الذاكرة السياسية

بعثيون وناصريون يتصدرون المشهد السياسي بعد ثورة 2011 في تونس

قيس سعيد همش القوميين على الرغم من دعمهم لمساره السياسي.. (عربي21)
قيس سعيد همش القوميين على الرغم من دعمهم لمساره السياسي.. (عربي21)
لا تزال فكرة القومية العربية أو العروبة القائمة على فهم أن العرب أمة واحدة تجمعها اللغة والثقافة والتاريخ والجغرافيا والمصالح، قائمة لدى تيار عريض من النخب العربية. وعلى الرغم من الهزائم السياسية التي منيت بها تجارب القوميين العرب في أكثر من قطر عربي، إلا أن ذلك لم يمنع من استمرار هذا التيار، ليس فقط كفاعل سياسي هامشي، بل كواحد من الأطراف السياسية الفاعلة في تأطير المشهد السياسي في المنطقة العربية.

ومع مطلع العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، الذي دشنته الثورة التونسية، عادت الحياة مجددا إلى الفعل السياسي وتجدد السجال التاريخي بين التيارات الرئيسية، التي شكلت ولا تزال محور الحياة السياسية العربية، أي القوميين والإسلاميين واليساريين، بالإضافة لتيار تكنوقراط يحسب نفسه على الوطنية ناشئا على هامش هذا السجال.

وإذا كان الإسلاميون قد مثلوا الصوت الأعلى في مرحلة ما بعد ثورات الربيع العربي؛ بالنظر إلى كونهم التيار الأكثر تعرضا للإقصاء في العقود الماضية، ولأنه كذلك التيار الأقرب إلى غالبية روح الأمة التي تدين بالإسلام، فإن ذلك لم يمنع من عودة الحياة مجددا للتيار القومي، الذي بدا أكثر تمرسا بأدوات الصراع السياسي؛ على اعتبار تجربته بالحكم في أكثر من بلاد عربية، وأيضا لقربه من دوائر صنع القرار، خصوصا العسكرية والأمنية منها.

"عربي21"، تفتح ملف القومية العربية، أو التيارات القومية العربية بداية من المفاهيم التي نشأت عليها، وتجاربها والدروس المستفادة من هذه التجارب، بمشاركة كتاب ومفكرين عرب من مختلف الأقطار العربية، والهدف هو تعميق النقاش بين مكونات العائلات الفكرية العربية، وترسيخ الإيمان بأهمية التعددية الفكرية وحاجة العرب والمسلمين إليها.

اليوم نفتح ملف تاريخ التيار القومي في تونس، من خلال ورقة أعدها الإعلامي التونسي كمال بن يونس خصيصا لـ "عربي21"، وننشرها على حلقات.

تختلف القراءات في تقييم الدور الذي أداه المثقفون والنشطاء السياسيون التونسيون المغاربيون المحسوبون على "تيارات الهوية العروبية الإسلامية"، وعلى الحركات "الوحدوية" التي تبنت شعارات "ثورية" رفعها مبكرا رموز الحركات المناهضة للاستعمار في المشرق والمغرب، وقادة الأحزاب الوطنية والتيارات البعثية والقومية، من بينها الثالوث الشهير "الحرية والاشتراكية والوحدة" (مع اختلافات في الترتيب بين البعثيين والناصريين وبقية القوميين).

لكن عدة حقائق تفرض نفسها عند تقديم أي قراءة تأليفية ـ تركيبية ـ تحليلية لتجارب التيار القومي العربي في تونس والدول المغاربية وتأثيراته الثقافية والفكرية والسياسية والحزبية في مرحلتي الكفاح الوطني وبناء الدول الحديثة، ثم في مرحلة ما بعد انتفاضات 2010 ـ 2011 والمتغيرات الجيو استراتيجية التي عقبت انفجار "الثورات الشبابية العربية".

"عربي21"، فتحت ملف القومية العربية، أو التيارات القومية العربية بداية من المفاهيم التي نشأت عليها، وتجاربها والدروس المستفادة من هذه التجارب، بمشاركة كتاب ومفكرين عرب من مختلف الأقطار العربية، والهدف هو تعميق النقاش بين مكونات العائلات الفكرية العربية، وترسيخ الإيمان بأهمية التعددية الفكرية وحاجة العرب والمسلمين إليها.

في هذا السياق يقدم الأكاديمي والإعلامي التونسي كمال بن يونس، سلسلة من الورقات حول الجذور الثقافية والرموز الفكرية والسياسية والحزبية للتيارات الوحدوية والقومية في تونس والمنطقة المغاربية .

 كما يقدم قراءة لـ 3 تجارب سياسية خاضها القوميون العرب في تونس من خلال مشاركاتهم، قبل الاستقلال عن فرنسا في 1956 وبعده، في حركات وتنظيمات سياسية سلمية وأخرى مسلحة أو "ثورية"، إلى جانب تجاربهم في الصفوف الأولى في الحكم، وفي المعارضة بعد ثورة 2011 ثم بعد منعرج قرارات 25 تموز (يوليو) 2021، التي اعتبرتها المعارضة "انقلابا على السلطات المنتخبة وعلى الدستور الشرعي".


تحالفوا مع "الجبهة الشعبية" فابتلعهم "اليسار الأيديولوجي"

قدر عدد الأحزاب التونسية التي حصلت على تأشيرة قانونية بعد ثورة يناير 2011 بنحو 240، بينها ما لا يقل عن 10 أحزاب محسوبة على "اليسار القومي العربي"، استقطبت نشطاء نقابيين وسياسيين وإعلاميين، تبنى تيار منهم المرجعيات الفكرية والسياسية لأحزاب البعث القومية والقطرية السورية والعراقية. وينتسب البعض الآخر إلى التجارب القومية" الناصرية"، نسبة إلى الزعيم جمال عبد الناصر (1952 ـ 1970)، و"العصمتية" (نسبة إلى المفكر عصمت سيف الدولة)، وتجارب ليبيا في عهد معمر القذافي (1969 ـ 2011).

ويختلف هؤلاء القوميون عن حلفائهم داخل "اليسار الماركسي التونسي" بسبب دفاعهم عن "الهوية العربية" لتونس ثقافيا وجيواستراتيجيا، وانتقاداتهم لمواقف قسم من الشيوعيين و"اليسار الأيديولوجي" من بعض القضايا العربية الوطنية، وبينها حركات التحرر الفلسطينية.

سوريا.. ومسار 25 يوليو

في المقابل، برزت بين القوميين التونسيين صراعات عنيفة وخلافات فكرية وثقافية وسياسية وحزبية وشخصية بسبب مواقفهم المتناقضة من عدة قضايا، بينها "الإسلام السياسي" و"المنعرج العسكري ـ  الأمني" في مصر بعد انقلاب يوليو 2013، ومن الانتفاضة الشبابية الشعبية "والثورات الديمقراطية العربية "، و"من الحرب العالمية بالوكالة في سوريا وليبيا واليمن والعراق ".

وكان ملف سوريا من أخطر الملفات التي قسمت القوميين واليساريين والإسلاميين التونسيين، مثلما تسبب في إجهاض المسار الطويل للعمل المشترك بين رموز "المؤتمر القومي العربي" و"المؤتمر القومي العربي الإسلامي"، بعد الجهود التي قام بها منذ 1990 مفكرون ونشطاء من حجم خير الدين حسيب ومعن بشور ومصطفى الفيلالي ومنير شفيق ومسعود الشابي وعبد الحميد المهري ومحمد مزالي وراشد الغنوشي وأحمد الكحلاوي، ورفاقهم من العروبيين والإسلاميين المغاربيين والمشارقة.

وتأزمت العلاقات بين هذه القيادات ومع الأحزاب التي حكمت تونس بعد ثورة 2011 بسبب احتدام الخلاف حول المواقف من المستجدات في ليبيا وسوريا، والعلاقات مع عدد من سلطات دول المنطقة بينها إيران وقطر وتركيا والسعودية والإمارات ومصر.

مساندة مسار 25 يوليو

وتعمقت هذه التناقضات بعد قرارات 25 تموز/يوليو 2021 في تونس، التي عارضتها قيادات حركة النهضة وأحزاب الائتلافات الحاكمة السابقة، بينما ساندتها بقوة قيادات قومية ويسارية وحزب "الشعب" (ناصري و"عصمتي" موال لسوريا)، بزعامة الزعيم النقابي الناصري زهير المغزاوي وحزب "التيار الشعبي" (المساند لطهران ودمشق)، بزعامة زهير حمدي وهو من خريجي الجامعة الليبية وموظف سامي سابق في رئاسة الحكومة قبل ثورة 2011. وقد استلم رئاسة الحزب بعد اغتيال مؤسسه البرلماني الحاج محمد الإبراهمي يوم 25 تموز/يوليو 20213 في ظروف مثيرة للجدل.

وتعتبر هذه الأطراف والشخصيات القومية واليسارية قرارات تموز/يوليو 2021 وما بعدها "حركة تصحيحية للقطع مع عشرية الخراب وحكم الإخوان المسلمين التونسيين".. مثلما سبق لها أن رحبت بـ "تصحيح مسار ثورة 25 يناير" المصرية، بعد الانقلاب العسكري على الرئيس المنتخب محمد مرسي وعلى البرلمان وبقية المؤسسات المنتخبة.

 لكن عروبيين ويساريين وليبيراليين ونشطاء آخرين، بينهم الوزير والبرلماني السابق الأكاديمي سالم الأبيض، عارضوا "مسار 25 تموز/يوليو التونسي"، خاصة بعد مرسوم 22 أيلول / سبتمبر 2021 الذي ألغى الفصل بين السلطات الثلاثة، وأسفر حسب تقديرهم عن "النيل من استقلالية القضاء وهيئة الانتخابات والإعلام."، وعن تركيز "نظام رئاسوي مركزي مطلق ".

أحزاب بعثية وناصرية

وتكشف المصادر الرسمية التونسية أن شخصيات بعثية وقومية وماركسية عروبية، تصدرت المشهدين السياسي والنقابي، ومواقع مهمة في الحكومة والإدارة والبرلمان والمجتمع المدني في تونس منذ يناير 2011 .

كيف؟

شهدت الأسابيع والأشهر القليلة التي عقبت سقوط حكم الرئيس زين العابدين بن علي، تقنين عدة أحزاب عروبية قديمة وتأسيس أحزاب أخرى.

كانت ضربة البداية بتأسيس حزب "حركة البعث" برئاسة المسؤول النقابي السابق عثمان بالحاج عمر في 22 يناير 2011. وقد عوض لاحقا بقياديين بعثيين وسجناء سياسيين آخرين، بينهم النقابي والحقوقي الحبيب الكراي.

لكن بالحاج عمر برز مجددا في قيادة الحزب عندما انضم إلى "الجبهة الشعبية" بزعامة اليساري حمة الهمامي، ثم بعد 25 تموز/يوليو 2021 إذ أصبح من أنصار"المسار الجديد" بقوة، وشارك في الاستشارات التي نظمتها السلطات تمهيدا للاستفتاء على "الدستور الجديد".

ومنذ آذار / مارس 2011 وقع تأسيس حزب "الطليعة العربي الديمقراطي"، وهو حزب بعثي آخر استقطاب شخصيات قومية بعثية اعتبارية بزعامة الأكاديمي خير الدين الصوابني والمحامي والبرلماني أحمد الصديق وشقيقه النقابي البعثي واليساري المعروف يوسف الصديق. وكان هذا الحزب امتدادا تاريخيا لشخصيات قومية وحقوقية بعثية، أدت دورا كبيرا في عهدي بورقيبة وبن علي، بينها المحامي الصادق الهيشري والمحامي فوزي السنوسي والجامعي عفيف البوني والشاعر والقيادي في رابطة حقوق الإنسان الميداني بن صالح.

وبعد ذلك بشهر واحد، أسس مجموعة من القوميين والبعثيين "الجبهة الشعبية الوحدوية" بزعامة السجين السياسي الذي برز في عقد الثمانينيات، بتحالفه ورفاقه مع الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين الصحفي عمر الماجري. 

وكان الماجري ومجموعة من القوميين والبعثيين انخرطوا في  قيادة "حزب التجمع الاشتراكي التقدمي" و"الحزب الديمقراطي التقدمي"، خلال العقد الأخير من عهد بورقيبة، ثم في عقدي حكم بن علي.

وكان بينهم الحفناوي عمايرية ومختار العرباوي وبلقاسم حسن، بينما انخرط بعثيون وناصريون آخرون في قيادات أحزاب الوحدة الشعبية، بزعامة محمد بالحاج عمر ومحمد بوشيحة والاتحاد الوحدوي الديمقراطي، بزعامة عبد الرحمان التليلي وأحمد الاينوبلي، وحركة الديمقراطيين الاشتراكيين بزعامة محمد مواعدة، ثم الأكاديمي والبرلماني أحمد الخصخوصي.

وينتقد بعض القوميين العرب المستقلين "انحياز هؤلاء النشطاء من اليسار القومي والبعثي" إلى قيادة "الجبهة الشعبية بزعامة الأمين العام لحزب العمال الشيوعي وقادة "تيار الوطنيين الديمقراطيين الوطنيين". ويعتبرون أن ذلك الانحياز أدى إلى أن "ابتلاعهم اليسار الأيديولوجي والوظيفي"  وتراجع دورهم الاجتماعي والوطني.

أحزاب بعثية وقومية جديدة

في السياق نفسه، أسس بعثيون قياديون سابقون من اليسار القومي القريب من التيار الماركسي في تموز/يوليو 2011 أحزابا "بعثية وقومية جديدة"، انخرط فيها لاحقا قياديون بارزون في النقابات، خاصة في الاتحاد العام التونسي للشغل.

 من أبرز هؤلاء، المنصف الشابي الذي أسس "حزب الأمة الديمقراطي الاجتماعي"، وحاول من خلاله توحيد "اليسار القومي واليسار الاشتراكي الاجتماعي"؛ تتويجيا لمسيرته الطويلة بين الأحزاب العروبية والماركسية والبعثية والليبيرالية، ولتنسيقه طوال عقود مع إبراهيم طوبال رفيق الزعيم الوطني التونسي صالح بن يوسف و"الجناح القومي الثوري" في القيادة الجزائرية، وفي ليبيا وفي حركات التحرير الفلسطينية، وبينها الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ـ القيادة العامة.

 كما أسس الناشط النقابي والسياسي والبعثي السابق بلقاسم حسن "حزب الثقافة والعمل"، وحاول أن يجعل منه حزبا يساريا اجتماعيا وعروبيا معتدلا. لكن وقع حل الحزب في 2015 وانضم مؤسسه مع صديقه محمد القوماني، مؤسس حزب العدالة والتنمية التونسي بعد عقود من النشاط في تيار"اليسار الإسلامي"، ثم في قيادة الحزب الديمقراطي التقدمي بزعامة أحمد نجيب الشابي. وانضم بلقاسم حسن والقوماني إلى قيادة النهضة، وأصبحا من أبرز مستشاري زعيمها التاريخي راشد الغنوشي.

الماركسيون القوميون

وقد سبقهم منذ كانون الثاني/يناير 2011 الأكاديمي والزعيم اليساري عبد الرزاق الهمامي، فأسس مع مجموعة من "الماركسيين العروبيين" حزب "العمل الوطني الديمقراطي"، وهو حزب حاول أن ينجز "المصالحة بين القومية العربية والماركسية"، وجمع شخصيات دعت منذ عقود إلى "قومجة الماركسية" أو "مركسة القومية"، كان بينها محامون ونقابيون وإعلاميون ومثقفون بارزون، بينهم الزعيم اليساري التاريخي لحركة "الشعلة " محمد العربي عزوز ورفاقه، والمحامي اليساري العروبي محمد جمور، الذي ساند بقوة قرارات الإطاحة بالبرلمان والحكومة في كانون الثاني/يناير 2021، ثم أدلى بتصريحات رسمية تساند الاعتقالات الجديدة في قيادة حزب النهضة، واعتبرها "انتصارا للوطنيين الديمقراطيين في معركتهم مع القوى الرجعية المتهمة بالتورط في العنف والاغتيالات السياسية في العشرية الماضية".

بين اليسار الاجتماعي واليسار الوظيفي

لكن انقسامات القوميين الناصريين والعصمتيين داخل الأحزاب والنقابات ومنظمات المجتمع المدني، كانت أبرز وأكثر تعقيدا.

وكان الحزب الأبرز هو حزب الشعب الذي أسسه محمد الإبراهمي وزهير المغزاوي ورفاقهم في آذار / مارس 2011 في الأسبوع نفسه تقريبا، الذي أسس فيه المحامي النقابي والناشط الحقوقي الناصري خالد الكريشي حزب "حركة الشعب الوحدوية التقدمية".

وتزامنت هذه التطورات مع انخراط قوميين بعثيين وناصريين في أحزاب يسارية وقومية أخرى تأسست في الفترة نفسها، أبرزها "حزب المؤتمر من أجل الجمهورية" بزعامة رئيس رابطة حقوق الإنسان سابقا والمفكر العروبي محمد المنصف المرزوقي، الذي تولى رئاسة الدولة بعد انتخابات تشرين أول / أكتوبر2011، وظل مع قياديين ماركسيين وقوميين معه في قصر قرطاج، وفي مواقع حكومية وبرلمانية بارزة في مرحلة 2011 ـ 2014 أواخر 2014، كان من بينهم المفكر والمؤرخ العروبي هشام جعيط وزعماء يساريون وعروبيون سابقون من الصف الأول، بينهم عزيز كريشان وعبد الوهاب معطر وعبد الرؤوف العيادي وعمر الشتيوي وعماد الدايمي وعبد اللطيف عبيد. 

في المقابل، انحاز قوميون ويساريون عروبيون آخرون إلى حزب العمال الشيوعي، وإلى "الجبهة الشعبية" بزعامة حمة الهمامي وقيادات حزب "الوطنيين الديمقراطيين الموحد"، الذي تأسس في آذار/مارس 2011 بزعامة المحامي العروبي خريج الجامعة العراقية شكري بالعيد، وكانت حصيلة هذا الانحياز "تهميش اليسار الاجتماعي الوحدوي"، وانتصار "اليسار الأيديولوجي الوظيفي" على حد تعبير الرئيس الأسبق العروبي محمد المنصف المروزقي، في عدد من خطبه ومقالاته. 

وقد وقع اغتيال بلعيد في ظروف غامضة، بعد أن استفحلت الخلافات داخل الطبقة السياسية التونسية عموما، وداخل "الجبهة الشعبية" والأحزاب القومية حول عدد من القضايا، بينها الموقف من التحالف مع الباجي قائد السبسي و"النظام القديم"، و"التحالف من أجل تونس" و"مشروعه لـ "الإنقاذ الوطني".

قوميون في قرطاج والقصبة وباردو

وإذا كانت "النخب" التي تحكمت في المشهد السياسي الرسمي بين 2011 و2019  انتمت أساسا للتيار الإسلامي وحلفائه وللتيار الليبيرالي الدستوري بزعامة الباجي قائد السبسي وكمال مرجان ويوسف الشاهد، فإن اليسار القومي كان لاعبا مهما جدا تحكم بدوره في جزء كبير من المشهدين السياسي والاقتصادي الاجتماعي، بفضل تحكمه في النقابات القطاعية وفي الاتحاد العام التونسي للشغل من جهة، وفي قطاع الإعلام والثقافة  وفي المجتمع المدني ومواقع مهمة في الدولة من جهة ثانية.

في هذا الصدد, تورد بعض المصادر أن عددا من أبرز القياديين في نقابات المحامين والصحفيين ورابطة حقوق الإنسان واتحاد الشغل كانوا غالبا من "اليسار القومي"، وبعضهم من خريجي جامعات العراق وسوريا وليبي،ا مثل ناجي البغوري رئيس نقابة الصحفيين لعدة دورات. بينما نجح القومي العروبي المستقل إبراهيم بودربالة في أن ينتخب نقيبا للمحامين، وكرس هيمنة القوميين على قيادات هيئة المحامين منذ عقود تحت إشراف العميد العروبي المعتدل الأزهر القروي الشابي وزعيم "التيار الوحدوي" البشير الصيد والعروبي الناصري عبد الوهاب الباهي.. إلخ.

الموقع قبل الموقف

وقد عين عدد كبير من القوميين في مواقع عليا في الدولة منذ الحكومة الأولى التي تشكلت في 2011 بعد سقوط حكم بن علي، بينهم العميد الأزهر القروي الشابي، الذي عين على رأس حقيبة العدل وأدى في عهد حكومتي محمد الغنوشي والباجي قائد السبسي دورا معهما في تسيير الدولة واختيار الوزراء وتعيين كبار المسؤولين في كل القطاعات.

كما عين الشابي ما بين 2014 و2019 وزيرا مستشارا في قصر قرطاج، وممثلا شخصيا لرئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي.

 وقد اختار السبسي في فريقه الحكومي والرئاسي وفي الإدارات المركزية للدولة مرارا زعامات يسارية وقومية من الصف الأول، كان من بينها الوزير محسن مرزوق والمستشار نور الدين بن تيشة والمستشارة المحامية سعيد قراش. وعين الزعيم النقابي السباق عبيد البريكي، وهو من بين رموز "اليسار القومي المتشدد"، وزيرا للوظيفة العمومية والإصلاح الإداري، التي كانت تشرف على حوالي نصف الإداريين والمؤسسات الكبرى في الحكومة.

وفي عهد حكومة إلياس الفخفاخ، عين القياديان البارزان في حزب حركة الشعب العروبية محمد المسيليني وفتحي بالحاج أعضاء في الحكومة.

ووقعت تسمية محمد الحامدي العروبي وعدد من رفاقه في حزب "التيار الديمقراطي" بزعامة محمد عبو وزوجته سامية عبو والمحامي غازي الشواشي وزراء في الحكومة نفسها، إلى جانب يساريين وقوميين مستقلين معتدلين، كان من بينهم الأكاديمي والحقوقي جوهر بن مبارك، والحقوقي العياشي الهمامي، والطبيب فتحي التوزري القيادي السابق في الحزب الديمقراطي التقدمي ومؤسسة "حزب التقدم" بعد ثورة 2011.

وقبل كثيرون بهذه التعيينات، بعد أن تبنوا موقفا سياسيا انخرط فيه رموز من اليسار والمعارضين التونسيين منذ سيتينيات القرن الماضي: "الموقع قبل الموقف".

التحكم في النقابات والإعلام والثقافة

من جهة أخرى، نجح "اليسار القومي" بمختلف أجنحته بعد ثورة 2011 في أن يدعم حضوره على رأس النقابات وقطاعات استراتيجية مثل الإعلام والثقافة و"الهيئات العليا المستقلة"، وبينها "الهيئة العليا المستقلة للإعلام"، ونقابات قطاع الإعلام والثقافة، التي أصبحت تؤدي بعد ثورة 2011 دورا حاسما في إسناد تراخيص إصدار الصحف، وبث القنوات الإذاعية والتلفزية، وفي  تسمية المشرفين عليها، بما في ذلك القنوات الوطنية ووسائل الإعلام العمومية.

وبعد منعرج 25 تموز/يوليو 2021، تنافس رموز من هذا التيار "اليساري والقومي" في إعلان ولائه للمنظومة الجديدة، بما في ذلك قرارات حل المجلس الأعلى للقضاء والهيئة العليا المستقلة للانتخابات والبرلمان والمجالس البلدية.

لكن الرئيس قيس سعيد وقيادة المنظومة الجديدة داخل الهياكل العليا للدولة، همشت هؤلاء السياسيين والنقابيين، ورفضت التفاعل مع "مبادرات الوساطة" التي أعلنوا عنها، ودفعوا قياديين في اتحاد الشغل ورابطة حقوق الإنسان ونقابة المحامين إلى تصدرها.

لماذا؟

الأسباب عديدة، بينها رفض قيس سعيد منذ أعوام "القوى الوسيطة" السياسية والنقابية. وكان سعيد أعلن منذ اغتيال الزعيم العروبي محمد البراهمي يوم 25 تموز/يوليو 2013 أنه يؤمن أن كل المنظومات التي تتصدر المشهد السياسي في البلاد منذ عقود "يجب أن ترحل". ورفع شعاره المعروف: "فليرحلوا جميعا"، كما ندد مرارا بعد تموز/يوليو 2021 بـ "الانتهازيين" الذين أعلنوا مساندتهم له ولقراراته، وبينها إسقاط حكومة هشام المشيشي والبرلمان، لكنهم انقلبوا عليه لأنه لم يسند إليهم "المواقع والكراسي" التي طلبوها.

فكانت الحصيلة "تصدعا" بين الرئيس قيس سعيد والمقربين منه على رأس الدولة من جهة، وحلفاء الأمس من اليسار القومي الذين أدوا "دورا وظيفيا "في إجهاض حكومات الحبيب الجملي وإلياس الفخفاخ وهشام المشيشي والبرلمان، لكن سعيدا والمقربين منه في مؤسسات الدولة و"القوى الصلبة المدنية والعسكرية"، تجاهلوا أغلبهم وهمشوهم؛ لأنهم لم يعودوا يؤمنون بـ "دور الأحزاب والنقابات والمنظمات التلقيدية"، بما فيها تلك التي تعتقد أنها "الأكثر شعبية واستقلالية"، مثل الاتحاد العام التونسي للشغل.
التعليقات (0)