قضايا وآراء

الانسحاب الأمريكي بداية مرحلة خطيرة

1300x600
بإعلانه الانسحاب من شرق سوريا، يشعل ترامب كل ديناميات الصراع في المنطقة، ويخلط الأوراق بشكل لم تعتد عليه الأطراف المنخرطة في لعبة الصراع منذ سنوات طويلة، وبعد أن استقرت أغلبها على تفاهمات وتوافقات معينة، كادت تتحول إلى ترتيبات نهائية قبل إعلان ترامب انسحابه بساعة.

نفضت أمريكا يدها من صناعة مستقبل سوريا، وربما المنطقة كلها، ورغم الخسارة الاستراتيجية الكبيرة، إلا ان الحاصل هو تطبيق لرؤية أمريكية بدأت بالتخلق منذ ما قبل وصول ترامب للبيت الأبيض، ملخصها أن الشرق الأوسط لم يعد مكانا مهما للاستثمار المستقبلي بالنسبة للجيوسياسية الأمريكية، وأنه ليس أكثر من صورة مكبرة عن سوريا، التي وصفها ترامب بأنها أرض من رمال ودماء.

وبالنسبة لسوريا، يرى ترامب أنها قضية خاسرة لا تستحق حتى تكلفة وعناء وجود ألف جندي أمريكي على أرضها. ولا شك في أن حسابات ترامب، صاحب العقلية التجارية، ذهبت إلى أن سوريا، بظروفها الحالية وواقع الدمار التي عليه، سيكون من الصعب تعافيها وعودة الروح إليها قبل عقود قادمة وعبر ضخ مئات مليارات الدولارات، وأن سوريا دولة فاشلة، ولن تتغير إلى الأفضل في المستقبل المنظور، لذا من الأفضل الهرب منها وتوريط الآخرين بها، ما داموا متحمسين للبقاء بها.

ورغم إعلان بقية الأطراف، وخاصة اللاعبين الكبار، ابتهاجهم بالقرار الأمريكي، إلا أن الحقيقة أن هذا الانسحاب سيضع هؤلاء اللاعبين أمام استحقاقات لا يبدو أنهم قادرون على مواجهتها، كما أنه يضعهم أمام خلافاتهم التي جرى تنويمها بذريعة مواجهة التناقض الأكبر، المتمثل بوجود الخصم الأمريكي، إلا أن هذه التناقضات ستظهر على سطح علاقات هذه الأطراف سريعا، وخاصة ما يتعلق بحصة كل طرف من الغنيمة السورية، في ظل ادعاء كل طرف منها أنه كانت له مساهمة فاعلة في إيصال الأمور إلى هذه الخواتيم.

لا خلاف على أن روسيا سيكون لها اليد العليا في صناعة الترتيبات السورية القادمة، وذلك بحكم علاقاتها المنفتحة على جميع أطراف اللعبة، ونظرا لأصولها العسكرية في سوريا، بالإضافة إلى حقيقة أنها تملك تأييدا عربيا واضحا، وربما تأييدا دوليا، بخلاف إيران وتركيا. لكن رغم ذلك، لا يبدو أن روسيا لديها القدرة الفعلية على إخراج سوريا من أزمتها، بسبب انحيازها العلني والواضح لجهة محدّدة في الصراع، وضعف مواردها وإمكانياتها اللازمة لوضع سوريا على سكة التعافي، وفي ظل هاتين الإشكاليتين لا يبدو أن دورة العنف ستتوقف في سوريا.

لكن، رغم ذلك، لا بد من الإقرار بأننا أمام نهاية مرحلة وبداية أخرى جديدة، حيث سيعاد تشكيل الشرق الأوسط، أو بتحديد أكثر دقة، المشرق العربي، على رماد ثورات شعوبه. وهذا التشكيل سيتحكم به فلاديمير بوتين الذي بات الآن الحكم الاستراتيجي الذي لا غنى عنه في سوريا، وبدرجة أقل إيران وتركيا، وفي كل الأحوال لن يكون لصالح أولئك الذين حلموا بسوريا أفضل وتكبدوا خسائر فادحة.

وبالمنطق السياسي، سيطرة روسيا على صناعة مستقبل سوريا بشكل كامل، بمنزلة ضربة أسفل البطن لكل مشاريع التغيير في سوريا، ورغم أن الوجود الأمريكي هو احتلال في نهاية المطاف، لكن ما دامت البدائل كلها احتلالات، فالوجود الأمريكي كان يحقّق نوعا من التوازن، ولو في الحدود الدنيا، أما الانكشاف التام أمام روسيا وإيران ونظام الأسد، فهو إضعاف لطرف لا ينقصه ضعف بعد أن دفع أثمانا مضاعفة للصراع.

ولعل المدهش في الأمر، قبول العرب بهذه المعادلة، وتشجيعهم روسيا على المضي بحلولها السورية، على أمل أنها تستطيع لجم تركيا وإيران، لكن هذه نظرة قاصرة وتنطوي على تسرّع فظيع؛ ذلك أن روسيا، وعلى افتراض أنها أقل عدوانية من تركيا وإيران، فإنه غير مقدر لها البقاء على هذا الزخم، نتيجة مشاكلها البنيوية العميقة، ومن المرجح أن تنسحب هي الأخرى من الشرق الأوسط بعد رحيل بوتين عن السلطة، وقدوم سلطة أخرى ترى في الانكفاء على الداخل وحل أزماته الحل الأسلم لها، عندها نكون قد سلمنا المنطقة لإيران التي ستعمل خلال السنوات التالية على زيادة منسوب اختراقها للبيئات العربية.

مرّة أخرى، ستجد شرائح كبيرة في سوريا والعراق، والمشرق العربي كله، أنهم أمام جدار أصم، وأن وجودهم مهدد، وأن البدائل كلها سيئة، هذا إن وجدت بدائل، وأن لا حلول سوى مواجهة العنف بالعنف لتحقيق أدنى قدر من التوازن الممكن على الأقل.