أفكَار

الوسائل التي استعملها الرسول خاصة بزمانه أم عابرة للأزمنة؟

مختصون في الفقه الإسلامي يناقشون سبل التعامل مع سنن الرسول صلى الله عليه وسلم (عربي21)

يستدل متدينون بأعمال ووسائل فعلها الرسول صلى الله عليه وسلم بحكم شيوعها في زمانه كلباسه الذي وافق فيه قومه، وتداويه بما هو شائع في عصره، ودعوته سرا وجهرا بما اقتضاه الحال في زمانه، على أنها من قبيل التشريع الديني الذي يجب الأخذ به، ولا يجوز مخالفته فيه. 

ويستدل آخرون منهم ببعض أفعاله الدعوية التي نُقلت وثبتت عنه في سيرته النبوية العطرة، فيطلقون عليها اسم "الطريقة الشرعية" لإقامة الدين يوجبون فيها بعض ما فعله الرسول عليه الصلاة والسلام كطلب النصرة من بعض قبائل العرب ليتمكن من تبليغ دين الله وإيصال دعوته للآخرين، فيرفع تلك الأفعال إلى مقام الأحكام الشرعية الملزمة، والواجب اتباعها. 

ووفقا لباحثين في علوم الشريعة فإن الرسول عليه الصلاة والسلام فعل أفعالا كثيرة، منها ما هو على سبيل التشريع، ومنها ما فعله بحكم الجبلة البشرية، ومنها ما كان من قبيل الخبرة الإنسانية وإدارة شؤون الحكم والسياسة، وكل صنف من هذه الأصناف له أحكامه التي وضعها العلماء في فهم دلالات أفعاله عليه الصلاة والسلام، ومنها الوسائل التي فعلها. 

ومن اللافت أن بعض القراءات النقدية تثير جملة من التساؤلات حول الوسائل والأفعال التي فعلها الرسول عليه الصلاة والسلام إن كانت من جنس التشريعات الدائمة، التي تتخطى عصره، وتتصف بصفة الديمومة، التي تجعلها عابرة للأزمان، أم أنها خاصة بزمانه، لا تتعداه ولا تتخطاه؟

في هذا الإطار تساءل الكاتب الجزائري والباحث الإسلامي، لخضر رابحي: "لا أدري لماذا أعطى كثير من الإسلاميين صفتي الديمومة والدين لوسائل استعملها النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه، ولم تكن مقصودة في ذاتها، بل كانت مجرد أدوات ووسائل متاحة؟". 

 

                          لخضر رابحي.. باحث جزائري

وأضاف في منشور له على الفيسبوك، اطلعت عليه "عربي21": "في اللباس مثلا: لبس النبي وصحبه لباس عصرهم، فالجبة والقميص ألبسة كانت لجميع الأمم، وفي التداوي؛ تداوى بأفضل وسائل عصره، وما أتاحته الخبرة الإنسانية آنذاك، وفي المراكب ووسائل النقل اعتمد وسائل عصره، من الخيل والبغال والحمير والجمال". 

وتابع: "وفي الحرب: اعتمد وسائل عصره من سيف ورمح ودرع، فكان يأخذ بأحسن الخبرة ولو جاءت من الكفار، أمر بالتداوي عند الحارث بن كلدة وهو مشرك، وأعطى فلاحة أرض خيبر لليهود مناصفة، فقد كانوا أمهر بالفلاحة، وكان سينهى عن جماع المرضع خوفا على الولد، ثم ترك ذلك وما عليه ثقافة العرب من اعتقاد تضرر الولد، وأخذ بالتجربة والخبرة الواردة من بلاد غير المسلمين، وأن ذلك لا يضر". 

وأردف موردا قوله عليه الصلاة والسلام: "لقد هممت أن أنهى عن نكاح الغيلة لولا أني رأيت فارس والروم يصنعون ذلك وما يضرهم، وقلد الكفار في الوسائل متى كانت مفيدة ونافعة، فقد كان يكتب رسائله من غير ختم، فقال له الصحابة: إن الملوك لا يقرأون إلا الرسائل المختومة، فاتخذ خاتما". 

وخلص الباحث رابحي إلى القول: "دين عالمي ومستوعب للزمن، لا يمكن حصره في وسائل الماضي، ولعلها من العلل التي صرفت الكثير عن الاهتمام بالإسلام، فلا يمكن لراكب السيارة الفخمة، أن يتأثر براكب عربة يجرها حمار ثم يقول له: تعال إلى الخير وإلى الهداية، فالورود الجميلة إن قُدمت في قوطي مزنجر مثقوب، لا أحد يمد يده ليمسكها أو يشم عبيرها، رغم جمالها وعطرها الفواح" على حد تعبيره. 
 
وتوضيحا لمراتب أفعال الرسول عليه الصلاة والسلام، ومنها الوسائل التي فعلها وما الدلالات المستفادة منها، أوضح أستاذ الفقه الإسلامي وأصوله في الجامعة الأردنية، الدكتور عبد الله الكيلاني أن "الفقهاء بحثوا هذه المسألة في تعريفهم للسنة، فمن المعروف أن السنة هي ما ورد عن النبي عليه الصلاة والسلام من قول أو فعل أو تقرير".

 



وأضاف: "فكل ما فعله الرسول عليه الصلاة والسلام يُعد من سنته، لكنهم في تقريرهم للأفعال دون الأقوال، قالوا إن النبي يفعل أفعالا بحكم الجبلة، وبحكم الخبرة البشرية، وبصفته رئيس دولة، وفي هذا المقام فإن بعض أفعاله ليست تشريعا تعبديا دائما، فوضعوا عنوانا لذلك "ما ليس تشريعا من أفعال النبي عليه الصلاة والسلام"". 

وأورد الكيلاني مثالا لذلك حينما سأله الحباب بن المنذر في غزوة بدر قائلا "أمنزلا أنزلكه الله أم هو الرأي والحرب والمكيدة، فقال له: بل هو الرأي والحرب والمكيدة، فأشار عليه بمكان آخر، وأخذ الرسول برأيه.. وهناك ما يصدر عنه كتدبير سياسي بوصفه رئيس دولة، فهذا يكون تشريعا مؤقتا مدة الأمر به".
 
وردا على سؤال "عربي21" حول أحكام أفعاله عليه الصلاة والسلام التي فعلها بحكم الجبلة، بيّن الكيلاني أن ما "فعله بوصفه بشرا، إن ورد فيه أمر فإنه ينتقل من المباح إلى درجة السنة، بمعنى المندوب، ولا ينقله إلى الوجوب، مثاله قوله عليه الصلاة والسلام "يا غلام: سمِّ الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك"، فالفقهاء حملوا هذا على أنه من الآداب، لأن الإنسان الغالب في حركته اليد اليمين، أنه سيأكل بها، نظرا لأن هذا الأمر في أصله أمر جبلي، إلا إذا ورد ما يفيد النهي والترك". 

وتابع: "أما بالنسبة لأفعاله في الدعوة إلى الله، فهو عليه الصلاة والسلام بدأ بعشيرته الأقربين، ثم توسع أكثر، ثم مكث مدة من الزمن يدعو سرا، ثم انتقل إلى علنية الدعوة، وبعدها إلى عالمية الدعوة، فهذه تُدرس كخبرات بشرية، فمثلا في زماننا يمكن الانتقال إلى عالمية الدعوة بكل سهولة ويسر، باستخدام الوسائل الحديثة، في البث والنقل عبر منصات ومواقع التواصل الاجتماعي المختلفة، أو التعليم أون لاين عن بعد، فلا يقال هنا إنه لا بد من البدء محليا ثم إقليميا ثم عالميا، فما فعله الرسول حقق المصلحة في زمانه وسياقه التاريخي". 

من جهته قال أستاذ الدراسات العليا بجامعة سيئون بحضرموت، الدكتور رياض فرج بن عبدات: "إن ما صدر عن الرسول صلى الله عليه وسلم أحد أمرين: الأول ما كان وحيا وجزءا من الرسالة، وفيه قوله تعالى (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [الحشر: 7]، وهذا واجب الاتباع". 

 

                            رياض فرج بن عبدات.. باحث يمني

وأضاف: "ومن ذلك اجتهاده صلى الله عليه وسلم في أمور الدين مما لا نص فيه؛ لأنه لا يقر على خطأ، والثاني: ما ليس وحيا، ولا من باب تبليغ الرسالة، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم "إنما أنا بشر، إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأيي، فإنما أنا بشر، ومستند هذا الخبرة والتجربة".

وتابع: "وهذا النوع الثاني، الذي ليس تبليغا للرسالة، وصدر عنه صلى الله عليه وسلم من ممارسة، أو وسيلة، مما مستنده التجربة والخبرة، وتقدير الأمور، كالأكل والشرب، والبيوت، واللباس، والفراش والمشي، والجلوس، والنوم، والتداوي والتجارة، والصناعة، والزراعة، والدعوة، وإدارة الدولة ونحو ذلك، فإنه لا يعدّ تشريعا واجب الاتباع لذاته".

وواصل عبدات حديثه لـ"عربي21" بالقول: "ولمّا لم يكن تشريعا في ذاته فإنه احتاج إلى ميزان وقانون، يضبط سيره، ويحكم تناوله؛ فكان الحكم الكلي عدم مصادمة الشرع صراحة، وكون الأمر محققا مصلحة راجحة معتدا بها شرعا حالا ومآلا، إذ إن ما لا يعد وحيا، ولا في معناه لا يقصد لذاته، وإنما يُقصد لتحقيق غايات الرسالة عمارة واستخلافا، وتمكين الإنسان الشاهد في الأرض من القيام بوظيفة الشهادة على الناس". 

واستشهد أستاذ الفقه الإسلامي وأصوله، عبدات في ختام كلامه بما قاله ابن القيم: "والطرق أسباب ووسائل لا تُراد لذواتها، وإنما المراد غاياتها التي هي المقاصد، ولكن نبَّه بما شرعه من الطرق على أشباهها وأمثالها"، والمسلمون مطالبون بالتأهل والتمكن من آليات النظر في مستجدات الأحوال، ليكونوا قادرين على أنجع الطرق والوسائل في أحوج المواقف والأحداث والأحوال".