كتب

تعرف إلى خصائص التصوف الإسلامي ونشأته وتجلياته

الإسلام الصوفي نشأ أوّل أمره سلوكا عمليا أساسيا

الكتاب: "إسلام المتصوفة"
الكاتب: محمد بن الطيب
الناشر: دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، 2007
عدد الصفحات: 186


1 ـ بين يدي الكتاب

نُشر هذا الكتاب ضمن سلسلة "الإسلام واحدا ومتعدّدا" التي تصدر عن قناعة مدارها أن المذاهب الإسلامية تأخذ من جوهر الدين الصافي الرباني أولا وتتأثر في بسياقها التاريخي والاجتماعي أي البشري ثانيا. ومن هنا مأتى هذا التنوّع ضمن الخلفية العميقة الواحدة. ومن ثمّة عمل صاحبه على إحكام الوصل بين إسلام المتصوفة وسياقاته التاريخية "باعتباره نتاجا بشريا ونشاطا إنسانيا مهما تلون بالصبغة الرّوحية وزعم أهلوه أنهم لا يصدرون فيه إلاّ عن كشف إلهي وإلقاء روحاني وإلهام ربّاني". فدرس نشأة هذا الإسلام الصوفي وتطوره أولا وخصائصه ومقوماته ثانيا وتجليات المؤسس منه ووظائفه ثالا. وبدا مأخوذا بهاجس استصفاء الدراسات الصوفية لكثرتها المربكة ولكونها، على كثرتها تلك، لا تخرج غالبا عن المدح أو القدح، ملاحظا أنّ الباحثين كثيرا ما كانوا يختارون مدونات طيّعة تناسب دراستُها النتائجَ المحدّدة سلفا، معلنا طموحه إلى تقديم صورة تأليفية عن إسلام المتصوفة أقرب ما يمكن إلى الموضوعية. 

2 ـ نشأة الإسلام الصوفي وتطوره

يؤكد الباحث محمد بالطيب أنّ الإسلام الصوفي نشأ أوّل أمره سلوكا عمليا أساسيا. ولم يكن أبدا مذهبا نظريا. فقد كان منطلقه ذلك الزهد الذي يحث عليه القرآن. وكان فيه عكوف على العبادة والتأثر بأخلاق النبي والاقتداء بسلوكه. فقد جعل القشيري مثلا هذا الاقتداء شرط الانتماء إلى المذهب الصوفي. وعلى خلاف الفقيه الذي يشتغل على أفعال العبادات وهيئاتها، أي الحركات الخارجية كان المتصوّف ينصرف أكثر إلى البعد الرّوحي منها كإيثار الإخلاص والصبر والتوكل والخشوع الشوق إلى لقاء ربّه، وعامة كان ينصرف أكثر إلى كل ما له صلة بالمكابدة الباطنية التي تبتغي تصفية القلب من شواغل الدنيا.

ولكن عوامل نشأته لم تكن دائما دينية محضا، وفق ما يشير الباحث. فقد كان للشأن السياسي والاجتماعي والثقافي عصرئذ دور مهم في انتشاره. فقد ارتبط ظهوره بانتشار الفوضى والفتن والحروب والمظالم الاجتماعية وبظهور فئات مترفة بالمقابل، تبحث عن المجون واللهو وتنعم برفاهية العيش. وجميع هذه العوامل كانت تزهّد المؤمن في الدنيا وتحثّه على التعلّق بالآخرة. لذلك كان السريّ السقطي (ت 254) يردّد: "لا تأخذ من أحد شيئا ولا تسل أحدا شيئا ولا يكن معك ما تعطي منه أحدا شيئا" ولذلك أيضا عُرف المتصوفة بالفقراء. و"الفقيرُ، قوته"، بحسب أبي تراب النخشبي، "وما وجد ولباسه ما ستر ومسكنه حيث نزل".

 

من تعريفات التصوّف الأدقّ وفق الباحث ما عرضه المستشرق ج. نورباخش من كونه طريقا إلى الحقّ المطلق ومن كون محرّكه هو الحبّ. وهذا التعريف لا يخص التصوّف الإسلامي وحده في جليّة الأمر.

 

وأخذ هذا التصوّف، في مرحلة لاحقة، يتسع شيئا فشيئا. ويتّجه نحو الغلو في ترك الدنيا والانصراف عن مباهجها والبحث عن المشاق بحثًا علّها تروض النّفس والجسد. ثمّ أخد الزهّاد يتأثرون بالحركة الفلسفية "فتسربت إلى التصوّف مواد ذوقية وطقوس رهبانية وأضيفت إليه من الوافدين من سائر البلدان ومن البلدان الشرقية كالسّند وفارس خاصّة" وفق الباحث. وشملت الدعوة إليه حواضر العراق والشام ومصر "وقد انتهى أصحابه إلى وجوه من التّعبّد فيها تشدّد وسرف وغلو وإفراط حتّى ضاقت دائرة الحلال عندهم فلم تنطبق إلاّ على القليل من الأشياء". كما جاء في الأثر.

ومع حلول القرن الرابع للهجرة بلغت هذه الفلسفة الصوفية النضج والاكتمال. فتحوّلت العبادات من الغاية إلى الوسيلة، أي تحولت من الامتثال للأوامر الإلهية التي تبتغي مرضات الرّب إلى الفناء فيه. وعلى مستوى الممارسة تحولت من التجربة الذاتية الفردية إلى السلوك الجماعي الذي يقتضي تقاليد وآدابا وتراتبية: فأضحى لكل طائفة قطب يرشدها ويحظى بالنفوذ عند مريديه، "بحيث أصبح التّصوّف مذهبا منظّما وتحوّل من تجربة ذاتية يعيشها الفرد إلى مملكة روحية منظّمة تنظيما هرميا يستنسخ في هيكله العام التنظيمات الشيعية وإذا بنا أمام "حكومة باطنية" تتصرف في العالم وتحفظ عليه نظامه وعلى رأسها "القطب" وتحته "النقباء" و"الأوتاد" و"الأبدال"." تم أخذت هذه المذاهب طريقها إلى النسيج الاجتماعي فظهرت الطرق التي اكتسبت حظوة وسلطانا لا يزال قائما إلى اليوم.

3 ـ خصائص التصوف الإسلامي ومقوماته

للإسلام الصوفي خصائص ومقومات مميّزة منها:
 
أ ـ الحب الإلهي: فمن تعريفات التصوّف الأدقّ وفق الباحث ما عرضه المستشرق ج. نورباخش من كونه طريقا إلى الحقّ المطلق ومن كون محرّكه هو الحبّ. وهذا التعريف لا يخص التصوّف الإسلامي وحده في جليّة الأمر. فالمحبة عند المتصوفة عامّة هي أهم صفاتهم ومن الأصول الأساسية في تصوّرهم. فتتحوّل صلتهم بالله من الخوف إلى المحبة والعشق، بعد أن تفعل الرياضات والمجاهدات فعلها فيهم فتحرر الزاهد من حبّ الدنيا إلى حب صرف للذات الإلهية. وكانت رابعة العدوية (ت 158) أول من صدع بنظرية في الحب الإلهي، أي وصفت، في غير تهيب، رابطها بالإله بالحب، فالله عندها محبوب يشتاق إليه الإنسان. ومدار حبه على إنكار الذات والفناء في الله وهو ما يجسمه قول عبد الله القرشي "حقيقة المحبة أن تهب كلّك لمن أحببت فلا يبقى لك منك شيء". 

وبمقتضى هذا الحب يقبل المتصوّف على ربّه: لا خوفا من عذابه أو طمعا في جنته. ذلك أنّ جنته التي يبتغيها هي القرب من الله عز وجل أما ابتغاء الثواب فحجاب يحول بين القلب ومشاهدة من يحب. ثم قال بعدها عبد الواحد بن زيد (ت 177) متأثرا بها "وعزّتك وجلالك لا أعلم لمحبّتك فرحا دون لقائك والاشتفاء من النّظر إلى جلال وجهك في دار كرامتك". وكل من تكلم في الحب الإلهي مقتبس منها متبع خطاها، رغم إنكار بعض الطوائف أن يُحَبّ الإله ويُحِب وتوابعهما من شوق وأنس ومناجاة. فهذا التصّور عندهم ينطوي على مماثلة بين العبد والرّب.

 

كانت رابعة العدوية (ت 158) أول من صدع بنظرية في الحب الإلهي، أي وصفت، في غير تهيب، رابطها بالإله بالحب، فالله عندها محبوب يشتاق إليه الإنسان. ومدار حبه على إنكار الذات والفناء في الله وهو ما يجسمه قول عبد الله القرشي "حقيقة المحبة أن تهب كلّك لمن أحببت فلا يبقى لك منك شيء".

 

بـ ـ ومن أخص خصائص التصوف. المعراج الروحي: استعملت تسميات كثيرة للإشارة إليه، منها السفر والطريق والسير والسلوك. وارتبط التصوف بالمقامات والمنازل والأحوال التي يقطعها الصوفي وهو سائر إلى ربه، وبالعروج من عالم الظاهر إلى عالم الباطن وعالم الحقيقة. فـ"ـالمعراج الروحي يلخص التصوف بدءا ومنتهى، لأنه ينطوي على جانبي الحياة الصوفية المختلفين المتمايزين المتكاملين في آن: الجانب العملي والجانب العرفاني أو جانب المجاهدة أو تطهير النفس وجانب الكشف والعرفان والمشاهدة والإشراق" وفق الأثر. وأعلى درجاته الفناء والاتحاد ووحدة الشهود ووحدة الوجود، "حينما يفنى العارف عن شهود أفعاله ليشهد الفعل من الله محبوبه الأسمى، ثم يفنى عن كل ما سواه حتّى يبلغ أعلى درجات الفناء من خلال اتحاده بالمحبوب." 

والمقصود هنا إدراك العارف ذوقا وشعورا أنه عين محبوبه. ويميّز المتصوفة بين نوعين من الولادة. فالميلاد الطبيعي يتمثل في خروج الإنسان إلى العالم من الرحم. أما الميلاد الروحي، الذي لا يدركه إلا المصطفون فيتمثل في انخراط المتصوّف في العالم الروحي الذي يبدأ بالتوبة ويصطحب بحالة وجدانية يرافقها الشوق الملحّ نحو الله.

تـ ـ الذوق القلبي: يقول ابن عربي في أهمية الجانب الذوقي: "من أصولنا أننا لا نتكلّم إلاّ عن ذوق". وتفصيله أنّ التصوف أحوال يتلبس بها الصوفي، ويعيشها ضمن سفره الروحي في ذلك المعراج. وتتسم هذه الأحوال بالتفرّد ولا تخضع لمنوال بعينه. فتكون أسرارا وفيوضا و مكاشفات تعاش أكثر مما توصف. ولا يتسنى لغير السالك فهمها. فما يتعلّق بالوجدان لا ينفذ إلى النفس إلا عبر الوجدان. لذا يقول عنهم الغزالي: "فعلمت يقينا أنهم أرباب أحوال لا أصحاب أقوال، وأنّ ما يمكن تحصيله بطرق العلم فقد حصّلت، ولم يبق إلاّ ما لا سبيل إليه بالسّماع والعلم بل بالذّوق والسلوك".
 
وتمثّل هذه المجاهدات نظاما في السلوك ومنهجا في المعرفة يقوم على التأمل الباطني والمجاهدة الرّوحية والذوق القلبي سعيا إلى اليقين ومشاهدة الحقائق اللذين يحصلان في النّفس في شكل إشراقات تدرك بالبصيرة لا بالعقل: يختزل محمد بالطيب منهجهم الحدسي الإلهامي المباشر في المعرفة بقوله: "والمعرفة عند الصّوفية هي غاية الغايات من رحلتهم الشّاقة المضنية، وهي خلاصة المذاقات الرائعة التي أتيحت لهم بعد أن صقلوا بالمجاهدة والرياضة إرادتهم: وهي لا تحصل إلاّ إذا امتلأ القلب تماما بنور الله". فتكون مقدمات ضرورية لتلقي النفحات الإلهية والمعارف اللدنية، تلك المعارف الذوقية والوجدانية. وتُسمى المكاشفات حقائقَ ومعارفَ ويُسمى صاحبها بالمحقّق أو العارف. ولمنهجهم هذا تبعات، أهمها اعتبارهم أنّ العقل لا يقوى على إدراك التوحيد وبلوغ مقامه، ذلك السرّ الذي لا يكشفها الله إلى من يفنى عن نفسه في محبة الله بقدر ما يفنى عنها في التوحيد الإلهي.
 
4 ـ تجليات الإسلام الصوفي المؤسس ووظائفه

يعرض الباحث تطور التصوف وتدرجه من التجربة الشخصية، النخبوية بشكل ما إلى ظاهرة اجتماعية فرضت نفسها بداية القرن السادس للهجرة. ثم بعد خمسة قرون أخرى فشت في الأوساط الحضرية وتحولت إلى تصوف طرقي وظاهرة شعبية. وتأسست حلقات صوفية، تجمعها على اختلافها زمانا ومكانا ثلاثة عناصر بنيوية. أولها الشيخ المؤسس الذي يكون في قمة الهرم ويمثّل القدوة والمرجع والمنظّم، وثانيها الطريقة الروحية التي لها سننها الخاصّة لعبور المعراج. وثالثها الأتباع الذين تصل بينهم روابط وتعطيهم الشعور بالانتماء إلى هذه الطريقة.

ويصل الباحث هذه المؤسسات بالأوضاع السياسية أو الاجتماعية المتردية، ما يجعل من هذا الانتماء بحثا عن الانسجام الروحي والتضامن المذهبي وطمعا في التّخفيف من وطأة المناخ الكئيب خارج الطريقة. ويتوسع في شرح هذه الأوضاع إلى ما هو إقليمي ودولي كالمدّ الصليبي وفقدان الأندلس والاجتياح المغولي في الشرق إثر تفكك الخلافة العباسية وتهاوي البنى التقليدية مما زعزع الشعور بالأمان. ولما غذّت الصوفية روح التكافل انتشرت الطّرق وتفرّعت، فظهرت أولا الطريقة القادرية في العراق التي أسسها عبد القادر الجيلاني (ت561) ثم تبعتها طرق أخرى كثيرة. فتدعّمت سلطة الشيوخ. ونافست السلطتين السياسية (سلطة الأمراء) والدينية (سلطة الفقهاء). فمع انهيار مؤسسة الخلافة العباسية أصبح يطلق على الشيخ الخليفة. ومع تراجع دور الفقهاء وابتعادهم عن مشاغل الناس تحولوا هم إلى حفظة للشريعة. 

 

التصوف أحوال يتلبس بها الصوفي، ويعيشها ضمن سفره الروحي في ذلك المعراج. وتتسم هذه الأحوال بالتفرّد ولا تخضع لمنوال بعينه.

 

لقد أسهمت هذه الظروف الموضوعية في تعدد وجوه التصوّف وخوّلت له الانفتاح على أوساط مختلفة. فينقل محمد بالطيب عن أحمد بن أحمد الفاسي زروق (ت 899 ه) قوله "فللعامي تصوّف حوته كتب المحاسبي ومن نحا نحوه. وللفقيه تصوّف رامه ابن الحاج في مدخله، وللمحدث تصوف حام حوله ابن عربي في سراجه." ورغم صمود مذهب التصوّف إلى اليوم، يقدّر الباحث أنّ هذه الطرق باتت تواجه تقهقرا لظهور الدولة الوطنية البيروقراطية المركزية التي تمارس عليها المراقبة المالية خاصة وتحدّ من مواردها ومن وظائفها. ويرجّح أنها تسير إلى الزوال لعدم قدرتها على مواكبة تغيرات العصر وتحدياته. 
ولا شكّ أن دور هذه الطرق قد تراجع فعلا وتحوّل غالبا إلى شكل من أشكال الفولكلور. ولكنّ التصوّف باق في تقديرنا، باعتبار حاجة الإنسان إلى التجارب الروحية العميقة، وإن بأشكال وصيغ مختلفة عن التجارب الصّوفية التقليدية.