قضايا وآراء

المشرق العربي إعادة إنتاج الكارثة

1300x600

تشكل ما يسمى صفقة القرن، والترتيبات التي تجري في سوريا، واجهة لصناعة نظام إقليمي جديد؛ طالما جرى الحديث عنه وتداوله في النقاشات السياسية على مدى العقد الماضي، واتخذ مسميات عديدة، كالشرق الأوسط الجديد، والفوضى الخلاقة، أو الهلال الشيعي، ولاحقاً المشروع الإيراني.

والواضح أن هناك ترتيبات من قبل اللاعبين الكبار وبعض القوى الإقليمية؛ على إخراج صورة النظام الجديد بعد فترة ليست بعيدة، عبر استخدام مزيج من الأعمال العسكرية والترتيبات الدبلوماسية، بما يعني ولادة هذا النظام تحت النار وفي غرف الدبلوماسية المغلقة.

وتتسارع الخطوات للوصول إلى هذا اليوم، نتيجة اعتقاد دوائر القرار في الدول المشرفة على صناعة النظام أن الفرصة أصبحت مواتية بدرجة كبيرة، وذلك جراء تقدير هؤلاء أن النظام العربي أصبح رخواً؛ إلى درجة يمكن معها دمج أية تغييرات فيه دون حدوث مخاطر كبيرة، كما أن الرأي العام العربي يمر بمرحلة ضعف وتشتت فظيعة، وليس مستغرباً أن المذابح تكاثرت في الأونة الأخيرة وازدادت شراستها في سوريا وفلسطين، بما يفوق الحاجة العسكرية لتأكيد سيطرة الأطراف المقابلة، وكأن الهدف من ذلك تجهيز الرأي العام العربي لتقبل مأسٍ وكوارث أكبر.

 

هناك ترتيبات من قبل اللاعبين الكبار وبعض القوى الإقليمية؛ على إخراج صورة النظام الجديد بعد فترة ليست بعيدة، عبر استخدام مزيج من الأعمال العسكرية والترتيبات الدبلوماسية، بما يعني ولادة هذا النظام تحت النار وفي غرف الدبلوماسية المغلقة


إجراءات صناعة النظام الجديد ليست غائبة عن اللاعبين الإقليميين، بل إن أجزاء من قطع هذا النظام الجديد جرى توكيلها لبعض اللاعبين، تحت إشراف ومتابعة الكبار، وهو ما أطلق سباقا محموما داخل الإقليم للمشاركة في هذه الصناعة، أو محاولة حماية النفس من التغييرات المقدر لها الإطاحة بأوطان وشعوب، وتدوير أنظمة الحكم عبر طرح أجزاء منها وإضافة أجزاء إلى تركيبتها.

لكن لماذا هذا الإجراء الخطير وفي هذا الوقت بالتحديد؟ هل السبب الربيع العربي وما أنتجه من وقائع إقليمية جديدة لا يمكن تجاوزها إلا من خلال إجراء تغيير في المنظومة الإقليمية كاملة؟ أم أن القواعد القديمة التي ضبطت المنطقة لعقود تقادمت واهترأت ولم تعد صالحة للعمل، وباتت الحاجة ملحة لقواعد وضوابط ناظمة للمنطقة؟ أم ان النظام الدولي شهد متغيرات حادة في السنوات الأخيرة؛ استلزمت إعادة صياغة جديدة لمناطق النفوذ، وخاصة أن هذه الإجراءات تتزامن مع صراع دولي للسيطرة على المعابر البحرية الدولية ومناطق الثروات في أفريقيا، وإنشاء طريق الحرير الذي يربط المراكز الإقتصادية في آسيا وأوروبا بالمركز الصيني الناشئ، وكذلك إعادة رسم خارطة أنابيب النفط والغاز العالمية؟

 

الغريب أن اللاعبين أنفسهم، ورغم مرور قرن كامل، ورغم اكتشاف هشاشة الصيغ التي بنوا عليها النظام الإقليمي في المرحلة السابقة، يعيدون إنتاج نفس التجربة، وبدون أدنى مجهود حتى لمراجعة الأخطاء


لا شك أن المعطيات السابقة تشكل محركات للتغيير في السياسة العالمية، وليس سراً أن تغيرات السياسة الدولية تبدأ في الظهور غالباً في المناطق الهامشية أو الضعيفة، وهو ما شهده العالم في فترة الحرب العالمية الأولى، التي تبدو أكثر صلة وقرباً بالمرحلة الحالية، لتشابه المناخ واللاعبين والظروف، والتكالب على وراثة الدولة العثمانية؛ عبر إنتاج صيغ تقاسم السيطرة عليها من سان ريمو إلى سايكس بيكو ووعد بلفور.

الغريب أن اللاعبين أنفسهم، ورغم مرور قرن كامل، ورغم اكتشاف هشاشة الصيغ التي بنوا عليها النظام الإقليمي في المرحلة السابقة، يعيدون إنتاج نفس التجربة، وبدون أدنى مجهود حتى لمراجعة الأخطاء والسلبيات السابقة.

لكن لماذا الاستغراب؟ النظام الإقليمي السابق كان سيئاً للشعوب، وساهم في إعاقة تطلعات الشعوب في الوحدة والنمو، لكنه على مستوى تحقيق أهداف صانعيه؛ كان نظاماً منتجاً وفاعلاً، واشتغلت آلياته بكامل طاقتها وكما هو مرسوم لها، لإنتاج أوضاع عربية قابلة للضبط والتحكم بها من قبل تلك الأطراف، وبالتالي فلا داعي للبحث عن صيغ جديدة بقدر ما هو مطلوب تحديث الصيغ القديمة وترشيقها.

غير المفهوم بالفعل، هو مشاركة أنظمة المنطقة، جميعها وبدون استثناء، معتدلين ومقاومين، في هذه الصناعة.. البعض يعتقد أنه منتصر ويفرض إرادته في التغيير، والبعض يعتقد أنه حليف الأقوياء وشريكهم ولا يمكن الاستغناء عنه في الترتيبات الجديدة، ما يطرح السؤال الطبيعي: من هو الخاسر إذن؟ السوريون والفلسطينيون فقط؟ وبقية الإقليم، أنظمة وشعوب، رابحون؟ وما هي دلائل ربحهم ومؤشراتها؟ هل تتمثل في تكريس نكبة السوريين والفلسطينيين؟!

يخطئ من يعتقد، شعوباً وأنظمة، أن التغييرات إذا اشتغلت محركاتها ستقتصر على شوارع درعا وحلب والضفة والقطاع، أو ستكتفي بتحويل نظام الحكم في سوريا فقط؛ إلى وكيل محلي صغير وواجهة لسياسات إستعمارية جديدة، فلا مساحة سوريا وفلسطين كافية للعب الكبار، ولا خضوع نظام الأسد يكفي وحده للتأشير على إعادة صياغة المنطقة؛ خضوعاً للمتغيرات العالمية الجديدة.