قضايا وآراء

منهجيّة حافظ الأسد في احتواء الدّكتور البوطي

1300x600
عقب الاحتفال بمناسبة دخول القرن الخامس عشر الهجري، والكلمة اللّافتة التي ألقاها الدّكتور البوطي فيه؛ وجد حافظ الأسد أنّه وقع على كنزٍ لا يمكنه تضييعه من يده، وهو من المكرِ بمكانٍ وتحيط به منظومة أمنيّة جمعت بين الإجرام والدّهاء.

ما هي حاجةُ حافظ الأسد إلى الدّكتور البوطي؟

في خضمّ الصّراع المحتدم بين حافظ الأسد وجماعة الإخوان المسلمين في سوريا، التي ساندتها بطبيعة الحال جماعة الإخوان المسلمين والحركات الإسلاميّة في مختلف البلاد الإسلاميّة؛ كان حافظ الأسد بحاجةٍ إلى شخصيّةٍ علميّة شرعيّة فكريّة تحقق شيئا من التوازن والثّقل المكافئ للثّقل الفكري للشخصيّات الشرعيّة الفكريّة الإخوانيّة.

إنّ رموز العلماء والدّعاة في سوريا كانوا وما زالوا من أعمق النّاس رسوخا وتمكّنا في علوم الشّرع التّخصصية، ولهم باعٌ كبيرٌ في التّزكية وأساليبها وعلومها، لكنّ الكثيرَ منهم (لأسباب عدّة) لم يجمعوا البراعةَ الفكريّة إلى القدرة العلميّة التّخصصية الكبيرة التي يتمتّعون بها.

وهذا بخلاف العديدِ من الشّخصيّات العلميّة الشرعيّة الإخوانيّة، من أمثال مصطفى السّباعي ومحمد المبارك وعصام العطّار، أو الحركيّة المعارضة من غير الإخوان، من أمثال علي الطّنطاوي وعبد الرّحمن حبنّكة الميداني، التي برعت في الجمع بين متانة العلم الشرعيّ والإبحار الفكريّ.

وقد تأتّى نصيبٌ وافرٌ من هذا الجمع بين الأمرين للدّكتور البوطي؛ فهو عالمٌ أصوليّ راسخٌ وفقيهٌ متين، وكذلك حاله في عموم مجالات التّخصص الشرعيّ، إضافة إلى ذلك فهو شخصيّة فكريّةٌ من طراز متميّز، كان له باعٌ في طَرقِ مشكلات الحضارة ومحاورة الإشكالات الفكريّة المثارة حول تعاليم الإسلام، ومناظرة المستشرقين والسعي في نقض الماديّة الجدليّة الديالكتيكيّة، وجمع إلى ذلك كلّه حضورا إعلاميّا متميّزا وأسلوبا جاذبا في الحديث والطرح. وهذا ما لفت انتباه حافظ الأسد، فوجد أنّه وقع على مبتغاه في إيجاد شخصيّةٍ تُحدِثُ شيئا من التّكافؤ والتّوازن مع الشّخصيّات الشرعيّة الإخوانيّة، التي كان لها حضورُها ومكانتها في الواقع السوريّ آنذاك، رغم غيابها عن الفيزيائيّ عن السّاحة، إضافة إلى ضرورة سدّ الفراغ الذي أحدثه تهجير المئات من هذا الصنف من الشّخصيّات العلميّة الشرعيّة.

ما الأسس التي ارتكز عليها حافظ الأسد في احتواء الدّكتور البوطي؟

استطاع حافظ الأسد أن يحتوي بل يهيمن على الدّكتور البوطي من خلال ركائزَ أربع؛ هي: التّواصل المباشر، واللواء محمّد ناصيف، واستثمار الموقف المشترك من جماعة الإخوان المسلمين، واستغلال القناعات الشرعيّة المتعلّقة بطاعة وليّ الأمر وعلاقة العالم بالحاكم.

وسأقف مع كلّ واحدةٍ من هذه المرتكزات الأربعة (بإذن الله تعالى) وقوفا تفصيليّا في مقال مستقلٍّ لكلّ واحدٍ من هذه المرتكزات.

التّواصل المباشر؛ ودهاء حافظ الأسد

كان أوّل ما فعله حافظ الأسد هو فتح الباب على مصراعيه للدّكتور البوطي وتمتين العلاقة الشّخصيّة بينهما؛ فقد كان حريصا على استضافة البوطي بشكلٍ متكرّر، ومجالستِه ومحاورتِه. ولم يكن يجالسُه مجالسة القائد أو الزّعيم، بل مجالَسة الصّاحب النّهم للتّعلّم من صاحبِه. وكانت بعض الجلسات تمتدّ لساعاتٍ لا يقطع خلوتهما فيها أحد. وكان هذا التّواضعُ يأسِرُ قلبَ الدّكتور البوطي، إلى جانب افتعال حافظ الأسد مواقف تدغدغُ عواطفَ الدّكتور البوطي، وتلعب على وتر العاطفة المشيخيّة التوّاقة إلى رؤية حاكمٍ صالح.

ومن هذه المواقف على سبيل المثال؛ أنّ حافظ الأسد دعا الدّكتور البوطي في يومٍ من الأيّام لتناول طعام الفطور معه، وبعد وصول الدّكتور البوطي خرج عليه حافظ الأسد ووجهه ويداه المشمّرتان تقطر ماء، قائلا: أستأذنكَ في أن أصلّي ثمانيَ ركعات صلاة الضّحى؛ فأنا لا أترك صلاة الضّحى، ولكننّي انشغلت قليلا فتأخّرت فأعتذر إليك. ودخل غرفة أخرى ليغيبَ فيها ساعة من زمنٍ، والدّكتور البوطي ينتظر خروج هذا الحاكم الذي لا يفوّت صلاةَ الضحى أبدا!!

وفي إحدى اللّقاءات كان الدّكتور البوطي يجلسُ مع حافظ الأسد في مكتبه، فدخل عليهما ضابط برتبةٍ كبيرةٍ يحملُ بيده ملفّا، وقبلَ أن يتقدّم الضّابط عاجَلَه حافظ الأسد بالسّؤال: "صلّيت الظهر يا ابني؟"، فأجابه الضّابط: لا سيدي، فقال له الأسد: ارجع فصلّ ولا تؤخّر صلاتك عن وقتها مرّة ثانية، وبعدَ أن تصلّي أحضر لي الملفّات التي تريد عرضها.

ولك أن تتخيّل النشوة التي عاشها الدّكتور البوطي وهو يعاينُ الحاكمَ الذي يحرص على أداء موظفيه الصّلوات على أوقاتِها.

ومن هذه المواقف أيضا ما جرى عند لقاء حافظ الأسد بعدد من العلماء، وكان حافظ الأسد يُدني الدّكتور البوطي منه ويجلسه في الكرسي الأقرب إليه، يومَها لم ترتفع عين الدّكتور البوطي عن جيب قميص حافظ الأسد؛ وهو ينظرُ إلى كتيّبٍ صغيرٍ يبدو من خلف القماش الشفّاف قليلا.

فخاطبَه حافظ الأسد مبتسما: هذا وِردُ الإمام النّووي، أضعه في جيبي للبركة، لكنني أحفظه عن ظهر قلب، وقد تعرّفت على عظيم أثره وبركته منك، ومن يومها فأنا لا أترك قراءتَه قبل النّوم وبعد الفجر!!

مثل هذه المواقف كانت مستمرّة من حافظ الأسد في تعامله مع الدّكتور البوطي، لكنّها لم تكن وحدَها التي جعلت البوطي يثق بل يؤمن بحافظ الأسد وبصدقه، بل كانت هناك أمور عديدةٌ ساندت هذه البروباغندا التي كان الأسد يمارسُها باقتدارٍ مع الدّكتور البوطي.

وقبل استكمال بقيّة الأساليب التي كان حافظ الأسد يفعلها بالتّواصل المباشر مع الدّكتور البوطي، يقفزُ سؤالٌ مهمٌّ عند متابعة هذه المواقف وهو:

هل كان الدّكتور البوطي ساذجا لهذا الحدّ؟!

أمّا في مجال العلم الشرعيّ والفكر الإسلاميّ، فقد كان الدّكتور البوطي حادّ الذّكاء عميق الفكرة قويّ الحجّة، وهذا لا يعني بالضّرورة أن يكون كذلك في التّعامل مع أهل السياسة أو الحكم على الأشخاص.

لقد تعرّض الدّكتور البوطي لبروباغندا ممنهجة، إضافة إلى عدم خبرته في السياسة أو رجالها على الإطلاق، كما صرّح هو في أكثر من موضع ومناسبة. وكان يتبنى عبارة بديع الزّمان النّورسي: "أعوذُ بالله من الشّيطان والسّياسة".

نعم لقد كان الدّكتور البوطي في التّعامل مع السياسة والسياسيّين يتصف بسذاجةٍ؛ سببها في اعتقادي أمران:

الأوّل: عدم معرفتِه بألاعيب السّياسيين ودهائهم، فضلا عن ألاعيب حافظ الأسد ودهائه.

الثّاني: اعتمادُه في التّعامل مع حافظ الأسد مبدأ "حسن الظنّ"، وتصديقه في ما يقوله له ويفعلُه أمامه.

وهذا لا يبرّرُ وقوع الدّكتور البوطي في براثن خداع حافظ الأسد له، وإنّما يفسّرُ جزءا من الصّورة.

ومن نافلة القول؛ إنّ هذا النّوع من السّذاجة قد وقع فيه أعلامٌ عدّة من رموز العلم الشرعي والدّعوي في تعاملهم مع الحكّام في أنحاء مختلفة في العالم الإسلاميّ، وما فعله حافظ الأسد من هذه المواقف لم يكن سابقا فيه، بل سار فيه على منوال بعض أسلافه من الحكّام في تعاملهم مع العلماء والدّعاة، من أمثال جمال عبد النّاصر والحبيب بورقيبة وغيرهما.

ولكن هل قدّم حافظُ الأسد من الأفعال والإنجازات والأعطيات للدّكتور البوطي ما يجعله مصدّقا له؟ وما الفرق بين موقف كل من الدّكتور البوطي والمفتي أحمد حسون من آل الأسد؟

هذا ما نجيبُ عنه بإذن الله تعالى في المقال القادم..

twitter.com/muhammadkhm