كتب

هل انتهى زمن الحداثة وحان وقت التفكير في ماهية ما بعدها؟ كتاب يجيب

يرى، مافيزولي، أن الحديث عن الفردانية اليوم، هو سخافة يُذيعها، ويردّدها الصحفيون، والسياسيون، وبعض الأكاديميين..
يرى، مافيزولي، أن الحديث عن الفردانية اليوم، هو سخافة يُذيعها، ويردّدها الصحفيون، والسياسيون، وبعض الأكاديميين..
الكتاب: "نظام الأشياء: التفكير في ما بعد الحداثة"
المؤلف: ميشيل مافيزولي (ترجمة: سعود المولى ـ رنا دياب)  
الناشر: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ط1، الدوحة ـ أبريل 2020.


صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، سلسلة ترجمان، كتاب نظام الأشياء: التفكير في ما بعد الحداثة، وهو الترجمة العربية لكتاب L’ordre des choses: Penser la postmodernité .
مؤلف الكتاب، ميشيل مافيزولي، عالم الاجتماع، والأستاذ في جامعة باريس الخامسة، له ما يفوق الثلاثين كتابًا، اهتم فيها بمسألة الرابط المجتمعي، وسيادة المتخيّل في الحياة اليومية في المجتمعات المعاصرة. من أهمها: "مزايا العقل الحساس"، و"المعرفة العادية"، "دنيا المظاهر وحياة الأقنعة المعاصرة"، "في الحل والترحال: عن أشكال التيه المعاصرة"، و"تأمل العالم: الصورة والأسلوب في الحياة الاجتماعية".

أما الترجمة فهي لسعود المولى، المترجم، والأستاذ الجامعي، ورنا دياب، الحاصلة على شهادة الماجستير في اللسانيات من قسم اللغة الفرنسية، بجامعة دمشق، وطالبة دكتوراه في المدرسة العليا للعلوم الاجتماعية في باريس.

جاء، الكتاب، في 280 صفحة، وتكون من ثمانية فصول. وناقش أحد الموضوعات التي دأب، مافيزولي، على الخوض فيها منذ سنوات عديدة، وهي: نقد صرح الحداثة، حيث يرى، مافيزولي، أن المُحرِّك الذي ترتكز عليه الحضارة يتوقَّف عن العمل كل ثلاثة، أو أربعة قرون، ومن وجهة نظره، فنحن نعيش حالياً آخر أنفاس العصر الحديث، ما يُسمَّى بالحداثة.

أشار، مافيزولي، أن العصر الحديث بدأ مع ديكارت في القرن السابع عشر، وتعزّز طوال القرن الثامن عشر، في أوروبا، مع فلسفة التنوير، وتم إضفاء الطابع المؤسّسي عليه، في القرن التاسع عشر. ثم حَلّ القرن العشرون الذي بدَّد رأس المال، ولم يخلق الكثير، وعاش على ما تركته القرون الثلاثة التي سبقته، فمنذ منتصف القرن العشرين، انتهى عصر الحداثة، وبدأ عصر آخر وصفه، مافيزولي، بـ"ما بعد الحداثة".

كتب، مافيزولي، هذا الكتاب، بهدف وضع مقالة منهج جديدة، غير ديكارتية، بقصد معرفة نظام الأشياء، التي عجزت النظريات الحداثية عن كشفه؛ كونها تختزل الواقع في أحد أبعاده: الاقتصادي، أو السياسي، أو الثقافي. وقد بدأ، مافيزولي، الكتاب، بنقد السائد من طرق التفكير الحداثية، التي تعيق هذا الفهم.

ألمح، مافيزولي، إلى أن الحداثة كلها اعتمدت على التماثل بين فعل التفكير وفعل الوجود، وأن الذات المفكرة، في النظم الفلسفية كلها، تكون في المرتبة الأولى. ولكن، مافيزولي، يرى أن هناك شيء آخر مختلف، هو العيش الأصلي، أو عيش "أن تكون هنا"، ثم يأتي الفكر لاحقًا أو في النهاية، حيث يرتكز دوره على إعادة امتلاك هذا الوجود الحاضر الغني بإمكانات متعددة.

انشغل، الكاتب، في الفصل الأول "من العلم إلى المعرفة" بدارسة الطرق المؤدية إلى فهم نظام الأشياء، ويتضح، من عنوان الفصل، منظور، مافيزولي، للسوسيولوجيا، بوصفها معرفة لا علم.

عرّف، الكاتب، نظام الأشياء بأنه ولادة متجددة للماضي، وهي فكرة مستوحاة من نيتشة الذي كتب "ماضينا البعيد يصبح حاضرًا جديدًا عبر التفاعل الخصيب في دورة الزمن". وقد بنى، الكاتب، تحليله لنظام الأشياء على نقد مفهوم الزمن الحداثي، فهو يدافع عن تصور مختلف للزمن، يحتل فيه الماضي دورًا أساسيًا، ومؤسسًا للحاضر.

الحداثة كلها اعتمدت على التماثل بين فعل التفكير وفعل الوجود، وأن الذات المفكرة، في النظم الفلسفية كلها، تكون في المرتبة الأولى..
احتفى، مافيزولي، بالحس السليم، والإدراك القويم، ودعا إلى تشغيل العقل الحسي، متضمنًا الحلم والخيال والحواس، تفاديًا للدوغمائية (الجزمية/وهم امتلاك الحقيقة المطلقة)، ودعا إلى قبول أن أشكال الحقيقة المتنوعة. "الحقيقة ليست واحدة بل متعددة، وتتبدل تبعًا للحظة التي نموضع أنفسنا فيها" ص (25) .

تناول، الكاتب، مفهوم الكليانية (holism) ما بعد الحدثية: هذا المفهوم الإجمالي العمومي عن عالم متجدد، حيث يسعى الاقتصاد الضيق إلى ترك المجال لـ"فلسفة إيكولوجية" أغنى لأنها تدمج جميع العوامل الإنسانية، ولن يستطيع الوصول إلى هذا سوى عقل مرهف الحساسية، يكافح مفهوم الحقيقة كـ"يقين".

في الفصل الثاني "الفكر باعتباره صدى" يرى، مافيزولي، أنه يوجد حاليًا تأخر في تطور العلم مقارنة بالواقعي الحقيقي الملموس، الذي يرتبط به، فيقول: "يستمر العلم بالاعتقاد بأن الفكرة تخلق العالم وتسيطر عليه. إنه علم بنائي، في طبيعته، يعتقد أننا نبني كل شئ، وأننا نستطيع السيطرة على البيئة الطبيعية والاجتماعية، أما ما يتعلق بالواقعي الحقيق الملموس، فهو يذكرنا بأن نظام الأشياء يسبق العلم، وبأن هناك معطى لا يمكن السيطرة عليه بالكامل" ص (70.

ناقش، مافيزولي، مسألة الزمن، فهو لا يعتبر الزمن خطيًا، إنما استعادة لزمن مضى. ويرى، الكاتب، أن لا بد للسوسيولوجي من التمرن على استخراج الصور البدئية السحيقة؛ ما يعني خلود القديم ضد تفسيرات القطعية والتجاوز والنهاية، "فكل شئ يعود، لأنه يمثل القاعدة الصلبة للعيش المشترك" ص (79).

أما الفصل الثالث "الفكر التقليدي" فقد تناول أهمية التقاليد في فهم الحاضر، فالواقعي الحقيقي ينطلق من الجذور "إن التجذر في التراث هو ما تُمتّن عليه أي أمة قواعدها. فنحن نعرف ما يدين به تاريخ فرنسا لبعض الأساطير، وكذلك الأمر بالنسبة لجميع الملاحم الأسطورية الجمعية على اختلافها، حتى لو انهمك المؤرخون في إطاحة هذه الروايات والأساطير، فإنها ستستمر في تحفيز مخيال الشعوب، وهي بالمعنى الحرفي: تمنحها الروح". ص (110)

جاء، المحور الثاني، في الفصل، بعنوان قانون الارتكاس (عود على بدء)، حيث يرى، مافيزولي، أن الحياة الفعلية هي ارتكاس دائم كونها تعيد استثمار العناصر الأولية دوريًا، العناصر التي اعتقدنا اننا تجاوزناها، والتي تشكل بدورها حجارة الأساس لبناءات المستقبل. "ربما يكون هذا هو السر الغامض الذي يختبئ وراء ثبات الصنف البشري عبر الزمن الطويل". ص (124)

بيّن الفصل الرابع "أن تعلم الشيء يعني أن ترى "أن الوصول إلى المعرفة يبدأ بالنظر؛ فأن نعرف، بحسب مافيزولي، يجب أن نرى" هذا الموجود هنا، الذي لا نعرف أنه هنا، ولا نريد أن نراه، لأننا مهووسون بالقيم التي تعلمناها" ص(127)

اقترح، مافيزولي، طرق منهجية مختبرة للوصول إلى معرفة الـ هذا الماثل أمامنا، أسماها "الشكلانية التصويرية" السوسيولوجية، بمعنى عدم البحث عن إجابة، والكف عن طرح سؤال "لماذا؟" والاهتمام بـ "كيف؟"، وأخذ الظواهر على محمل الجد، أي العودة إلى الشئ ذاته، اعتمادًا على منهجية بصرية.

أوضح، الكاتب، أن منظوره للمنهج الوصفي يختلف عن السائد "للوصف قواعد صارمة تتيح الدخول إلى واقع حقيقي، أوسع بكثير من الحقيقة الاقتصادية الكسيحة" ص (136) ودعا، مافيزولي، إلى احترام العالم الطبيعي الذي لا يكفي أن نسيطر عليه، وإنما من الأجدى العيش معه. "انتظروا قليلًا وفكروا انطلاقًا من المحتوى الحقيقي، وليس انطلاقًا من معايير متصورة مسبقًا" ص(139)

سعى، مافيزولي، في الفصل الخامس "الحقيقة والواقع"، إلى تمييز الحقيقية من "الحقيقي الواقعي الملموس"، فالحقيقة تختصر غالبًا في بُعد واحد للمعطى الدنيوي: مثلًا الاقتصاد، أو الثقافة، أو السياسة، أو الدين، هي شئ اجتماعي بغلبة عقلانية. أما "الواقعي الحقيقي" فهو شئ مجتمعي، هو التربة التي تولد، وتنمو، وتتطور عليها الحياة الجمعية.

يرى، مافيزولي، أن "الواقعي الحقيقي" يتجاوز الزمن، بعيدًا عن حقيقة قصيرة ومختزلة ببعد واحد تاريخي، أو حقيقة اجتماعية أحادية الجانب، كما أنه "يبقى في عود أبدي" ص (160)، فالتاريخ ليس تقدميًا، بل يبقى في عود أبدي ومحاكاة لنماذج أصلية، ولعل النظر إلى الزمن بهذه الطريقة هو الذي سيسمح لنا بفهم ظواهر تبدو لاعقلانية، مثل جميع أنواع الفانتازيات، والهويات التقليدية التي تهيمن على الزمن الحاضر.

في الفصل السادس "عن المعرفة الجماعتية" أكد، مافيزولي، على أن الكينونة تعني منذ الآن "أن يكون الواحد مع الآخر" ص(187). ويرى، مافيزولي، أن الحديث عن الفردانية اليوم، هو سخافة يُذيعها، ويردّدها الصحفيون، والسياسيون، وبعض الأكاديميين. وأضاف أنه يكفي أن نُشغّل الهاتف الجوال، لنكتشف أننا دائماً في صُلب "علاقة ما"، وبأننا دائما مُحاطون بجماعة ما.

ركّز، مافيزولي، على أن الإرادة المشتركة، التي تؤكد صلابة المجتمعات، أبعد من البناءات العقلية، فهي تعتمد على قوة الروح، قوة اللامادي، وهو ما نستطيع أن نسميه المخيال الاجتماعي، قوة الروح على الآخرين وعلى المادية الخارجية.

"إن التجذر في التراث هو ما تُمتّن عليه أي أمة قواعدها. فنحن نعرف ما يدين به تاريخ فرنسا لبعض الأساطير، وكذلك الأمر بالنسبة لجميع الملاحم الأسطورية الجمعية على اختلافها، حتى لو انهمك المؤرخون في إطاحة هذه الروايات والأساطير، فإنها ستستمر في تحفيز مخيال الشعوب، وهي بالمعنى الحرفي: تمنحها الروح"..
ألقى، الفصل السابع "مجتمعية حاضرية"، الضوء على ماهية "المجتمعية" والتي يرى، مافيزولي، أنها أشدّ تعقيدًا من "اجتماعية"، فالمجتمعية تضع كلية الكائن على المحك، وكذلك جانبه المظلم وقسوته المجاورة لإحسانه المضيء، على عكس "اجتماعية" والتي هي الطريقة المتحضرة، والمروَضة لعيش الرابطة مع الآخر. إن الاجتماعية هي التعبير عن العقد الاجتماعي ذي الجوهر العقلاني، "أما المجتمعية فتعاش شيئًا فشيئًا في العقد المجتمعي العاطفي أساسًا. تُسقط الاجتماعية نفسها في المستقبل، بينما تعاش المجتمعية في الحاضر". ص (208)

أما الفصل الثامن "التفكير الشغوف" ففيه يصف، مافيزولي، هذا النوع من التفكير، بالتحدّي الكبير، الذي يعبّر عن التفاعل المستمر الموجود بين الجوانب المتعددة لحياة حية. فالتفكير الشغوف هو "التناغم النزاعي لجميع الإمكانات والمقدرات البشرية" ص (219)

خصّ، مافيزولي، القلب بأهمية في المعرفة "فإذا كانت طريقة العقل هي البرهان، فإن طريقة القلب هي الإظهار الفج" ص (234)، أما الرغبة التي اعتُبرت عائقًا للفهم، فتعد، وفق مافيزولي، محركة للتفكير الشغوف.

اختتم، مافيزولي، كتابة باستشراف، أكد فيه، أنه قد حان الوقت كي نتمرن على، فكر كريم، يعرف كيف يتوافق مع حيوية المعطى، والنزعة الحيوية لأولئك الذين يتكيفون بطريقة أو بأخرى مع هذه الدنيا، ولكي ننزع عن الفكر القناع الذي فرضه عليه أولئك "الفرسان ذو الوجه الكئيب" الذين ادعوا أنهم مقثفو النوع البشري. ص (244)

وبعد، فإن مافيزوليي يقدم لنا، في هذا الكتاب دعوة مفادها أنه من الأنسب لنا النظر للعالم كما هو، وليس كما ينبغي له أن يكون، وفي سبيل ذلك يجدر بنا، ليس تحريك العقل فحسب، بل أيضًا الحلم والحواس والخيال.
التعليقات (0)