قضايا وآراء

الرئيس الحلم.. الرئيس الكابوس

1300x600
مهما اختلفت تقويماتنا بعد الثورة للسيد قيس سعيد، الرئيس الحالي للجمهورية التونسية، فإننا لن نختلف كثيرا في أنه كان قبل الثورة "مواطنا مستقرا" بالمعنى الذي حدده المفكر الفرنسي إيتيان دي لابواسييه في مقالة "العبودية الطوعية". فلا يؤثر للرئيس زمن المخلوع نشاطا معارضا أو مسافة نقدية من السلطة وخياراتها الكبرى، بل كان يتحرك بالتلامس أحيانا مع تلك السلطة حتى في أكثر فترات انقلابها على الدستور، بوصفه خبيرا دستوريا أو أحد تقنيي المعرفة، لا بوصفه أحد المثقفين بالمعنى الذي وضعه ميشال فوكو، أو بالمعنى الذي وضعه سارتر (الانحياز للحقيقة معرفيا ولمن هم أدنى اجتماعيا).

ولعل الإشكال الذي يطرحه الرئيس بعد الثورة - ومعه العديد من الوجوه السياسية والإعلامية والنقابية والمدنية والجامعية - هو قضية انقلاب "المواطن المستقر" على ذاته/ تاريخه وتحوله إلى معارض جذري لمنظومة الحكم، أو على الأقل تقديم ذاته بهذه الصفة بصرف النظر عن تطابق الحال والمقال.
لعل الإشكال الذي يطرحه الرئيس بعد الثورة - ومعه العديد من الوجوه السياسية والإعلامية والنقابية والمدنية والجامعية - هو قضية انقلاب "المواطن المستقر" على ذاته/ تاريخه وتحوله إلى معارض جذري لمنظومة الحكم

من المواطن المستقر إلى الناقد الجذري

منذ ظهوره الإعلامي بعد الثورة، مثّل "الخبير الدستوري" قيس سعيد نوعا من الاستثناء في خطابات الخبراء الدستوريين. فقد كان استثناءً من جهة إصراره على استعمال اللغة العربية الفصحى في فضاء تواصلي تحكمه اللهجة التونسية واللغة الفرنسية، كما كان استثناءً في نبرته النقدية التي تجعله غير متماه مع أي طرف سياسي أو أيديولوجي، وكان أخيرا استثناءً في انحيازه الصريح للثورة التونسية وتمايزه عن الخطابات/ الكيانات التي تحاول ترذيل تلك الثورة أو تمجيد المنظومة السابقة. كان "الخبير الدستوري" يتخفف تدريجيا من سمات "المواطن المستقر" الذي تماهى معه طيلة حكم المخلوع، وكان "تقني المعرفة" الذي يؤتى به لتبرير خيارات السلطة ينسحب إلى الهامش تاركا المركز لـ"المثقف" المنحاز للمسحوقين والمصرّ على قول الحقيقة حتى عندما لا توافق هوى الحكّام.

هل هو حقا عدو المنظومة الحاكمة؟

مثّلت الاغتيالات السياسية (اغتيال المرحومين شكري بلعيد والحاج محمد البراهمي) مناسبة ليظهر فيها "النقد الجذري" لمنظومة الحكم عندما صرّح السيد قيس سعيد بضرورة أن "يرحلوا جميعا"، أي بضرورة أن ترحل الحكومة ومعارضتها. ولكن بين نقد "السلطة السياسية" بحكومتها وبين نقد منظومة الحكم بكل مكوناتها يوجد بون شاسع؛ سيحاول قيس سعيد توظيف هلاميته وضبابيته خلال حملته الانتخابية وبعد وصوله إلى قصر قرطاج. فلا أحد يستطيع الجزم بأن للرئيس مشروعا سياسيا يتجاوز تعديل الدستور في اتجاه النظام الرئاسي، ولكن لا أحد يستطيع الجزم أيضا بأن تقاطعات الرئيس مع دعاة النظام الرئاسي (من مثل زعيمة الدستوري الحر عبير موسى، وكذلك الاتحاد العام التونسي للشغل وبعض مكوّنات "الكتلة الديمقراطية" واليسار الثقافي) هي تقاطعات استراتيجية ونهائية بحكم التباس علاقة الرئيس بمشروع "الديمقراطية القاعدية"؛ التي هي مشروع لنسف المنظومة الحزبية والانقلاب على الدستور والقانون المنظم للسلطات.
لا أحد يستطيع الجزم أيضا بأن تقاطعات الرئيس مع دعاة النظام الرئاسي هي تقاطعات استراتيجية ونهائية بحكم التباس علاقة الرئيس بمشروع "الديمقراطية القاعدية"؛ التي هي مشروع لنسف المنظومة الحزبية والانقلاب على الدستور والقانون المنظم للسلطات

الأرقام لا تنطق.. ولكن ينطق بها الرجال

قد يكون من المبالغة أن نقول إن السيد قيس سعيد كان "حلما" لأغلب التونسيين خلال الدورة الأولى من الانتخابات الرئاسية. فرغم تصدره للنتائج (حصوله على620711 أي نسبة 4.18 في المائة من الأصوات، مقابل حصول السيد نبيل القروي على 525517 صوتا، أي نسبة 15.58 في المائة من عدد الناخبين)، فإن الأرقام تظهر أن القاعدة الانتخابية "الصلبة" للسيد قيس سعيد لم تبلغ حتى نسبة عشرين في المائة من الناخبين (لا من المسجلين في الانتخابات، ولا من مجموع المواطنين).

ولكنّ "السياق" الذي وضع السيد قيس سعيد في مواجهة السيد نبيل القروي خلال الدورة الثانية جعل وصوله إلى قصر قرطاج يتحول إلى حلم 1.72 في المائة من الناخبين. كان توسع القاعدة الانتخابية للمرشح قيس سعيد تعبيرا عن نوع من "الانتخاب المفيد" أو ضربا من "الانتخاب العقابي" لإسقاط خصمه، أكثر مما هو نوع من التماهي مع أطروحات الرئيس، خاصة ما يتصل منها بمشروعه السياسي. ولكنّ تعامل الرئيس مع تلك النتائج وقراءته لأرقامها - والتقاطعات التي حصلت بينه وبين بعض الأطراف السياسية والنقابية - جعل "الحلم" يتحول تدريجيا إلى كابوس عمّق الأزمة السياسية في البلاد إلى زمن كتابة هذا المقال.

من هنا بدأ الكابوس
تعامل الرئيس مع تلك النتائج وقراءته لأرقامها - والتقاطعات التي حصلت بينه وبين بعض الأطراف السياسية والنقابية - جعل "الحلم" يتحول تدريجيا إلى كابوس عمّق الأزمة السياسية في البلاد

بحكم الخلل البنيوي الذي يحكم القانون المنظم للسلطات - ذلك القانون القائم على الانتخاب المباشر للرئيس مع تحجيم صلاحياته - حاول السيد قيس توظيف "الإجماع السياقي" على شخصه خلال الدورة الثانية من الانتخابات، وقراءته باعتباره نوعا من التفويض الشعبي الذي يجعله أكبر من مجرد شريك "صغير" ومحدود الصلاحيات في السلطة التنفيذية. وقد ساعده على ذلك بؤس الشخصيات الحزبية يمينا ويسارا، وعجزها عن إدارة خلافاتها بعيدا عن لغة التخوين والاستقطاب الهووي، فضلا عن عجزها عن تحقيق الحد الأدنى من الاستقرار السياسي في زمن كورونا وما صاحبه من أزمة اقتصادية خانقة.

لقد جاء الرئيس قيس سعيد من خارج المنظومة الحزبية، ولم يكن يخفي موقفه السلبي منها، وهو ما يعني أن تحركه سيكون بالضرورة ضد تلك المنظومة التي هي أساس الديمقراطية التمثيلية. إن الإشكال السياسي/ الأخلاقي ليس في رغبة الرئيس في تعديل النظام السياسي أو حتى تغييره جذريا، بل إن الإشكال هو في "استراتيجية" تحقيق تلك الرغبة: عوض تقديم مبادرة تشريعية أو الاستفتاء على التعديل المطلوب، اختار الرئيس الدفع بتناقضات المنظومة الحزبية وبأزمات البرلمان إلى الأقصى، وهو ما زاد في تعفين الوضع السياسي. وعوض التحرك من موقع "رئيس كل التونسيين" اختار الرئيس أن يكون رئيسا لبعضهم، وعوض الاهتمام بتحقيق "المشروعية" في المجالات التي يكلها إليه الدستور (الخارجية والأمن القومي والشأن الديني، خاصة ما يتعلق بمؤسسة الإفتاء) اختار الرئيس منازعة الحكومة صلاحياتها الاقتصادية والاجتماعية وإنكار أي مشروعية لها.
قد لا يكون الحل في ضرب "الديمقراطية التمثيلية" بقدر ما هو في تغيير آليات/ منطق إدارتها، وهو أمر لا يمكن أن يحصل في المدى المنظور أو المتوسط إلا بظهور"كتلة تاريخية" تعيد تشكيل الحقل السياسي، بل تعيد بناء "المشترك المواطني" أو "الكلمة السواء"

هل يوجد مخرج من هذه الأزمة؟

بعيدا عن مثالية أنصار الرئيس الذين "يؤمثلونه" بصورة تعيد بناء صورة الزعيم المنقذ والقائد الملهم وروح الشعب، وبعيدا عن سطحية خصومه واختزاليتهم التي تُظهر الرئيس في صورة "العضو اللا وظيفي" في منظومة متناغمة وفعّالة - وهما تناغم وفعالية لا وجود لآثارهما واقعيا - يبدو أن عجز الرئيس عن أن يكون "حلما" موحدا لأغلبية التونسيين أو مبشرا بواقع أفضل، هو أمر لا يختلف فيه عن كل أدعياء الثورية أو الإصلاح يمينا ويسارا. وقد يكون من الحيف أن نربط الأزمة الحالية بوجود الرئيس أو حتى ببعض مواقفه المتناقضة ذاتيا (من مثل نقده الجذري لمنظومة الحكم وتحالفه مع اتحاد الشغل، وكأنه ليس جزءا من هذه المنظومة، أو رفضه للفساد وترشيحه لبعض المحسوبين على المنظومة السابقة من الفاسدين فكريا حتى إذا خلوا من شبهات الفساد المالي)، أو مواقفه المتناقضة عند ربطها بمواقفه السابقة (من مثل تناقض موقفه الحالي من تغيير الحكومة مع موقفه من الأزمة بين المرحوم الباجي قائد السبسي ورئيس الوزراء يوسف الشاهد).

إنّ الأزمة التونسية هي أزمة مجتمعية "بنيوية" وهي تتجاوز مؤسسة رئاسة الجمهورية، بل تفيض على مجمل الحقل السياسي. ولا يمكن بأي حال إعفاء كل الفاعلين الجماعيين - في المستوى السياسي وغيره - من مسؤولية تعميق تلك الأزمة أو الدفع بها نحو ممكنات كارثية. وقد لا يكون الحل في ضرب "الديمقراطية التمثيلية" بقدر ما هو في تغيير آليات/ منطق إدارتها، وهو أمر لا يمكن أن يحصل في المدى المنظور أو المتوسط إلا بظهور"كتلة تاريخية" تعيد تشكيل الحقل السياسي، بل تعيد بناء "المشترك المواطني" أو "الكلمة السواء" بعيدا عن الأطروحات الحالية التي لم تورّث البلاد إلا مزيدا من الفساد والتبعية رغم كل اداعاءاتها ومزايداتها.

twitter.com/adel_arabi21