قضايا وآراء

أنا قومي ويساري.. لماذا أدافع عن البيئات الحاضنة للإسلاميين؟!

1300x600

يتذاكى بعض المثقفين العرب، عبر تبرير حرب الإبادة التي يشنها ملهمهم بشار الأسد، على آخر مناطق المعارضة في سوريا، في أرياف حماة وحلب واللاذقية وإدلب، من خلال التأكيد على أن هؤلاء جميعهم من داعش والنصرة، وهؤلاء ليس لهم ، كما البشر العاديين، حقوق إنسان، ما يعني أن هؤلاء المثقفين، وبعضهم يكتب في منابر تزعم الدفاع عن القيم الإنسانية، ينفذون أمر عمليات صادر من ملهمهم في دمشق.

لا حقوق للدواعش والنصرة، بل إن مراعاة حقوق الإنسان في أمثال هؤلاء هو تدعيش لحقوق الإنسان نفسها، وتشويه لقيم الإنسانية، بذريعة أن هؤلاء لا يعترفون بتلك القيم، فلماذا على الآخرين مراعاتها في الحرب عليهم؟ ثم لماذا مطلوب من اليسار والقوميين، حسب ادعاء هؤلاء، التعاطف معهم، ومع الإسلاميين خاصة، وهم لم يتعاطفوا يوماً مع نضالات اليسار والقوميين ومواجهتهم للأنظمة، بل على العكس، جنّدوا أنفسهم مخبرين لدى أنظمة الحكم في ملاحقة أصحاب التيارات المذكورة. ثم إن هؤلاء يرتبطون بدول خارجية، وبالتالي لا يستحقون منا الرحمة لاستقوائهم بالخارج على وطنهم.

هذا المنطق سمعناه منذ بداية الثورة، وكان الهدف منه محاولة لتبرئة ضمائر هؤلاء، وإبعاد شبهة عبادة الاستعباد والدفاع عنه، أو معاداة تطلعات الجماهير، فكان أصحاب هذا المنطق يحاولون الالتفاف على التناقض الهائل بين ادعاءهم النضال ضد الاستبداد، وتخاذلهم يوم هبت الشعوب لإسقاط هذا الاستبداد وتغيير المعادلات السياسية في العالم العربي، بما يتوافق وقيم الحداثة السياسية، بما تعنيه من ديمقراطية وحرية رأي وشفافية.

 

أصحاب هذا المنطق يحاولون الالتفاف على التناقض الهائل بين ادعاءهم النضال ضد الاستبداد، وتخاذلهم يوم هبت الشعوب لإسقاط هذا الاستبداد وتغيير المعادلات السياسية في العالم العربي

هذا كان في بداية الثورات العربية، لكن يبدو أن هذا المنطق جرى تطويره ليصبح أكثر تشدداً من سدنة الأنظمة أنفسهم، ويزايد عليهم، من منطلق أن لديهم هامشا أوسع من أركان الأنظمة، فهم لن يحاسبهم أحد لو طالبوا بالإبادة للثائرين والمعارضين، بالإضافة لكون الأنظمة يمكنها توظيف صوتهم في القول إن هؤلاء يمثلون فئات وتيارات اجتماعية واسعة تضغط على السلطات، بهدف استعمال أعلى درجات التشدّد تجاه المعارضين.

لكن لماذا برزت هذه الدعوات، بهذا الشكل الفج، وفي هذا التوقيت بالذات؟ ليس خافياً أن ثمة عاملين مهمين جعلا أصحاب هذه الدعوات يكشفون عن وجوههم القبيحة وليفضحهم توترهم:

- صمود الثوار في إدلب في وجه حملة تشنها روسيا بشكل مباشر وعلني، وتستخدم كل أنواع الأسلحة، بما فيها الكيماوي الذي تم استخدامه في الكبانة (اللاذقية)، دون تحقيق نتائج مهمة، بل إن خسائر روسيا وأدواتها كانت كبيرة وفاضحة.

- التوحّد الذي أبداه الثوار، بكل أطيافهم ومشاربهم، ومن مختلف البيئات السورية.. عربا وكردا، علويين ومسيحيين ودروزا وسمعوليين وشيعة، علمانيين وليبراليين وماركسيين وإسلاميين، في الحزن على استشهاد عبد الباسط الساروت، وتجديد الزخم الثوري والقوة الهائلة التي ظهرت عليها الثورة، والتأييد الكبير لإسقاط النظام.

 

كانوا يعتقدون أن نظام الأسد قد أخضع السوريين لقرن قادم، ويستحيل أن تقوم لهم قائمة، وأن الثورة هجرها أصحابها وتفرقوا عنها بعد أن أحبطتهم الهزائم

شكل هذان الحدثان لطمة قوية في وجه أدعياء القومية واليسارية أولئك، وكانوا يعتقدون أن نظام الأسد قد أخضع السوريين لقرن قادم، ويستحيل أن تقوم لهم قائمة، وأن الثورة هجرها أصحابها وتفرقوا عنها بعد أن أحبطتهم الهزائم. وهذا يعني أن منطقهم كان سليماً وموقفهم كان في المكان الصحيح، وأن ضمائرهم مرتاحة، وأن مئات آلاف القتلى وملايين المعاقين والمشردين ليسوا نتيجة موقف هؤلاء مع الأنظمة، وليسوا أصلاً بسبب عنف الأنظمة، بل نتيجة قرار خاطئ وغبي من شعوب جاهلة عرفت خطأها فيما بعد، بدليل أن الثورات ماتت ولم يعد أحد يأبه بها.

المضحك في الأمر، هو قول هؤلاء: لماذا يطلب منا نحن القوميين واليساريين الدفاع عن الإسلاميين وبيئاتهم، فلا يمكنك، عزيزي القارئ، إلا أن تسأل عن هؤلاء الشراذم، ومن طلب منهم المساعدة أصلاً. أيطلب أحد العون من عاجز، ومن ميت؟! ثم لماذا يكبّرون الوهم على أنفسهم ويتلطون خلف انتماءات لفظتهم ولا تعترف بهم؟! قبل أيام هب أبناء مصر مدافعين عن أشقائهم السوريين وحقهم في العيش والعمل في مصر، التي هي بلدهم الثاني، وكذلك يحتضن الأردنيون إخوتهم السورين بكل احترام.. لم يتبجح هؤلاء بالقومية ولا اليسار، ولم يقولوا إننا نساعد السوريين. فالقومية واليسار ليسا رتبة وتشريف ليتبجح بها أولئك عبدة الاستبداد.. هي أفعال العاديين في مصر والأردن وفلسطين، وكل البلاد العربية.

 

يدركون أن نظام ملهمهم يقف على حرف، فأي تزخيم جديد للثورة يعني إهالة التراب عليه ودفنه تحت أنقاضه التي صنعها في سوريا

ثم لماذا يعيّرون الثورات بارتباطها في الخارج، وينسون أن نظام ملهمهم قد أصبح تابعاً بالمطلق لروسيا وإيران؟ إلا إذا كانت روسيا وإيران قد انتمتا للقومية العربية دون علم أحد!

برأي دعاة الاستبداد، أن هذه البيئات، التي لا تزال وفيّة للثورة، لا بد لها من ضربة قاصمة، ولا بأس من إبادتها، لذلك انطلقت دعواتهم للتعامل بأشد ما يمكن مع هؤلاء. هم يدركون أن نظام ملهمهم يقف على حرف، فأي تزخيم جديد للثورة يعني إهالة التراب عليه ودفنه تحت أنقاضه التي صنعها في سوريا، فاجأهم أن الثورة ما زالت عامرة، على الجبهات وفي النفوس، وما زالت الشعوب، رغم كل الحقد والدمار والموت، "بدها حرية".