أخبار ثقافية

"كورونا" و"رهاب الموت".. حين تشل ثقافة الخوف "حياة الثقافة"

قامت سلطات دول عدة من إلغاء الأنشطة الثقافية- جيتي

ليس كـ"خدعة" بطل غارسيا غابرييل ماركيز لحبيبته في رواية "الحب في زمن الكوليرا" ولا كقصة تلك البطلة العائدة من الصين ناقلة لعدوى فيروس قاتل في فيلم "كونتيجن" ولا هي كرواية "عيون الظلام" التي تنبأت بالفيروس منذ 1981.

 

بل هم أبطال "العمى" للروائي البرتغالي جوزيه ساراماغو، تعيدهم إلى ذاكرتنا الأحداث بذات التفاصيل حين يتحول الاحتمال إلى واقع... وحين ينجح الروائي في إنتاج واقع في القرن العشرين قابل للاستنساخ في القرن الحادي والعشرين وربما القرون القادمة بضمانة وحيدة ومؤكدة وهي المحافظة على نفس مستوى الشلل الفكري في مقاومة الأزمات.

 

في رواية "العمى" يصف ساراماغو حالة الهلع التي كشفت عن مستوى تدن أخلاقي وثقافي واجتماعي واقتصادي لامسه الكاتب في مشاهد ممسرحة كتابيا ومؤثرة جدا. ويقص علينا الراوي في أجزاء الرواية حالات التحجير اللاإنسانية التي تكشف أن غاية الحياة عند البعض تبرر حيوانية السلوك البشري أحيانا وهذا نتاج الخوف المرضي من الموت ومن الفناء.


فيروس "رهاب الموت" ؟


لا يختلف فيروس كورونا في انتشاره وتأثيره على الحركة الاقتصادية والثقافية والاجتماعية والسياحية عن وباء "العمى" الذي وصفه ساراماغو على لسان الطبيب وهو يتحدث إلى زوجته، وصفه بـ"العمى السيكولوجي" وهي نقطة التقاء مع كورونا في طريقة التعامل معها سواء من قبل المواطنين أو الحكومات ووزارات الصحة وكل المتدخلين في القطاع الصحي في العالم.

 

لقد نشط فيروس كورونا الدورة الدموية لفيروس متلازم الإنسان "الهش" في زمن التحركات الارتجالية بتخدير العقول وهو الفيروس الأكثر خطورة فيروس "رهاب الموت". والرهاب كما فسره علم النفس هو حالة خوف مرضية تتسبب في اضطرابات نفسية عميقة. وفي الواقع ليس مستجدا هذا الفيروس وإنما حقيقة وواقعا ارتبط بتاريخ البشر وبالإنسان غير الواعي.


ماذا عن الشارع التونسي؟


إنّ تفاعل الشارع التونسي مع كورونا لا يختلف في حقيقة الأمر عن الشارع العربي مع بعض التفاوت في درجات "الرهاب".

 

فتحولت الحياة يومية بتفاصيلها إلى صور كاريكاتورية تراها هنا وهناك في سلوكيات غريبة ومفاجئة وكان الحياة أزلية والموت فكرة مسقطة على العقل البشري. إذ بلغ الأمر حد الخوف من سعال خفيف في العائلة الواحدة.

 

وباتت الناس تمشي في الشارع متباعدة أميالا ليس عن وعي بطرق التوقي من احتمال الإصابة وإنّما الأمر أصبح هوسا عن جهل.

 

حيال هذا الأمر المضحك المخجل لو كانت الكورونا غير مختومة بحقيقة الموت لما صار هذا الهلع وحملات النظافة والتعقيم المفاجئة جدا وكان بـ"بفلسفة" الفيروس دخيلة على مجتمعاتنا والحال أن الأمر يعود إلى بدايات القرن التاسع عشر مع ظهور أول فيروس.


شلل تام في الحياة الثقافية


لم يتجاوز انتشار الفيروس حد الست إصابات حسب المصرح به من المسؤولين ولكنه تجاوز حد "شل" الحركة الثقافية بتأجيل أبرز التظاهرات الثقافية والفنية منها: تأجيل مهرجان عز الدين قنون للمسرح وتأجيل معرض تونس الدولي للكتاب وأيام قرطاج الشعرية و تأجيل أسبوع اليوم العالمي للمسرح وعديد التظاهرات العلمية الأخرى ولا زالت الوزارات تمطرنا ببلاغات التأجيلات والإلغاءات فبتنا نخاف العيش في منازلنا حتى نهاية 20/20 .


ربما نقطة الضوء الوحيدة: وفي المقابل عاد الجمهور عبر مواقع التواصل الاجتماعي إلى استهلاك المنتوجات الثقافية التي تتناول الفيروسات موضوعا في فيلم كونتيجن مثلا من احتلاله المرتبة 270 على اليوتيوب إلى المرتبة الثالثة بعد ظهور الفيروس. كما تحولت رواية "عيون الظلام" لدين كونتز والصادرة عام 1981 إلى حديث مواقع التواصل الاجتماعي على اعتبار أنها المتنبئة بالفيروس .


الفلاسفة والموت..


يقول سارتر أن الموت الذي يحرم الحياة من أيّ معنى فهو يجعلها عبث بلا مغزى. ويتفق معه نجيب محفوظ حين قال: "لا تخف، الخوف لا يمنع من الموت لكنه يمنع من الحياة" وهذا الملاحظ اليوم: ممارسة الموت بطرق مختلفة للنفاذ من موت الكورونا. 


السؤال المطروح: لقد عرفت البشرية أكثر من وباء ومات الآلاف، فألا يفترض أن تكون هناك استراتيجيات مسبقة لحل مثل هذه الأزمات بمجرد وقوعها أو التنبؤ علميا بوقوعها؟ لم التحرك فقط بتوقيت الأزمات؟ هل نسيت دروس إيبولا وسارس وميرس وإنفلونزا الخنازير؟


إن تبلد الفكر وإلغاء دور المفكرين في المجتمعات وسيطرة الرأسمالية المتوحشة قد "نمط" الفلسفة و"كلس" البحوث التي لم تخرج إلّا في جزء قليل منها عن المدارس الفلسفية القديمة.

 

وهذا ما "عملق" الجهل وجعل الوعي حكرا عن الأقلية التي تمردت على المنظومة الاستهلاكية وتحويل الإنسان إلى "مجتر" وليس منتج. ونفس هذا "المجتر" هو الذي يعيش حالة الهلع المرضية ويبيحها ويبعث من أجلها سوقا من الإشاعات التي كلما انتشرت كلما زاد الخوف وانتشرت ثقافة الموت. 

 

في كتابه "تهذيب الأخلاق" يقول مسكويه :" الجهل هو سبب الخوف وهذا الجهل هو الذي حمل الحكماء على طلب العلم وتركوا لأجله اللذات الجسمانية وراحات البدن، واختاروا عليه التعب والسهر وبرأيهم أن الراحة التي تكون من الجهل هي الراحة الحقيقية وأن التعب الحقيقي هو تعب الجهل لأنه مرض مزمن للنفس والشقاء منه خلاص لها وراحة سرمدية ولذة أبدية" . أما جاك ديريدا فقد دعا الى ضرورة تعلم فكرة الوجود العرضي حتى نتحمل فكرة الفناء.

 

حين توفرت لسقراط فرصة الهروب من زنزانته لم يهرب توقيا من أن يكمل حياته في حالة هرب وبالتالي خوف ومن ثمة عجز عن التفكير وهنا نختم بدرسه الأخير حين قال: " أنصتوا يرحمكم الله: يجب على العقل النقدي أن يتسم بشجاعة التفكير أولا، قبل شجاعة القول ثانيا، بل قبلها بدرجات ودرجات".


يقول الفيلسوف الروماني إميل سيوراي: "إن الطبيعة كانت كريمة مع أولئك الذين أعمتهم من التفكير بالموت والفناء ...فعندما يستقيل الوعي عن الحياة يصبح وحي الموت قويا لدرجة أن حضوره يدمر كل سذاجة ، كل الحماس السعيد وكل الشهوانية الطبيعية كما أنه يفرغ مكل مشاريع الإنسان النهائية وأوهامه اللاهوتية".


لا شك أنه من الضروري التوقي من هذا الفيروس والوعي بكيفية حماية أنفسنا حتى نحمي المحيط ولكن الأمر إذا بلغ حد الرهاب نصيرا أمواتا فوق الأرض. فلا تخف إن الخوف قاتل.