في الحرب على غزة، وكأن غزة خارج هذا السياق العالمي!

دع عنك ما تسمعه من رفض بعض القوى الدولية لسياسات إسرائيل وأساليبها في قتل الفلسطينيين، لا يعدو ذلك أكثر من سياسات مناكفة ومناكدة تحصل في إطار سياق دولي متوتر بسبب المصالح والمنافسات، والاختلافات بينهم تحتاج إلى مساومات تقع خارج فلسطين ولن يستفيد منها أطفال غزة الذين يقفون في طابور الموت، ولا تكلف قوى العالم الحي نفسها حتى مجرد التوضيح لهم لماذا يساقون إلى المذبحة، ولماذا تصمت العوالم الحرة وغير الحرة عن هذه المهزلة السوداوية.

طالما تشدق منظرو سياسات العالم المعاصر، عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، بقدرة النظام الدولي على صياغة التوازنات العالمية بدقة ومهارة، والقدرة على ضبط الصراعات عبر الآليات التي يوفرها مجلس الأمن الدولي، غير أن أحدا لم يرَ ملامح ذلك في الحرب على غزة، وكأن غزة خارج هذا السياق العالمي، ومن ثم لا تنطبق عليها قوانينه ونظرياته!

لكن، مهلا؛ فعن أي قوانين نتحدث إذا كانت الأطراف التي تواضعت على هذه القوانين تأخذ من صندوقها ما تريد وتتجاهل ما لا يتوافق مع رغائبها وانحيازاتها؟ وفي حالة غزة جرى إحياء المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة التي تؤكد حق الدول في الدفاع عن نفسها، مقابل إهمال الرأي الاستشاري (الذي يملك قوّة القانون) الذي أصدرته محكمة العدل الدولية سنة 2004، والذي يؤكد عدم جواز تطبيق مبدأ الدفاع عن النفس إذا كان الطرف محتلا لأرض ويواجه مقاومة ضده!!!!

twitter.com/ghazidahman1