أفكَار

عجز الثورة التونسية عن تجسيد القطيعة مع الماضي.. مقدمات وأسئلة

ما جرى في تونس هو بروز حركة لها طابع ثوري في إطار وطني، بمعنى أن نظاماً قديماً يتهاوى ولا نعرف كيف سيكون عليه النظام الجديد، وهذه أحداث غير منتظرة..
الكتاب: "تونس الثورة والمحنة: مقاربة من منظور علم الاجتماع السياسي"
الكاتب: د. عبد اللطيف الهرماسي
الناشر: سوتيميديا للنشر والتوزيع، تونس، الطبعة الأولى 2023
(286 صفحة من القطع الكبير)

لم يتخلل الثورة التونسية العنف السياسي الجماهيري، الذي عادة ما تلجأ إليه الثورات الشعبية، والذي يشمل العنف الثوري، من خلال الأعمال العنفية المنظمة التي تشارك فيها قطاعات واسعة من الطبقات والفئات الشعبية، وتتسم بدرجة من السرّية، حروب العصابات والاغتيالات والانقلابات، إلى حدوث الثورة الشاملة.

لقد كانت الثورة التونسية قوّية في صراعها مع النظام الديكتاتوري السابق، بنهجها السلمي وتَفَوُقِهَا الأخلاقي، وبعدالة مطالبها في الحرّية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، وقوية بقاعدتها الاجتماعية العريضة التي انخرطت فيها طبقات المجتمع وفئاته وأجياله كافة، وقوية بالتماسك الداخلي للقوى المشاركة في صنع فصولها البطولية، ثم قوية بنفَسها الثوري الطويل الذي لا يكل ولا يتقطع بأثر من عياء.

ما جرى في تونس هو بروز حركة لها طابع ثوري في إطار وطني، بمعنى أن نظاماً قديماً يتهاوى ولا نعرف كيف سيكون عليه النظام الجديد، وهذه أحداث غير منتظرة، وهي أحداث سلمية في العمق. فهذه الحركة أطلقها شباب عربي وبعفوية لنشدان الحرّية. فقد كانت  الثورة التونسية كتاب جيل كامل ليس فقط من التونسيين أو العرب، وإنما كذلك على الصعيد العالمي باعتبارها شكّلت أحد أبرز الأحداث إن لم يكن أبرز حدث منذ بداية القرن الواحد والعشرين.. حدث جلب الأنظار استقطب اهتمام الرأي العام العالمي والقوى الإقليمية والدولية بما حرّكه من مياه راكدة في عالم السياسة وما أتى به من عناصر الجدة.

وبالفعل فقد تعلّق الأمر بأول ثورة شعبية اتجهت نحو إرساء ديمقراطية تعددية في عالم عربي توزّع مصيره منذ الحرب العالمية الثانية بين الخضوع لأنظمة ملكيّة مستبدّة وإرساء جمهوريّات يحكمها العسكر أو الحزب الواحد أو كلاهما، وساد الظن، خاصة في الغرب، بأنه نظام يجسد ويعطي مصداقية لمقولة الاستبداد الشرقي، مقولة صاغها مفكرو عصر التنوير واستعادها كما أعاد صياغتها نظرياً كل من (كارل ماركس) و(ماكس فيبر) وكررها العديد من بعدهما، وفحواها أن هذه الشرق، وعلى الخصوص جزءه العربي المسلم عقيم ولا يمكنه إنجاب ديمقراطية يمارس فيها المبدآن الأساسيان لحقوق الإنسان، أي الحرية والمساواة اللذان جعل منهما الغرب عنواناً لتفوقه الأخلاقي، من هنا تكون الثورة التونسية استثناءً، وهذا حكم مسبق وخطير، وإن كان مغرياً للأنا الوطني ـ القطري.

في هذا الكتاب الجديد، الذي يحمل العنوان التالي: "تونس الثورة والمحنة: مقاربة من منظور علم الاجتماع السياسي"، الذي يتكون من مقدمة معنونة بـ "الثورة التونسية بين أسر النماذج الكونية" ومقولة الإستثناء.. من أجل مقاربة متوازنة، لا عدمية ولا افتخارية"، ومن خمسة فصول، للدكتور عبد اللطيف  الهرماسي أستاذ علم الاجتماع بكلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بتونس، والقائد المؤسس للحزب الاشتراكي التقدمي الذي سمي عام 1983، ثم لاحقا الحزب الديمقراطي التقدمي، ثم الحزب الجمهوري، يقدم الباحث الهرماسي نظرة على بعض صفحات كتاب الثورة التونسية، في سيرورة أحداثها وما تمخض عنها إلى تشكيل صورة تُجملُها في عبارات أربعة هي: مفاجآتها ومفارقاتها واختراعاتها واكتشافاتها، ويستعرضها واحدة واحدة بما تيسّر من الإيجاز.

1 ـ المفاجآت:

أول هذه المفاجآت وأكبرها وُقوع الثورة ذاتها في اللحظة التاريخية التي حدثت فيها، حيث لم يكن أحد من التونسيين، حكاماً أو محكومين، ولا من المراقبين للشأن التونسي يتوقع حدوثها، وليسمح لي القارئ الكريم أن أقول بوصفي فاعلاً سياسياً ومراقباً للساحة السياسية منذ سبعينيات القرن العشرين، أنه لم يكن أحد يتوقع لا داخل السلطة ولا في صفوف المعارضة أن يتحرك الشعب التونسي ككتلة واحدة وفي هبّة واحدة ضدّ المستبدين بأمره منذ السابع من تشرين الثاني / نوفمبر 1987، ومرد ذلك الانطباع أن معظم التونسيين لم تصدر عنهم مؤشرات للرفض المعلن والميداني لسياسات لا ترضيهم وأوضاع لا يرتاحون إليها، ولكنّهم لم يجدوا ما يكفي من الشجاعة والاستعداد للتضحية للوقوف ضدها.

2 ـ المفارقات:

مفارقة تشكّل النقابات الأمنية وتحوّلها بسرعة إلى جماعات ضغط متنافسة ومتنازعة لا تكتفي بالمطالب المهنيّة بل تتجاوزها إلى التدخل في الشؤون السياسية وإلى انتزاع دور المتحدّث باسم وزارة الداخلية أو المؤسسة الأمنية وهي ظاهرة لافتة ولم يشهد العالم لها مثيلاً بما في ذلك الديمقراطيات الليبرالية الغربية، كما أتها عنوان للفوضى لا للحرية.

ـ مفارقة مصير فاعلين سياسيين أمضوا حياتهم النشطة في النضال لأجل الديمقراطية والتقدم وإن كان بالطرق الإصلاحية ليجدوا أنفسهم في تعارض ومواجهة مع الشباب الرافع لمطالب وشعارات الثورة وذلك بسبب مشاركتهم في مدّ جسر بين النظام القديم والوضع الجديد تفادياً للدخول بالبلاد في منطقة المجهول، وأيضاً مفارقة سلوك أطراف يسارية رفضت ما تعتبره أوهاماً إصلاحية ودفعت نحو الإطاحة بالحكومة الانتقالية للغنوشي لتصطف إثر ذلك في نفس الخندق مع مؤسسي حزب نداء تونس باسم مواجهة الإسلاميين وحلفائهم، ولتُمنى حساباتهم في النهاية بالخسران.

ـ مفارقة ديمقراطية وُلدت من رحم الثورة يهمّش فيها من أمضوا حياتهم في النضال لإرسائها وذلك لفائدة مغامرين وظّفو مالاً سياسياً مجهول المصدر، واستخدموا مرتزقة السياسة ليخرجوا بغنائم انتخابية معتبرة جعلتهم يحتلّون صدارة المشهد السياسي والإعلامي ويؤثّرون بقوة في السياسات والقرارات ويحرّفون المسار نحو ديمقراطية فاسدة.

ـ مفارقة انتفاضة شعبية مناهضة للفساد والتهميش تتمخض عن بناء منظومة سياسية يعشش فيها الفساد وتقضي إلى صعود تيار شعبوي يحاول إعادة صنع التاريخ بالرجوع إلى ثورة 17 كانون أول / ديسمبر والتبرؤ من لحظة 14 كانون ثاني (يناير).

3 ـ الاختراعات:

نعني بالاختراعات الظواهر الرمزية والإيديولوجية والصور التي أنتجها المتخيّل الثوري الجماعي، فقد أنتجت الثورة جملة من الاختراعات تجسّدت ابتداءً في شعاراتها بدءً بشعار (التشغيل استحقاق يا عصابة السرّاق) والتي وجد صيغته المهذّبة في شعار (شغل، حرية، كرامة) وصولاً إلى هتاف (الشعب يريد إسقاط النظام) وتعبيرته المختزلة بالفرنسية (ديقاج Dégage) واللذان وجدا رواجاً عالمياً.

كذلك شملت الاختراعات الأشكال النضالية التي جابه بها شباب سيدي بوزيد والقصرين فرق التدخّل، وتجسّدت في طابعها السلمي والمدني وفي الموقف الجديد للجيش من الانتفاضات الشعبية في بلد عربي، إلا أن أبرز اختراع ربما كان أسطورة الثورة ذاتها وهو ما حاولنا بيانه في مقال (الرمزي والمتخيّل) المضمن بهذا الكتاب.

4 ـ الاكتشافات

ـ  اكتشاف بعض الشباب إثر رحيل بن علي أن (الكبار) أي جيل المعارضين القدامى عجزوا عن إزاحة المستبد، بينما نجح الشباب في هذه المهمة، وقد ذهب بعضهم ممن ليس لطموحهم السياسي حدود إلى درجة مطالبة (شيوخ) المعارضة بالرحيل هم أيضاً، حتى يتركوا لهم المجال لقيادة المرحلة الجديدة في عملية إنكار لتضحيات أجيال كاملة من المناضلين وإصرار على قتل الأب، الأب الرمزي طبعاً.

ـ اكتشاف أستاذ القانون والسياسي اللانمطي قيس سعيّد أن حدث 14 كانون ثاني / يناير شكّل خيانة للثورة واستثماره في حملته الانتخابية ثم أثناء رئاسته لتبرير الانقلاب على المنظومة التي أتاحت له الوصول إلى الحكم.

أسئلة الثورة.. مكاسب ومصاعب علم اجتماع الثورات

يتّفق الباحثون التونسيون في علم الاجتماع على أن الحدث الذي اشتهر باسم (الثورة التونسية) حصل بشكل فجئي دون تخطيط مسبق، وعلى غير نموذج سابق، إلا أنه لا يوجد إجماع بينهم على معاملتها كثورة كما لا يوجد بينهم اتفاق على مدلول هذا اللفظ، لذلك وقبل النظر فيما إذا كانت هذه (الثورة) قد حققت الغايات المرسومة لها أو المنسوبة إليها، وما إذا كانت قد حافظت على بوصلتها أم أضاعتها في خضمّ الصراعات ومواجهة التحديات فإنّ ثمة حاجة للتطرق إلى مسائل أولية بدءاً بالكيفية التي طرحت بها مسألة تعريف الثورة على العموم وتوصيف الثورة التونسية على وجه الخصوص، ثم تحديد البيئة الاجتماعية التي احتضنت شرارتها والعوامل التي أنتجتها ودوافع الفئات التي فجّرتها أو التحقت بها، وأساليب تعاطي الأطراف السياسية والاجتماعية مع إشكالاتها واستحقاقاتها.

الثورة الديمقراطية الحقيقية لا تقتصر على تحقيق التغيرات في البنية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في البلد الذي تنجز فيه، بل إن أهم إنجاز تقوم به هو تأسيس لثورة ثقافية جديدة، تحتضن ديمقراطية حقيقية، وحرية تعبير، وتجسد قطيعة فعلية مع إرث النظام الثقافي القديم الذي كان سائداً
وفي كل الأحوال فإنّ هذه الثورة ما تزال في حاجة لقراءة، بل قراءات، يقترحها أهل علم الاجتماع بعد أن كان خبراء القانون قد قالوا كلمتهم بشأن الصيغ الدستورية للتحوّل إلى وضع ما بعد ثوريّ، وما حسبوه وضعاً انتقالياً نحو إقامة المؤسسات الدائمة والمستقرة، وهي توقّعات وقواعد ما لبث الواقع الاجتماعي أن كشف طابعها المصطنع أو النظري لينيط بعلم الاجتماع مهمة الاقتراب من الواقع والكشف من وراء الديناميات ومواطن الثقل الاجتماعية عن عدد من أوجه الخلل ومواقعه.

في قراءته للأسباب والعوامل التي أدّت إلى اندلاع الثورة التونسية التي استطاعت أن تسقط النظام السياسي ، وتفسح في المجال لاقتحام المجتمع التونسي مرحلة الانتقال الديمقراطي ،رغم أنها من دون قوة سياسية منظمة تقودها، يلجأ الباحث التونسي العربي صديقي في تعريفه للثورة التونسية  إلى الاستعانة بالتعريف الذي قدمه عن الثورة  "أيرك هوبزباوم" (Eric Hobsbawm)، حين يقول: إنّ الثورة هي تحوّل كبير في بنية المجتمع. ويركّز على فكرة التحوّل (Transformation) ولكن زمكانيّة التحوّل الذي تحدّث عنه الكاتب هي أوروبا ما بين عاميْ 1789 ـ 1848.

ويشير إلى أربعة عناصر تسترعي الاهتمام عند الحديث عن الثورة وهي:

الخصوصية:

وهنا يركّز هوبزباوم على أنّ لكل ثورة خصوصيتها من حيث الزّمان والمكان، وليس هناك تشابهٌ أو تطابق بين ثورتين.

وفى السياق العربي فإن لكلّ بلد خصوصيته من التكوين الديمغرافي والطبيعة الجغرافية وحتى الطبائع البشرية، فتونس تختلف بتركيبتها الديموغرافية وطبيعتها الجغرافية عن الشعوب المجاورة، ولها خصوصيتها التي تميّزها عن الآخرين. ولعلّ في ذلك نفياً لبعض المقارنات التي حاولت القول بأنّ الثورة التونسية جاءت شكلاً مكرّرًا للثورة في إيران عام 1979.

النصر:

ويعني انتصار منظومة جديدة على منظومة قديمة، ويشير هوبزباوم هنا إلى انتصار الفكر الرأسمالي الليبرالي على الفكر الاقتصادي الإقطاعي. وفي الإطار العربي لهذا العنصر يمكن الحديث عن غلبة منظومة قيمية عربية بكافة جوانبها على منظومة قيمية قديمة. وبيت القصيد في الحالة العربية حدوث حالة قطيعة بين منظومتين تختلفان عن بعضهما البعض بصورة كاملة.

البعد الجغرافي للثورة: حيث يشير هوبزباوم إلى تأثير هذا البعد في مناطق دول الجوار وفي صيرورة التحوّل (في إشارة منه إلى تأثير أوروبا في أميركا الشمالية). وفي السياق العربي يبرز هذا البعد بصورة جليّة في انتقال الثورة من دولةٍ إلى أخرى، وذلك نظرًا إلى التقارب الجغرافي ووحدة الدّين واللغة والتاريخ المشترك وإلى تقارب الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي لأغلب الدول العربية. وثورة تونس يجب أن تفهم ضمن هذا السياق، حيث امتدّت موجات الثورة إلى مناطقَ جغرافية مجاورة في اتّجاه الشرق والغرب.

التراكمية:

وهنا يُرجع هوبزباوم تفجّر الثورة إلى عوامل متراكمة عبر عدد من السنين أحدثت ضغطًا على القاعدة فولّدت الانفجار الذي يجسّد حالة الثورة. وفي السياق العربي يمكن القول بأن ثورة تونس هي نتاج تراكم عوامل ضغط اجتماعي واقتصادي وسياسي على القاعدة الشعبية ممّا أدّى إلى تفجّر الثورة التونسية، وهذا ينسحب كذلك على العديد من الدول العربية التي شهدت وستشهد ثورات مشابهة.

الثورة الديمقراطية الحقيقية لا تقتصر على تحقيق التغيرات في البنية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في البلد الذي تنجز فيه، بل إن أهم إنجاز تقوم به هو تأسيس لثورة ثقافية جديدة، تحتضن ديمقراطية حقيقية، وحرية تعبير، وتجسد قطيعة فعلية مع إرث النظام الثقافي القديم الذي كان سائداً، لا سيما لجهة الاستعمال الكامل للّغة الوطنيّة على المستويين الشّفهي والكتابي،والحال هذه  في تونس اللغة العربية باعتبارها اللغة الوطنية حسب ما ينص عليها دستور البلاد، التي يجب  احترامها والاعتزاز بها والغيرة عليها والدّفاع عنها.

وبالنظر إلى الثورة التونسية، تبدو المفارقة واضحة، حيث أن هذه الثورة الثقافية تبدو غائبة تماما، حسب رأي الدكتور محمود الذوادي ، الذي يقول، أنّ أغلبيّة التونسيّين تلوذ بصمت شبه كامل بشأن الإرث اللّغوي الثقافي الاستعماري الذي عمل على تجذيره نظاما بورقيبة وبن علي في شخصيهما وفي مؤسّساتهما وفي ثقافة المجتمع التونسي بصفة عامّة، بحيث أصبح معظم التونسيّين عن وعي ودون وعي يفتخرون بذلك الإرث وينادون بالإبقاء عليه وبصيانته.

ويتمثّل هذا الصمت في سكوتهم عمّا أسمّيه التخلّف الآخر متمثّلاً في الإرث اللغوي الثقافي الاستعماري الفرنسي الذي نجح بورقيبة وبن علي في المحافظة عليه على حساب الاستقلال اللغوي الثّقافي من المستعمر الفرنسي. إنّ مناداة بورقيبة وبن علي بصيانة الإرث اللغوي الثقافي الفرنسي على حساب لغة البلاد وثقافتها تعدّ شهادةَ على ضعف رؤيتهما للوطنية الحقيقية وقصورها. ويعلن الدستور التونسي في بنوده الأولى أنّ اللغة العربية هي اللّغة الوطنية للمجتمع التونسي المستقلّ، فكيف يجوز وصف نظاميْ بورقيبة وبن علي والنّخب السياسية والفكرية والمتعلّمة بالوطنية الحقيقية وهم قد عملوا ويعملون على تهميش اللّغة العربية وثقافتها؟

يقول الدكتور عبد اللطيف الهرماسي: "على أننا إذا غامرنا بتعريف أولي مستقى مما توصل إليه علم اجتماع التغير الاجتماعي والسيرورات الثورية، فإنه سيسعنا القول إن الثورة هي سيرورة من المتغيرات تفرزها أوضاع نزاعية حادة تأتي نتيجة خلل عميق ومستديم يصيب الواقع الاجتماعي والسياسي مصحوب بحالة انسداد أو جمود يصبح من غير الممكن الاستمرار في تحمّلها دون قطيعة مع الوضع القائم، تؤدي هذه السيرورة إلى سقوط النظام السياسي الحارس للأوضاع المرفوضة، وعادة ما يتجاوز الأمر تغيير الهيئة الضيّقة الحاكمة إلى تفكيك المؤسسة السياسية القائمة وأجهزتها الأمنية ومنظومتها التشريعية كما يمكن أن ترافع ذلك تحولات جوهرية في العلاقات والبنى الاجتماعية والقيم الثقافية، وبالنسبة للأوساط التي تلعب دور المحرك للثورة فإنها ليست بالضرورة ولا حتى في الغالب تلك الطبقات الفقيرة والبائسة إذ أن شدة احتياجها قد تتحول إلى عائق أمام تمردها، فما لوحظ في التجارب الكلاسيكية منها والمعاصرة هو أن الطبقات الوسطى هي التي تأخذ زمام المبادرة أو تتولى قيادة الثورات مع أن الطبقات الكادحة أو المسحوقة هي وقودها، لكننا سنرى أن هذا النموذج قد لا يكون قابلاً للانطباق الآلي على الحالة التونسية" (صص 13 ـ 14).