أخبار ثقافية

وباء كورونا وأجواء رواية العمى لساراماغو

ساراماغو لم يضع اسما لأيّ شخصيّة من شخصيّات الرواية وإنّما عرّف هذه الشخصيّات ببعض صفاتها وبأعمالها- جيتي

لا يخطر ببال المرء وهو يقرأ رواية "العمى" الصادرة عام 1995 للروائيّ البرتغاليّ جوزيه سارماغو أنّ أجواء الرواية تخرج عن إطارٍ رمزيٍّ يتعلّق بالمجتمع الإنسانيّ على مستوى القيم والواجبات الأخلاقيّة التي تجعل من الإنسان إنسانا في الدرجة الأولى، وأنّ عدم القيام بما يجب على مؤسسات المجتمع وأفراده فعله قد يدمّر الاجتماع الإنسانيّ ويحيل البشر إلى نموذج بدائيّ يتصارع على السيطرة الغرائزيّة والحاجات الإنسانيّة الأوليّة في مرحلة ما قبل التهذيب الأخلاقي والدينيّ والثقافي. غير أنّ أجواء الهلع التي تسود العالم هذه الأيّام نتيجة لانتشار فايروس كورونا تذكّر بأحداث الرواية بواقعيّة كبيرة ورربّما دون غياب المعاني الرمزيّة تماما!

 

ولعلّ أجواء الهلع التي ظهرت في الرواية بسبب انتشار نوع من العمى أو ما تسميه الرواية بـ "الوباء الأبيض" ينتشر بين الناس عبر الاختلاط المباشر مع حاملي المرض، فبعد الازدحام الذي يحدث على إشارة ضوئيّة بسبب سيارة متوقفة، يظهر أنّ السائق فقد بصره فجأة، وهو ما يسبب لاحقا العدوى لمن اقتاده إلى بيته ولزوجته وللطبيب الذي عمل على تشخيصه بالإضافة إلى آخرين.

 

وفي محاولة السلطات احتواءَ الأمر تفرض عزلا على الأشخاص المصابين أو الذين خالطوهم. وفي هذه الأثناء أخذ الهلع الشديد بالانتشار بين الناس، والسلطات الرسميّة تعمل بالمقابل على تفسير الأمر مع عدم وجود تشخيص علميّ يقدّمه الأطباء وبالتالي بدون دواء للحد من انتشار الوباء. 


سبب الهلع بين الناس لا يقتصر على الخوف من الوباء، وهو ما يبدو أمرا طبيعيّا في مثل هذه الحالة، وإنّما يشمل الأمر الخوف من الحجر الصحيّ الذي يظهر على أنّه نوع من العقاب يُفرض على المصابين ويسلبهم حريّتهم وعملهم ويبعدهم عن أعمالهم، وكلّ ما يتعلّق بهويّة الإنسان التي تجعل منه ما هو عليه.

 

هذا ينطبق إلى حدّ ما على ما يشعر به الناس منذ ظهور فايروس كورونا وانتشاره. ومما لا شكّ فيه أنّ الخوف من المرض وفقدان الحياة هو ما يواجهه الإنسان في المقام الأوّل، لكنّ هذا ليس الأمر كلّه، فهناك مستوى آخر من الخوف يتعلّق بالاحتجاز وسلب الحريّة، باعتبار ذلك من أنواع العقاب الخاص بجرائمَ معيّنةٍ تخالف أعرف المجتمع وقيمه، الأمر الذي يعني أنّ الاحتجاز يتضمّن حكما أخلاقيّا وقانونيّا يؤدّيان في نهاية المطاف إلى نتيجة واحدة وهي تجريد المُحتَجَز من حريّته وجزءٍ من إرادته التي تميّزه عن سواه من الكائنات والموجودات. 

 

اقرأ أيضا : "كورونا" و"رهاب الموت".. حين تشل ثقافة الخوف "حياة الثقافة"


إنّ شعور الإنسان بهذا الأمر حتى لو كان على المستوى اللاواعي يؤدي إلى إثارة الصورة البدائيّة الكامنة داخل الإنسان، فتعود الذات إلى الأنانيّة والضعف والرغبة غير المهذّبة، وهو ما برز بين المحتجزين في رواية العمى بشكل مُضاعف، حتى زوجة الطبيب وهي الوحيدة التي لم تُصب بالداء المعدي كانت مضطرّة إلى قتل أحد العميان الذين اعتدوا على الآخرين وطعامهم وأخذوا النساء لغاياتهم بالقوّة والتجبّر.

 

مع وجود المبرر لما فعلته، إلا أنّ ذلك يعكس الصورة الوحشيّة التي تهيمن في مثل هذه الحالات، لا سيّما أنّ الرواية تعرض تخلّي الحكومة والمؤسسات الرسميّة عنهم، فلم تقدّم لهم المتابعة والتنظيم والمكان المناسب والطعام الكافي، الأمر الذي أتاح للمصابين التغوّل على بعضهم والتحوّل إلى صورة وحشيّة من الاجتماع الإنسانيّ. 


وعلى الرغم من أنّ الحكومة أعلنت عن إجراءات لمعالجة الأمور وحماية المجتمع، ومن ذلك على سبيل المثال ما يظهر في الرواية: " الحكومة تعي جيّدا مسؤوليتها، وتأمل من أولئك الذين تخاطبهم الآن، كمواطنين لا شكّ في سلامة مواطنيّتهم وحسّ المسؤولية لديهم، أن يتذكروا أنّ هذه العزلة التي وُضعوا فيها، تمثّل وفوق كل اعتبارات شخصية، تعاضدا مع باقي مجتمع الأمة".

 

إلّا أنّ هذه المحاولات لا قيمة لها أمام فكرة الاحتجاز وسلب الإنسان الحريّة وكأنّه مجرمٌ، ففي نهاية المطاف الهدف من الاحتجاز والإبعاد عندما يكون عقابا لا يختلف في جوهره عن الاحجتاز في أوقات الوباء، وهو حماية المجتمع والأمّة، وهذا الإحساس يجعل مستوى الرفض أعمق وأكثر مقاومةً. 


ومن الهمّ أن نلاحظ أنّ ساراماغو لم يضع اسما لأيّ شخصيّة من شخصيّات الرواية، ولا حتى الطبيب أو زوجته المبصرة، وإنّما عرّف هذه الشخصيّات ببعض صفاتها وبأعمالها، وميّز بينها بالأرقام، ولم يحدد كذلك المدينة أو الدولة التي اجتاحها الوباء ولا حتى الوقت الذي حدث فيه، ولم يحدد بشكل مقصود الكثير من المعالم الثقافيّة أو الدينيّة بدقّة عالية، وهو ما يفيد إمكانيّة تعميم هذه الأحداث ونتائجها على المجتمعات كلّها بغضّ النظر عن مستوى تقدّمها أو ثرائها أو طبيعة ثقافتها ومرجعيّاتها الأخلاقيّة.

 

وزوجة الطبيب المبصرة التي ادّعت أنّها أصيبت بالعمى لتبقى مع زوجها ولتساعده في الحجر لا تستطيع القيام بما يمكن أن يغيّر الوضع جوهريّا أو أن تكون ذات قيمة فريدة على المستوى الرمزيّ على الرغم من ملاحظاتها عيانا لكلّ ما يحدث، لذلك بقيت دون اسم أو هويّة كاملة في الرواية، وعبّرت عن إحساسها بلا جدوى امتلاكها البصر في مجتمع يسيطر عليه العمى، فتقول: "مؤلمٌ أن تكون مبصرا في عالم يسوده العميان".