تقارير

تداعيات طوفان الأقصى على أنماط التدين.. من الفردانية إلى دائرة الأمة

 كان الطوفان طوفانا لتغيير كل شيء، وقد نجح في عودة الضمير الجمعي المغيب للتمركز حول قضيتهم الأولى، وثاب الناس إلى هويتهم التي بدأت في الذوبان..
كان الطوفان طوفانا لتغيير كل شيء، وقد نجح في عودة الضمير الجمعي المغيب للتمركز حول قضيتهم الأولى، وثاب الناس إلى هويتهم التي بدأت في الذوبان..
كان لعملية طوفان الأقصى انعكاسات وتداعيات عديدة، فقد حرّكت في الأمة الإسلامية مشاعر الأخوة الإيمانية الجامعة، وعززت معاني وقيم التراحم والتضامن والتعاطف، وكان لمشاهد القتل والدمار والإبادة الجماعية التي يواقعها جيش الاحتلال الإسرائيلي يوميا في قطاع غزة أصداء كبيرة في كثير من العواصم والمدن العربية والإسلامية والعالمية.

بعد إجهاض الربيع العربي، وعودة السلطوية العربية إلى ممارسة القمع والملاحقات والاعتقالات، تراجع نمط التدين الذي يعلي من شأن التدين المجتمعي، ويحفل كثيرا بمفهوم مركزية الأمة، ويدفع أبناء الأمة إلى الانخراط في الهمّ العام، وتبني أطروحات الإسلام الحركي النهضوي الحضاري، لصالح التدين الشخصي والخلاص الفردي، بحسب مراقبين.

وبقي الحال على ما هو عليه، حتى جاءت عملية طوفان الأقصى، التي أشعرت الأمة بقدرة رجالاتها على الفعل والإنجاز، وأيقظت فيها روح الأمة الإسلامية الواحدة، على عكس ما أصابها بعد إجهاض الربيع العربي، ووفقا للكاتب الأردني، حاتم الهرش فإنه "خلال عشرية مضت من انتكاسة الثورات وما رافقها من تحولات دينية باتجاه التدين الفردي، برزت حالة علمائية على مواقع التواصل الاجتماعي غذت هذا التوجه".

وتابع في منشور عبر صفحته على "فيسبوك"، اطلعت "عربي21" عليه: "في أغلب الحالات نمت هذه الظواهر كحالات مناوئة للإسلام السياسي الذي فقد كثيرا من رصيده مع هزائمه السياسية". لكن "مع الطوفان لا يستعيد الإسلام السياسي مكانته السابقة فحسب، بل ويكتسب زخما عظيما سوف يُترجمه عقد مقبل من الزمن، تحديدا للفئة العمرية ما دون الثامنة عشرة".

ولاحظ أن "هذه العودة لن تكتسب شرعيتها من انتصار حماس فقط بوصفها رافعة لهذا المشروع، أو ليس لأنها باتت دالّة على انتصار سياسي فقط، وإنما لشرعية انتصار ثقافي للإسلام السياسي، فهي شرعية مركبة.. انتصار ثقافي بمعنى أن هناك حالة من التيقن لدى شرائح واسعة، وتحديدا تلك الفئات العمرية الصاعدة، بأن كل الخطابات الدينية التي انتشرت في العقد الأخير لا تلبي حاجة الأمة، وأنها غير قادرة على الاستجابة".

الكاتب الهرش توقع بلغة جازمة أن "الطوفان سيجرف كل أنماط التدين غير المثمرة، وسيعيد حضور مشروع الإسلام السياسي إلى الواجهة، بوصفه تدينا مُنتجا للإنسان السوي، والمجتمع الحيّ، وأمة الشهود الحضاري، لكن التحدي يبقى في مدى قدرة الإسلاميين على بناء تجارب سياسية ناجحة".



وفي ذات الإطار رأى الأكاديمي المصري، الدكتور مصطفى السواحلي أن معركة طوفان الأقصى "كان لها تأثير جذري على أنماط التدين السائد، فقد رأى الشباب بأم أعينهم كيف قامت فصائل محاصرة منذ بضعة عشر عاما بما عجزت عنه جيوش نظامية أُنفقت عليها المليارات، وليس لدى هذه الفصائل من مقومات الصمود الأسطوري سوى الإيمان الراسخ والعقيدة الصحيحة".

وأضاف في حديثه لـ"عربي21": "وهذا ضرب التيار المدخلي في مقتل، الذي دأب على التسبيح بحمد الحكام، وإن كانوا ظالمين فاسقين، كما ضرب في مقتل التيارات الصوفية المغيبة عن الواقع في سراديب الأوهام والمسدلة حجبا من غشاوات التعلق بأعتاب من يسمونهم الأولياء إراحة لنفوسهم عن مواجهة الواقع".


                                       د. مصطفى السواحلي.. أكاديمي مصري

وتابع: "ولم تسلم من السهام الصائبة لتلك المعركة المباركة كثير من التيارات السلفية التي رأى الشباب أنها تصرفهم بتلك الجدليات العقدية العقيمة عن واقع متجهم يحتاج إلى فهم أكثر نضجا ووعيا وحركية، وفقها للواقع".

وأكدّ السواحلي أنه "ومهما تكن نتائج الثورة المضادة التي قادتها أنظمة عميلة، والتي أصابت جماهير عريضة من الشباب باليأس، فقد جاءت هذه المعركة لتحيي فيهم الأمل الموءود، وتكشف عن فجر صادق يوشك أن ينسخ أحلك ساعات الليل ظلمة، وهو قادم لا محالة بمشيئته تعالى".

من جانبه أشار الكاتب والمحامي الأردني، محمد العودات إلى أن "الدراسات المستقبلية بعد الربيع العربي توقعت أن الإسلام السياسي سيكون في أشد حالات ضعفه في عام 2022، وهذا ما حصل فعلا إذ فقد الإسلام السياسي السني آخر معاقله ومواقعه التي اكتسبها بعد الربيع العربي فخسر انتخابات المغرب وتراجع من حزب حاكم إلى حزب أقلية معزولة، ومن ثم تم الانقلاب على الإسلام السياسي في تونس".

وأردف: "إلا أن الدراسات كانت تتوقع أن الإسلام السياسي سوف يبقى على قيد الحياة، ويستمد أسباب البقاء لفترة أطول من عدة عوامل، من أبرزها حالة التدين العام الموجودة في البيئة العربية، ووجود حركات المقاومة الفلسطينية الإسلامية، كحركة حماس والجهاد الإسلامي، بما تعطيه من قوة للإسلام السياسي في الشارع وتمده بأسباب البقاء".

ورأى العودات في حواره مع "عربي21" أن "معركة طوفان الأقصى بالنسبة للإسلام السياسي السني هي معركة حياة أو موت، معركة وجود أو فناء، فصمود المقاومة يعني أن تعاد الحياة إلى الإسلام السياسي أو تعني تأخر تراجعه عقدا من الزمان على أقل تقدير، وتمنحه فرصة لإعادة إنتاج ذاته".

وتابع: "وهزيمة المقاومة تعني انهيار أيدولوجيا الإسلام السياسي وصعود فكر جديد، ولا يعني سقوط الإسلام السياسي السني في المنطقة أن تستقر المنطقة للاستبداد، أو يستقر الاحتلال وإنما يعني صعود أيدولوجيا ما بعد الإسلام السياسي، وهذه الأيدولوجيا قد تكون: تيار الإسلام الديمقراطي الذي يؤمن بالديمقراطية، وبناء الدولة الحديثة.. أو صعود تيار ما يعرف بالعلمانية المؤمنة المتصالحة مع الدين".

وطبقا للعودات فإن "إسلام الخلاص الفردي سيتقدم سواء انتصرت المقاومة أو انهزمت لعدة أسباب: منها أن الأنظمة المستبدة وجدت في حركات الخلاص الفردي بديلا مناسبا عن الإسلام السياسي، فتدين الخلاص الفردي يحقق أشواق الشعوب في إشباع حاجة التدين الموجودة في النفوس، وهو كذلك بديل آمن تجاه الاستبداد يمكن تسخيره ليكون ذراعا روحية للمستبد لإحكام سيطرته على الشعوب".


                                              محمد العودات كاتب ومحام أردني

بدوره لاحظ الكاتب والأديب اليمني، خالد بريه أنه "ومنذ ارتدادات الرَّبيع العربي، فقد حصل تغير واضح في أنماط التدين، واضمحل بريق الصحوة، ومضى الناس نحو الخلاص الفردي، والركون إلى البعد الروحي العاطفي، هروبا من استحقاقات الواقع، بل وصل الأمر ببعضهم إلى تجاوز مفاهيم البعد الإسلامي، والإغراق في الطرح الإنساني أو الإنسانوي".

وواصل حديثه لـ"عربي21" بالقول: "وصنعوا خلطة غريبة تترافق مع الواقع الجديد الذي تخلّق من رحم الربيع العربي المطارد، وفي ظل هذا الواقع الضبابي تلاشت مفاهيم الأمة، والروح الجامعة، ونُسيت أو كادت أن تُنسى القضية المركزية الكبرى، وهرع الجميع إلى التطبيع لتدفن القضية بآخر نفطة حبر من توقيع النسيان" على حد قوله.

وتابع: "ولكم أن تعلموا أن قيامة السابع من أكتوبر، أحيت ما اندثر في النفوس من معاني التحرر، أحيت رابطة الأخوة التي أضعفتها صوارف السنين، أعادت القضية إلى الواجهة، صفعت التطبيع على قفاه، وكشفت المستور عن المواقف والرجال، وظهر الغرب (المتحضر) بوجهه القبيح، واكتشف أحرار العالم ـ فجأة ـ أن إسرائيل دولة قبيحة، بشعة، تحيا على الموت والدماء".

وعن آثار وتداعيات الطوفان على أنماط التدين السائدة، فقد لفت بريه إلى أن "الجميع أفاق بعد واقعة الطوفان على صدمة أعادته إلى قلب المعركة، وسحبته من مربع الفردانية إلى دائرة الأمة، وإعادة الوهج للقضية الأم، وأثرت بصورة مباشرة على طريقة التفكير، ووضعت الجيل الصاعد في وجه الحقيقة التي غفل عنها".

وأكمل بالقول: "ومن محامد الطوفان؛ انكشاف الزيف الإنسانوي الذي صدره الغرب لسنوات طوال، على حساب التدين الجمعي المشتغل بقضايا أمته، وفجأة اكتشف الجميع انحياز الغرب وعنصريته، وهشاشة البنى الأخلاقية له، وقد ظل المفكرون والأحرار يحذرون من هذا الانحياز المكشوف، لكن أحدا لم يستمع، حتى أتت معركة غزة".

وأكدّ في ختام حديثه أن "معركة غزة اختصرت المسافة، وعرَّت شجرة الإنسانية، فأدرك الناس ما غفلوا عنه منذ عقود، وحضرت المفاهيم التي أُريد لها النسيان، فقد كان الطوفان طوفانا لتغيير كل شيء، وقد نجح في عودة الضمير الجمعي المغيب للتمركز حول قضيتهم الأولى، وثاب الناس إلى هويتهم التي بدأت في الذوبان، وكفى بها مكرمة".


                                                           خالد بريه كاتب وأديب يمني
التعليقات (0)