أفكَار

بعد 57 سنة من رحيل الاستعمار.. الجزائر تبحث عن استقلالها

الجزائر.. إسقاط بوتفليقة وإلغاء العهدة الخامسة بداية طريق ديمقراطي جديد (أنترنت)

لازالت الأنظار مشدودة إلى الحراك الشعبي الجزائري، الذي انطلق يوم 22 شباط (فبراير) الجاري، وما يمكن أن تنتهي له هذه التحركات، التي انطلقت برفض الولاية الخامسة للرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، ثم سرعان ما تطورت مطالبها لتطالب بإسقاط الفساد ومنظمة الاستبداد.

وواكب الحراك الشعبي، الذي اتخذ من أيام الجمعة أياما أسبوعية للتحشيد وصياغة المطالب، جدلا سياسيا وقانونيا وفكريا، امتد ليشمل عامة الناس كما خاصتهم. وهكذا فعّل الجزائريون مواد من دستور بلادهم، بعد أن فهموا معناها ومبناها، ولازالوا يرفعون شعار تقرير المصير الذي تلخصه المادتان السابعة والثامنة من الدستور الجزائري.

وعلى الرغم من أن الولاية الخامسة للرئيس عبد العزيز بوتفليقة قد سقطت، كما سقط الموعد الأول للانتخابات، وسقط معه رئيس المجلس الشعبي، فلازال قادة الحراك، وهم يحيون اليوم الذكرى السنوية لرحيل الاستعمار الفرنسي عن ديارهم، يطالبون بالمزيد من إسقاط أصحاب الباءات، ضمن انتقال ديمقراطي يرفض الجزائريون أن تسقط قطرة دم واحدة لأجله. 

 


 
يحتفل الجزائريون اليوم الخامس من تموز (يوليو)، بعيد الاستقلال السابع والخمسين (5 تموز/يوليو 1962)، لأول مرة بنكهة وطعم مختلفين تماما، وهم يقومون في جمعتهم العشرين من عمر الحراك السلمي الذي انطلق في الـ 22 من شباط (فبراير) الماضي، في أجواء قريبة من نكهة احتفالات بعيد ثانٍ للاستقلال، بعد أن أدركوا خلال هذه العقود من الظلم والطغيان من عمر الدولة الوطنية، أنهم كانوا تحت حكم الدولة الوظيفية التابعة للمستعمر القديم، وأنهم لم يقوموا قبل 57 سنة من الآن سوى بتحرير الأرض بفاتورة عالية من دماء الشهداء، فاقت المليون ونصف مليون شهيد، وأن عليهم اليوم استكمال تحرير الإنسان، ولكن هذه المرة عبر ثورة شعبية سلمية بيضاء، من أجل الديمقراطية والتداول السلمي على السلطة. 

ولذلك، فإن ما يشعر به الجزائريون اليوم في الخامس من تموز (يوليو) 2019، قريب جدا مما شعر به آباؤهم قبل 57 سنة بالضبط، حين خرجت الجماهير المزهوة بعد وقف إطلاق النار، والاستفتاء على الاستقلال، لتحتفل بذاك النصر، لأعظم ثورة في التاريخ الحديث، على أبشع استعمار استيطاني وجد على سطح الأرض، حتى وإن ظلت هناك الكثير من الهواجس لدى بعض الشرائح، خوفا مما يعتبرونه "تلاعب العسكر" بثورتهم، وبحلمهم في التغيير الديمقراطي.

فهل حقا هي احتفالات الاستقلال الثاني اليوم بالجزائر، والبلد تسير بخطى مدروسة نحو إرساء نظام جديد، ترتفع فيه مجددا قيم ثورة نوفمبر عالية، بعد أن تم طمسها طويلا، بفعل منظومة حكم تابعة بالكامل لفرنسا، أم إن الأمر ما زال بعيد المنال، وأن على الشعب الجزائري أن ينتظر ذكرى الفاتح تشرين ثاني (نوفمبر) المقبل لكي تتضح صورة التحول الديمقراطي للبلاد، بعد إجراء أول انتخابات رئاسية حرة وشفافة؟

الاستقلال المغشوش أو المنقوص

أدرك الجزائريون بعد فترة من استرجاع السيادة على الأرض، أنهم خدعوا، وأن الاستقلال الذي نالوه بجبال من الأشلاء، كان استقلالا منقوصا أو مغشوشا، وأن المبادئ التي أعلنها المجاهدون في بيان أول تشرين ثاني (نوفمبر) الخالد لتفجير الثورة التحريرية، لم يتحقق منها إلا صورة استرجاع الأرض ظاهريا، بينما سقطت بقية الأهداف السامية في واد سحيق من العمالة والخيانة، كانت فرنسا الاستعمارية قد خططت لها بخبث كبير للحفاظ على مصالحها، عبر تكوين نخب موالية عرفوا في وقت الحركة الوطنية بالاندماجيين، الذين لا يرون أنفسهم خارج دائرة الثقافة والولاء لفرنسا، مع إغراق جيش التحرير قبل الاستقلال بجيش من الجنود العملاء من الجزائريين الذين خدموا في الجيش الفرنسي، وتم تكليفهم باختراق الثورة، ليحتلوا بعد الاستقلال مناصب حساسة للغاية داخل الجيش، وكانت تلك من أكبر خطايا الرئيس الراحل هواري بومدين، لاعتقاده أنهم جزائريون ويجب أن يستفيد البلد من خبرتهم، قبل أن يستولوا بعد وفاته الغامضة، على الجيش والرئاسة وشرعوا في ذبح الجزائريين بعد انقلابهم العسكري في كانون ثاني (يناير) 1992.

 



لقد كانت من أهداف ثورة تشرين ثاني (نوفمبر) الأساسية، (إقامة الدولة الجزائرية الديمقراطية الاجتماعية ذات السيادة ضمن إطار المبادئ الإسلامية). وحين تمت إقامة الدولة، غابت الديمقراطية والاجتماعية وذات السيادة الحقيقية، كما غاب بشكل مثير للوجع أن تكون تلك الدولة (في إطار المبادئ الإسلامية)، وكانت من مبادئ نوفمبر أيضا (احترام جميع الحريات الأساسية دون تمييز عرقي أو ديني)، في حين غابت جميع الحريات الأساسية تقريبا، وكان من أهدافها (محاربة الفساد)، في حين شكل الفساد، خاصة في فترة حكم آل بوتفليقة، دولة داخل الدولة، حتى غطى الفساد على كل شيء، وضيعت خلاله الجزائر في عشريتين من هذا الحكم الفاسد أكثر من 1200 مليار دولار تقريبا، من مداخيل البترول في صفقات ومشاريع شبه وهمية، بدأ الجزائريون يكتشفون اليوم كوارثها غير المعقولة، بعد تحرير القضاء.

لقد حمل المجاهدون الأوائل السلاح في وجه الاستعمار، من أجل جزائر مزدهرة وحرة وديمقراطية، يعيش فيها المواطن حرا بكرامته، وإذ بالحال هو أن وجد الجزائريون أنفسهم تحت حكم الحزب الواحد (من 1962 إلى 1989) أو تحت حكم الانقلاب والفساد (1992 إلى 2019)، فكان أن خرجت الجزائر من الاستعمار الفرنسي (1830 إلى 1962) وقبله الحماية التركية (1515 إلى 1830) لتجد نفسها أمام استقلال ناقص، أو استحلال، ووصاية وانتداب مغلف، ساهمت فيه بقصد وافر اتفاقيات إيفيان (18 آذار/مارس 1962) خاصة في بنودها السرية، التي رهنت الجزائر ثقافيا وسياسيا واقتصاديا.

نحو تحرير الإنسان بعد تحرير الأرض

ويقف الحراك الشعبي الجزائري، اليوم الخامس من تموز (يوليو) 2019، في الجمعة العشرين على وقع شعور عام بضرورة استكمال ثورته السلمية البيضاء، التي انطلقت منذ حوالي 5 أشهر، لتحقيق الاستقلال الثاني، في أجواء من احتدام الصراع، بين خارطة طريق الجيش، التي تدعو إلى عدم الخروج عن الحلول الدستورية، والذهاب سريعا إلى تنظيم انتخابات رئاسية شفافة، تحت إشراف وتنظيم ومراقبة لجنة مستقلة، يختارها الجزائريون بأنفسهم، وبين مطالب قوى أخرى تصر على ضرورة المرور بمرحلة انتقالية، تنهي جميع الارتباطات بالنظام السابق.

ورغم الاختلاف الواضح داخل الحراك بين دعاة الحل الدستوري، ودعاة المرحلة الانتقالية، بل ودعاة المجلس التأسيسي، الذين يطالبون بإعادة النظر في كل شيء بما في ذلك قضية الهوية التي تثير صراعات ساخنة، إلا أن الجميع يقف اليوم في الشوارع وعينه على استكمال مقومات الاستقلال الثاني للجزائر، التي يراها البعض في إحياء القيم النوفمبرية للثورة المجيدة، ويراها آخرون في تجسيد القيم الديمقراطية وتكريس الحريات الفردية والجماعية.

إن تحرير الإنسان الجزائري، بات اليوم مطلبا ملحا بالنسبة للجماهير التي تخرج كل أسبوع، لتكريس الحريات وحقوق الإنسان والحق في الاختيار وحرية التعبير، وكذا الحق في العمل وفي السكن وفي الإبداع، وبناء دولة غير مقطوعة عن جذورها وأصالتها، وقد تعلم الجزائريون أن هذا التحرير يجب أن يكون سلميا لا تسقط فيه قطرة دم واحدة، عبر ثورة سلمية بيضاء، ضد بقايا الاستعمار وأذنابه، وألا تتكرر تجربة التسعينيات التي سفكت فيها الدماء غزيرة، وانتهت إلى دكتاتورية أسوأ من تلك التي كانت قبل انتفاضة الخامس من تشرين الأول (أكتوبر) 1988.

 


لقد دفع الجزائريون ضريبة الدم غالية لتحرير الأرض، وها هم اليوم في معركة تحرير الإنسان، يمارسون أرقى أنواع النضال السلمي، التي توافقت مع منظومة الحكم الحالي، في العمل على تجاوز الأزمة، عبر الطريقة العبقرية الجزائرية، لإنقاذ الوطن من المصير المؤلم الذي وقعت فيه الكثير من الدول العربية.

بشائر الحرية 

ولا يمكن أن يستدل الجزائريون على بشائر الحرية التي لاحت في استقلالهم الثاني، إلا عبر مؤشرات يراها ويلمسها الجميع، بعد الإطاحة بحكم بوتفليقة، ضمن شراكة شعبية مع جيشه الوطني، وكان أبرزها، إدخال معظم رموز النظام السياسي والأمني السابق إلى السجون، بعد أن سجنوا شعبا كاملا طوال ثلاثة عقود من الزمن، باعتبارها أهم مطالب الشعب، وتوقيف كبار الفاسدين الذين كونوا ثروات طائلة عبر الفساد والصفقات المشبوهة، والسرقة وأكل أموال الشعب، وتفكيك "دولة الخوف" التابعة للاستخبارات السابقة، التي أذاقت الجزائريين الويلات.

الأهم من كل ذلك، أن بشائر سياسية تعد ببناء دولة القانون، بعد تحرير العدالة من سلطة الأمر الواقع، وقبول السلطة الفعلية بأهم مطالب المعارضة، بتشكيل هيئة تنظيم ومراقبة الانتخابات بعيدة عن وصاية الإدارة ووزارة الداخلية، ودعوة الجزائريين للحوار فيما بينهم، من دون مشاركة المؤسسة العسكرية في مخرجات الحوار، إضافة إلى بعض مؤشرات دولة القانون، والتزام القوى الأمنية بشكل مقبول عموما في التعاطي السلمي مع المتظاهرين، وترك المساحات لحرية التظاهر والتعبير عن الآراء.

إنها جميعا مكاسب ينبغي تثمينها، وإن كان المسار طويلا وشاقا، مع وجود بعض العثرات هنا وهناك، لكن يبقى أنه إذا عرف الجزائريون كيفية المحافظة على هذه المكاسب المهمة، وتتويجها بانتخاب أول رئيس جزائري منتخب شعبيا، يحظى بالشرعية الشعبية اللازمة، فإن ذلك من شأنه فعلا أن يجعل من الآن فصاعدا لأعياد الاستقلال رونقها الخاص، ووقعها القوي في نفوس الأجيال الصاعدة.

تحييد العصابة استقلال حقيقي

ويعتبر الكثير من الجزائريين، أن مجرد تحييد العصابة المالية والسياسية الفاسدة، هو بحد ذاته استقلال ثان للجزائر، حيث يعتبر المنتج السينمائي محمد واعلي في حديث مع "عربي21"، أن جمعة 5 تموز (يوليو) تعتبر استقلالا مكملا لتضحيات الشهداء الأبرار، وتخلصا من أيادي الغدر والخيانة المرتبطة بمستعمر الأمس، منوها إلى أنه "صحيح أننا تحررنا جغرافيا من المستعمر الفرنسي، لكن حراك 22 شبراط (فبراير) أماط اللثام عن مخططات الفاسدين، الذين يريدون ربط مصير جزائرنا بمصير فرنسا، وقد جاء هذا الحراك المبارك مكملا لفك الألغام  التي أخّرت نهضتنا وعطلت بلدنا للذهاب إلى جزائر نوفمبرية كما أرادها وناضل من أجلها الشرفاء".

 



وأوضح واعلي أن جمعة 5 تموز (يوليو) 2019 هي استقلال آخر، ناضل من أجله أحفاد الشهداء وجيل الاستقلال؛ لاستكمال بناء الدولة الجزائرية المستقلة في سيادتها والمحافظة على هويتها.

وبالرؤية نفسها، يؤكد الناشط في الحراك المهندس أسامة بوراس لـ "عربي21"، أن تحييد العصابة التي حكمت البلاد واسترجاع السلطة منها بمنزلة استقلال ثانٍ للجزائر، وما كان هذا ليكون لولا اتحاد الشعب والجيش في صف واحد، حيث خرج الشعب في مظاهرات عارمة واستعمل الجيش قوته لحمايتهم، كيف لا وهم أبناء الشعب البسيط الذين ترقوا في المناصب ليصلوا إلى أعلى المراتب في الجيش، بفضل سياسة الانتقاء التي اعتمدها القادة الحاليون للجيش، والتي عمدت إلى قبول النجباء فقط برفع سقف معدل الباكالوريا اللازم للالتحاق بالجيش، وكانت الحكمة الربانية عظيمة حين طرد هؤلاء الضباط الجدد ضباط فرنسا من جيشنا، بالطريقة نفسها التي طُرِدَ بها الشرفاء قبل سنوات من قبل هؤلاء الخونة. 

 

وتمنى بوراس أن يتم اختيار رئيس جديد للجزائر بصورة شفافة وأن يحكمها العدل، ويكون المنصب مهما كان صغيرا أو كبيرا لمن يستحقه.

الاستقلال الثاني ما زال بعيدا

في المقابل، يتخوف آخرون من الأوضاع الملتبسة التي تمر بها البلاد، ويفضلون الانتظار حتى ينقشع ضباب الوضع الحالي، وهو ما ذهب إليه الأستاذ وليد بن زيان، الناشط في الحراك الشعبي في حديث لـ "عربي21"، متسائلا عن أي استقلال ثان والجزائر لم تخرج بعد من الأزمة السياسية؟ كيف يكون هناك استقلال ثان والألغام التي زرعتها العصابة لا تزال تحاصرنا من كل الجهات، رغم أن المؤسسة العسكرية فككت العديد منها ولا تزال تعمل على تفكيك ما بقي منها، وعويل (الديموقراطيين المزيفين) ودعاة الحداثة والتنوير  واتخاذهم من مسألة بقاء ما يسمى بالباءات "بن صالح وبدوي" مسمار جحا وحجة يختفون وراءها لتأزيم الوضع؟

وأشار ابن زيان إلى أن يوم 5 تموز (يوليو) الحالي هو يوم عادي بالنسبة له، أما يوم الاستقلال الثاني هو يوم انتخاب رئيس جمهورية في انتخابات حرة ونزيهة يشارك فيها الشعب بقوة، يوم يسلم ابن صالح السلطة إلى الرئيس المنتخب ليكون تتويجا لثورة الشعب الجزائري الثانية، التي انطلقت يوم 22 شباط (فبراير) الماضي.

حذار .. قد يعيد التاريخ نفسه

عندما نقول إنه الاستقلال الثاني، أو على الأقل بشائره تلوح، فلأن التاريخ الجزائري، لم يسجل خروجا جماهيريا وشعبيا أبدا بهذه الكثافة والتصميم، إلا بعد الاستقلال الأول بعد ثورة مسلحة، وفي مثل هذه الأيام في ثورة سلمية، عبر فيها الملايين من الجزائريين قديما وحديثا عن هذه الرغبة في التحرر بطريقتهم، لكن ومثلما سجل التاريخ أنه في الوقت الذي كان فيه ملايين الجزائريين يحتفلون بخروج آخر جندي من أرضهم بعد احتلال طويل ومظلم، كان الخونة والمتربصون يستولون فيها على الممتلكات وعلى ما تركه المستوطنون، ليشكلوا بعد ذلك رأس حربة لثورة مضادة، أفقدت ذلك النصر العظيم قدسيته بعد ذلك، فإنه اليوم أيضا، بينما يخرج الملايين إلى الشوارع طلبا لاستعادة روح نوفمبر التي أطفأها من يصفونهم بـ "الخونة"، يترصد طابور كامل من أتباع الدولة العميقة، ودولة الكيان الموازي، المرتبط تاريخيا وثقافيا بفرنسا، للانقضاض أيضا على هذه الثورة، وإسقاط ثمارها، عبر ما يحيكه من مؤامرات، وتموقعات مشبوهة، وارتباطات محلية ودولية خطيرة.

باختصار، إنها فرصة الشعب الجزائري للتحرر من أعداء الماضي والحاضر، والأعداء التاريخيين ووكلائهم، فهل يلتقط الشعب وقيادته هذه الفرصة التاريخية الثمينة، لاستكمال ما بدأه الشهداء؟