أفكَار

الجزائر.. هل تصمد "سلمية الحراك" طويلا؟

سلمية الحراك الجزائري.. مزيج من دروس الماضي والحاضر في التعاطي مع مطالب التغيير السياسي (إنترنت)

إذا قدر لجائزة نوبل للسلام، أن تُمنح يوما لشعب، فإنها لن تجد أفضل من الشعب الجزائري، لكي يتقلدها عن جدارة واستحقاق. هذا الشعب الذي كان إلى وقت قريب، قبل بداية حراكه في الـ 22 شباط (فبراير) الماضي، يصنف ضمن أكثر الشعوب عنفا و"همجية" بحسب بعض الادعاءات على وجه الكرة الأرضية، اعتمادا على تجارب ومحن سابقة، غير أنه في لحظة وعي فارقة، خلط هذا الشعب كل الأوراق، وأطلق أكثر الثورات العربية المعاصرة سلمية وتحضرا، عبر مسيرات مليونية جابت طول الجزائر وعرضها، طوال أكثر من 3 أشهر دون توقف، شارك فيها الصغار والكبار، والرجال والنساء، حتى إن قوى الأمن وجدت نفسها تشارك في فعالياتها السلمية بطريقتها، لتشكل صورا أبهرت العالم، وأعادت للإنسان الجزائري ومعه الإنسان العربي، الصورة المشرقة التي أراد الإعلام المزيف إلصاقها به عبر وصمه بالهمجية والإرهاب.

 



وهكذا، بينما يسقط الضحايا في اعتصام القيادة العسكرية بالخرطوم، لتعيد تذكيرنا بفض اعتصام رابعة العدوية في مصر، وفض اعتصام الجبهة الإسلامية للإنقاذ عام 1991، والحروب الدموية التي اندلعت في سوريا وليبيا واليمن والعراق رغم انطلاقتها السلمية، يستمر الحراك الجزائري الذي دخل أسبوعه الـ 16، في صنع اللوحات الفنية الراقية نفسها، ومعه ترتفع أكف الشرفاء بالدعاء بأن يحفظ الله الجزائر وأهلها، من دسائس المتربصين الذين تكون هذه "السلمية" قد أصابتهم في مقتل، وجعلتهم يضاعفون الجهد للفتك بها.

سلمية بكل اللغات والأشكال

أمام تلك المشاهد التي أبهرت العالم، لن يكون من الصعب حصر مظاهر التحضر التي طبعت الجزائريين في حراكهم المتميز، ولعل من أبرز الصور التي رصدتها كاميرات الدنيا، أن يقف المتظاهرون صفوفا للدفاع عن قوى الأمن والشرطة، من جحافل المتظاهرين وتمنع احتكاكهم بها، ومعها كان المواطنون يوزعون الحلوى على أفراد الشرطة قبل إخوانهم المدنيين، علاوة على احتضان البعض منهم وتقبيلهم، مع ترديد عبارة (خاوة خاوة)، ما دفع بأعداد كبيرة من أفراد الأمن لأن تذرف دموعا حارة جراء هذه المعاملة الراقية.

وطبيعي أن حراكا تشارك فيه النساء بمن فيهن نساء حوامل، وعجائز وأطفال رضع، أصر أهاليهم على تسجيل حضورهم في معركة استرجاع الوطن المختطف، أن يكون حراكا بهذه السلمية، وقد انبرى الشباب لحماية النساء والعجائز من أي انزلاق، وقد كبح جموح نفسه المتحمسة وهو يرى من حوله الأخت والبنت والأم والزوجة، وزاد عن ذلك أن تحولت الحشود إلى جمعيات مصغرة للتكافل الاجتماعي والمساعدة، عبر توزيع الأكل والمياه، وفتح المساحات أمام مرور سيارات الإسعاف لعلاج الحالات الطارئة، والوقوف في طوابير أمام سيارات التبرع بالدم، وعلى حد تعبير أحد المتبرعين "لقد راهنوا على القتل بأن تسفك دماؤنا على الأرض، وها نحن نتبرع بها لصنع الحياة".

 



واللافت أنه حتى في الأسابيع الأخيرة، حيث تغيرت قليلا طريقة تعامل قوات الأمن مع المتظاهرين، وبدأ التضييق واستعمال بعض الأساليب الخشنة، كان الرد السلمي أيضا صاعقا، فقد واجهوا غلق بعض الساحات بفتح ساحات أخرى بكل هدوء، كما واجهوا خراطيم المياه الساخنة بعبارات ساخرة، تطالب من قوى الأمن المزيد من تلك المياه لاستكمال أخذ حمام جماعي على الهواء الطلق!

العشرية السوداء وراء الظاهرة

مهما حاول المراقبون فهم ظاهرة تمسك الجزائريين الشديد بسلمية حراكهم، لا يمكن أن تكون محاولة الفهم تلك بمعزل عن خلفية تاريخية تمتد إلى العشرية السوداء التي عاشتها البلاد في تسعينيات القرن الماضي، وقد بدأت تلك المأساة بعد فض قوات الأمن والجيش اعتصام الجبهة الإسلامية للإنقاذ في 4 حزيران (يونيو) 1991، الذي أعلنه مناضلو الجبهة ضد حكم الشاذلي بن جديد، في ساحة الشهداء وساحة أول أيار (مايو) بقلب العاصمة الجزائرية، وقتها تدخل الجيش الذي كان يقوده الجنرال خالد نزار بقوة وسحق المعتصمين وسالت الدماء غزيرة جدا، قبل أن ينقلب جيش يقوده من يسمون بجنرالات فرنسا، على فوز الجبهة الإسلامية للإنقاذ في تشريعيات كانون أول (ديسمبر) 1991 في 12 كانون ثاني (يناير) من العام 1992، وتدخل البلاد في ما يشبه الحرب الأهلية الطاحنة، التي خلفت مقتل عشرات الآلاف من الجزائريين، علاوة على أعداد كبيرة من الأرامل والمختطفين والمفقودين.

لقد عاش الجزائريون سنوات الدم والدموع قبل أن يعيشها أي شعب عربي آخر، ولم تتراجع أعمال القتل والدمار، إلا بعد مجيء الرئيس بوتفيلقة العام 1999 بعد إقرار قانون المصالحة الوطنية والوئام المدني، وهو الأمر الذي منع الجزائريين من الالتحاق بركب الثورات العربية التي اندلعت بداية العام 2011 ضمن ما يسمى بـ "الربيع العربي"، شكلت معها صور الدمار والقتل في سوريا وليبيا ومصر كابحا إضافيا، إلى جانب صور الدمار والذبح والمجازر الجماعية التي شاهدها الجزائريون بأم أعينهم، ولم تشاهدها الشعوب العربية للأسف بشكل واضح، في قرى "بن طلحة" و"الرمكة" و"بني مسوس" وغيرها من المجازر المروعة، بسبب الغلق الإعلامي وقتها، خلفية صلبة لرفض الجزائريين الانخراط في تلك الثورات، خوفا من مآلات غير محسوبة، وبالفعل فقد تبينت حكمة الشعب الجزائري حينها وقرر أن يصبر حتى بعد إعلان النظام ترشيح الرئيس بوتفليقة لعهدة رابعة بعد تعديل دستوري مفروض، وحالة صحية متردية للغاية للرئيس حينها، على أمل أن يتراجع النظام عن استفزازاته في ما بعد، ويدرك أن الشعب الجزائري صبر ليس جبنا، وإنما حبا لبلاده وإنقاذا لها من المؤامرات.

 



غير أنه بمجرد إعلان النظام عن قراره المجنون ترشيح بوتفليقة لعهدة خامسة وهو في حالة شبه موت إكلينيكي، شعر الشعب الجزائري أنه مس في كرامته بعمق، فقرر الانتفاضة، ولكن على أن تكون هذه الانتفاضة واعية بالقدر الكافي الذي يفوت فيه الشعب أي مؤامرة تستهدف إرجاعه إلى سنوات الجمر التي عاشها، فكانت السلمية هي السلاح الفتاك الذي قرر اللجوء إليه تحت أي ظرف، وها هي سلمية الشعب تنتصر في عبور نصف الطريق الصعبة، بعد إسقاط بوتفليقة، وهو يتوجه الآن بثبات نحو إسقاط باقي منظومة الفساد والاستبداد.

هل تستمر هذه السلمية طويلا؟

لكن يبقى الرهان الآن في استمرارية هذا النهج السلمي من عدمه، خاصة أن هنالك أطرافا عديدة تراهن على عامل الوقت، لاختراق هذا الحراك سواء في جانبه الشعبي، أو من جانبه الأمني عبر الضغط على الجيش ليسحب يده من تعهده بحماية الحراك وعدم سقوط قطرة دم واحدة.

ما يزعج اليوم حقا، رغم ما أثبته الشعب من تحضر ورقي كبيرين، أن أصواتا بدأت تظهر في وسط الحراك لجهات تتحرك بأجندات خاصة ولا يعنيها مصير الوطن في شيء، وهذه الأصوات بدأت تسعى بكل قوة عبر ما تملكه من وسائل إعلام وبروباغندا رهيبة، ومنها جهات معارضة مستقرة في الخارج، لكي يصطدم الجيش بالشعب، عبر الترويج لفكرة خيانة قيادة الجيش، وتحميلها مسؤولية عدم القبول بالذهاب إلى فترة انتقالية، تحمل في طياتها مخاطر ضخمة، على وحدة واستقرار البلاد، مع الدعوة الفجة للإطاحة بتلك القيادة، عبر انقلاب داخلي تقوده قوى معارضة للقيادة الحالية داخل الجيش.

وما يغذي هذه المخاوف، أن ما يسمى بالدولة العميقة في الجزائر، ما تزال قوية وضاربة، رغم أن أبرز رؤوسها توجد حاليا في السجون، ذلك أن الدولة العميقة هذه، بنت على مدار قرابة الستين سنة من الاستقلال، أذرعا إعلامية ومالية وحتى أمنية واسعة، ومن الصعب القضاء عليها بسهولة، من دون أن يحصل تحالف حقيقي بين الشعب بمختلف اتجاهاته مع الجيش، وهذه المهمة تبدو محفوفة بالمخاطر، خاصة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار مخططات الاستخبارات الأجنبية، وتآمر بعض الدول الإقليمية والدولية، من أجل ألا يستمر هذا الشكل السلمي الذي قد يحيل كل ما قامت به قوى "الثورة المضادة" في العالم العربي إلى رميم، إذا لم يتم إجهاض الحراك الجزائري، ومنعه من أن يكون أيقونة ومثالا للشعوب المستضعفة.

ولذلك يرى البعض اليوم أن كل السهام موجهة باتجاه الجيش الجزائري وقيادته الحالية، بغرض إحراجها أو دفعها لاستعمال العنف، أو الخضوع لمنطق الانقلاب عبر الخروج عن الأطر الدستورية، والذهاب إلى مرحلة انتقالية، تتيح لكل هذه القوى المتآمرة، الوقت الكافي للإجهاز على أمن الجزائر واستقرارها، وهو الأمر الذي يدركه الكثير من الخيرين في البلاد، ويعملون على مقاومتها بالحفاظ أولا على سلمية الحراك، بمرافقة الجيش الوطني الشعبي.

السلمية على المحك، وخطر الاصطدام حاضر

 


ويعتقد كثير من المراقبين في الجزائر، أن هذه السلمية ما كانت لتكون لولا وجود قرار فوقي بحماية المحتجين واحترافية أجهزة الأمن الجزائرية، حيث يؤكد بومدين معاش، أن السلمية إسهام مشترك بين المحتجين وقوى الامن، غير أنه يستدرك في تصريح خاص لـ "عربي21" أن طول الأزمة يجعل السلمية على المحك، فالضغط الذي تتعرض له القوى الأمنية بسبب الإجهاد واليأس الذي قد يصيب الجماهير بسبب عدم الاستجابة لمطالبهم، وتعزيز حالات الانقسام وبروز مظاهر الإساءة والتخوين داخل الحراك تجاه قيادات المؤسسة العسكرية، بالإضافة إلى تعطل مصالح الناس وشلل العمل الحكومي، كلها تجعل الحفاظ على السلمية عملا أسطوريا .

وهي النظرة نفسها تقريبا مع تشاؤم أكبر، يبديه الدكتور عبد الوهاب لقوارة، الذي عبر عن قناعته الشخصية بأن سلمية الحراك لن تطول وسيتدخل الجيش في النهاية لقمعه لأننا ببساطة ـ كما يضيف ـ  مازلنا نعيش تحت نير حكم الدولة البوليسية، و"لكني أتوقّع ردّ فعل عكسي من جانب الحراك إذ ستزداد وتيرته وتتصلّب مطالبه بعد القمع المتوقّع".

ويؤكد عبد الوهاب لقوارة لـ "عربي21" أن الاصطدام آت لا محالة وتنازلات الجيش الكبيرة لن تأتي إلّا بعد هذا الاصطدام. وهذا لا يعني أن الجيش سينسحب من السياسة فهذا شيء يبدو أقرب إلى الحلم حاليّا بالنظر لشخصية الرجل العسكري في الجزائر وتكوينه النفسي، وكلّ ما في الأمر هو إعادة تموقع تحفظ للجيش كلمته الفاصلة في الحكم في مقابل واجهة سياسية شبه ديمقراطية أكثر نظافة من العصابة السابقة مع هامش أكبر من الحريات الفردية والجماعية، أما بالنسبة لحلم الدولة المدنية برأيه فيمكنه أن ينتظر.

السلمية ستبقى عنوان الحراك والجيش لن يتدخل

في مقابل هذه النظرة التشاؤمية لمستقبل الحراك السلمي الجزائري، يؤكد مدير صحيفة "الإخبارية" الجزائرية كمال دوحة، إيمانه بأن السلمية ستبقى عنوان الحراك في الجزائر حتى ولو حاولت فئة من الشعب دفع الحراك إلى العنف، ولكن حكمة مصالح الأمن في تعاملها معهم ستمنع ذلك.

 



ويضيف كمال دوحة لـ "عربي21" أن الشيء الجميل والإيجابي الذي لاحظه الجميع من بداية الحراك، هو السلمية التي أظهرها الشعب في الشارع، وكذلك القوى الأمنية التي تعاملت بكل احترافية، منوها إلى أن السبب وراء ذلك هو التجربة التي مر بها كل من الشعب ومصالح الأمن خلال العشرية السوداء، التي جعلتهما يشعران بالمسؤولية الكبيرة لتفادي الانزلاقات التي قد تؤدي بالبلاد إلى ما لا يحمد عقباه، وحتى الجيل الجديد الذي لم يعايش تلك الفترة، استفاد من تجارب الثورات العربية وما حصل بعدها في ليبيا وسوريا واليمن.

من جانبه يربط الناشط عمار مساهل من مدينة برج بوعريريج التي باتت تسمى بعاصمة الحراك، بقاء سلمية الحراك وبقاء شعرة معاوية بين الشعب والجيش أو تمزقها، بمدى تغير النظرة الاستراتيجية للجيش محليا وإقليميا وخارجيا خاصة مسألة الضغوط الخارجية، ومدى تأثير أزلام الدولة العميقة في تحريض أزلامها من الجيش والشعب.

ويوضح الناشط عمار مساهل نظرته لـ "عربي21" أن مدى استمرارية هذه السلمية، مرتبط أيضا بمدى تفكك الحراك من كتلة واحدة اسمها الشعب إلى تصنيفات عرقية أو أيديولوجية (قبايل / عرب) (إسلاميون / يساريون.. إلخ)، وهنا تختلف الأهداف، مما سيؤدي إلى اختلاف الأساليب ومن ثم تطرف هذه الأساليب، وأيضا إلى دور اللوبي الفرنسي والتوازنات الدولية التي لن تسمح بتغير شامل في النظام السياسي الجزائري على غرار ما وقع في مصر.

رسائل الجزائر المتحضرة إلى فرنسا "الهمجية؟

في النهاية، يحرص الجزائريون بشكل كبير على تفنيد مقولة الوزير الأول السابق أحمد أويحيى، التي استفز بها الشعب في بداية الحراك بقوله: "في سوريا أيضا بدأت بالورود وانتهت بالدماء"، حيث خرجت بعدها مظاهرات عارمة تدعو لإسقاط أحمد أويحيى الذي سقط بالفعل، وهي تردد "الجزائر ماشي سوريا" (الجزائر ليست سوريا)، إلى درجة أن أطفالا في عمر الزهور كانوا يرددونها والدموع في أعينهم، من شدة الإحساس بالقهر والغضب، ومن حينها ترى الجزائريين يصرون على سلميتهم كما يصرون على مطالبهم، لأنهم يعلمون تماما أن ما حدث في سوريا من جرائم حدث قبلها في الجزائر، غير أن المتغير الكبير الذي طرأ على الساحة، هو ميلاد جيل جزائري جديد، يمتلك وعيا أعمق، وتجربة أكثر ثراء، وحرصا أكثر صدقا على حماية الوطن من مخططات الأعداء.

ويدرك الجزائريون اليوم جيدا، أن بلادهم التي حولها النظام إلى مثال للتخلف والفوضى في العالم، صارت اليوم بفضل وعي هذا الشعب، مثالا في التحضر والسلمية تتحدث عنه كبريات الصحف والمواقع العالمية بانبهار شديد، ويكفي أن الجزائريين اليوم يشعرون بفخر لا يقدر بثمن، وهم يردون على الفرنسيين الذين طالما احتقروهم بدعوى أنهم "همجيون"، وهم يقولون لهم إن القوم الهمج هم أنتم أيها الفرنسيون، وما تفعله تظاهرات أصحاب السترات الصفراء خير دليل على ذلك، حتى بات الكثير من الفرنسيين اليوم يعترفون بذلك علانية، ويدعون مواطنيهم صراحة للاقتداء بحضارية الشعب الجزائري، الذي لم يكتف بإعطائهم بالأمس دروسا في الثورة المسلحة، وإنما صار اليوم يعطيهم دروسا في التحضر وحب الوطن والثورة "السلمية"، وهذا وحده كفيل بأن يجعلهم  أكثر إصرارا على سلميتهم هذه، التي في حال استمرارها بهذا الشكل، ستطيح بلا أدنى شك بعرش الوصاية والانتداب "المقنع" من دون رجعة.