كتب

الكاتدرائيات القوطية في أوروبا مدينة بالفضل لهندسة العمارة الإسلامية

جامع قرطبة الكبير أحد أهم المعالم الإسلامية في إسبانيا  (الأناضول)
جامع قرطبة الكبير أحد أهم المعالم الإسلامية في إسبانيا (الأناضول)

الكتاب: السرقة من المسلمين

الكاتب: ديانا دارك، المترجم: د.عامر شيخوني

الناشر: الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت لبنان، الطبعة الأولى 2022.

(574 صفحة من القطع الكبير)

 

 العمارة القوطية "النمط الإسلامي"

 

في الفصل الثاني من كتاب "السرقة من المسلمين"، تتطرق الكاتبة ديانا دارك إلى فضل هندسة العمارة الإسلامية على الكاتدرائيات القوطية في أوروبا، إذْ اعترف رِن في مذكراته اثنتي عشر مرة بِدَيْنِ الأوروبيين لما سمّاه هندسة "الساراسن" المعمارية، فصّل نظرياته في العمارة فيما يُعرف بالمسار الثاني في كُتيِّب التأبين البارنتاليا، حيث يفسر أن دراسته للكاتدرائيات القوطية الأوروبية قادته إلى الاعتقاد بأن العمارة القوطية كانت نمطا اخترعه العرب، واستورده الصليبيون العائدون، ومن خلال إسبانيا المسلمة قبل ذلك، استنتج أنَّ "أبنية مثلها كانت تسمّى بشكل فظّ "القوطية الحديثة"، ولكن تسميتها الحقيقية هي العربية، الساراسنية، أو الموريسكية".

جاء أول ذكر لهذه النظرية سنة 1713 قُبيل نهاية حياة رِن عندما بلغ عمره 81 سنة، ومن ثم فقد استندت إلى دراسة طويلة وخبرة عميقة، في رسالة خطّها لأسقُف روتشستر وهو يتحدّث عن دير وستمينستر (Westminster) الذي طلب منه الملك ترميمه. يشير رِن إلى نمط الدير القوطي بوصفه:

"النمط الذي أصبح رائجا بعد الحرب المقدّسة، نُسميه الآن الأسلوب القوطي في العمارة (مثلما سمّى الطليان كل ما بُني على غير الأسلوب الروماني)، على الرغم من أنّ القوط كانوا مدمِّرين أكثر من كونهم بنّائين. أعتقد بأنه الأفضل أن يُسمّى: النمط الساراسِني، لأكثر من سبب؛ لأن أولئك الناس لم يرغبوا بالفن ولا بالتعلم، وبعد أن خسرناهما معا نحن في الغرب، استعرناهما منهم ثانية، من كُتُبهم العربية التي كانوا قد ترجموها عن اليونانية بكثير من الاجتهاد".

تقول الكاتبة ديانا دارك: "من الواضح أنَّ رِن، الذي درس في أكسفورد في ذُروة الاهتمام بالدراسات العربية في منتصف القرن السابع عشر تحت إشراف الناظر لاود، قد تشكل عنده إدراك عميق بأنه عندما كانت أوروبا غارقة في عصور الظلام بعد سقوط روما، كان العالم الإسلامي في عصره الذهبي، خاصة في إسبانيا وصقلية، على مدى قرون، دفعتنا رؤيتنا الأوروبية المركزية للعالم إلى تناسي وإبعاد هذه الحقيقة غير المناسبة خارج التاريخ، وقد ساعدت برامج تلفزيونية وثائقية بثّها تلفزيون BBC سنة 2009، مثل برنامج جيم الخليلي "العلم والإسلام"، وبرنامج راجح عُمر "تاريخ أوروبا الإسلامي"، على وضع هذه الحقائق أمام الوعي الجماهيري في إسبانيا، كانت توليدو (طُليطلة) أول مدينة إسبانية استعادتها القوات المسيحية سنة 1085، وأصبحت عاصمة قشتالة، ومركزا مشهورا للترجمة في القرن الثاني عشر والثالث عشر، بعد أن لاحظ حُكَّامها أهمية مجموعات مخطوطاتها العربية المرموقة، وجِدت أعمالُ فلاسفة وعلماء يونانيين كانت قد ضاعت في أوروبا منذ قرون، وتُرجِمت من العربية إلى الإسبانية القشتالية (وشكّلت أساس الإسبانية الحديثة)، وإلى اللاتينية (اللغة الرسمية للكنيسة)، كان المترجمون مسيحيون ومسلمون ويهود اشتغلوا معا على مئات المخطوطات العربية، وكان كثيرٌ منهم قد تُرجِم عن اليونانية في العصر الإسلامي الذهبي في الشرق (العراق بشكل رئيس) (ص 58).
يؤيّد كُتّـابٌ متأخرون آخرون هذا التفسير لكيفية أن العائدين من الحروب الصليبية قد صنعوا من أنفسهم أولى النقابات الأوروبية، شكّل الحرفيون في مدن العصور الوسطى جمعيات استنادا إلى مهنتهم بشكل أخويات من البنائين والنجارين والنحاتين وصناع الزجاج، مرر كل منهم أسراره ومهاراته إلى متدربين، كانوا في الغالب أبناءهم. كان المؤسسون أحرارا في العادة، وأساتذة مستقلين في مهنتهم، ولا يرتبطون برب عمل أو مدير واحد، كان من المعتاد في العقود التجارية، أن يصادق عليها في الفاتيكان من جهة تلك النقابات في أوقات الاضطرابات والفِتن الدينية في القرن الثاني عشر والثالث عشر، يصدر البابا عادة قرارا عاما مناسبا، ويختمه بتلك "الموافقة الرئاسية Bulla" وهو اسم ختمه الرصاصي باللغة اللاتينية.

تستشهد الكاتبة ديانا دارك  بما ذكره رن في موضوع الجنسيات، فهي مثار اهتمام لأنه ذكر الإيطاليين أولا، كان الطليان أوثَق الأوروبيين ارتباطا وتأثُّرا "بالساراسِن"، من خلال علاقاتهم التجارية في فينيسيا وأمالفي وصقلية، عندما أشار رِن إلى "اللاجئين اليونانيين" بينهم، لم يكونوا يونانيين من اليونان، بل مسيحيين بيزنطيين أرثودوكس من سوريا والأرض المقدسة الذين ظلوا في أماكن إقامتهم، وتابعوا تجارتهم تحت حُكم المسلمين، كانوا حِرَفيين شُحِذتْ مهاراتُهم حسب التقاليد البيزنطية، هناك فتراتٌ كثيرة معروفة عن بقاء مثل هؤلاء الحِرفيين في ورشات أعمالهم المحلية بعد الاحتلال الإسلامي، مثلما يتّضح في عمل الفسيفساء في قبة الصخرة والجامع الأموي بدمشق، الذي سيوصف في الفصل الرابع. ذكر رِن بعد ذلك الفرنسيين والألمان والفلمنكيين، أي الأوروبيين الشماليين الذين كانوا أقل معرفة بالعالم الإسلامي قبل عصر الصليبيين، ويذكرهم بالتسلسل الصحيح؛ لأن الفرنسيين، "الفرنجة" كما كانوا يُعرَفون به في زمن الصليبيين، قدموا أكثر المُحاربين في الحروب الصليبية، وكان الفلمنكيون أقلّهم عددا؛ لأن بلادهم هي الأصغر، ربما كانت "الامتيازات" التي منحهم إياها الباب أحكاما مواتية، مثل الإعفاء من الضريبة كنوع من المكافأة على خدمتهم المخلصة للكنيسة في خوض الحرب المقدسة نيابة عنها.

يُتابع رِن: "جعلوا أنفسهم بنائين أحرار، وتحركوا من دولة إلى أخرى، حيثما وجدوا كنائس لبِنائها (لأن كثيرا جدا منها في تلك العصور، كانت تُبنى في كل مكان، من خلال الأعمال الخيرية أو المنافسة)".

هذا وصفٌ واضح عن نشأة "أخوية المعماريين" كنقابة للبنّائين الذين أطلقوا على أنفسهم اسم "البنّائين الأحرار أو الماسونيين"؛ لأنهم كانوا يعملون بشكل حر مستقل لحسابهم الخاص، ويستطيعون "التحرك" كما ذكر رِن من دولة إلى دولة في أرجاء أوروبا كافة، يتعلّق ذلك "بتشجيع وامتيازات" الباب؛ لأنهم لم يرتبطوا برب عمل معين أو مدير واحد، بل كانوا أحرارا في الحركة حيثما احتاجت إليهم أعمالهم، وكما فسّر رِن، كان هنالك تيار غنيّ يمكن استغلاله بعد الحملة الصليبية الأولى (1096 ـ 1099)، حين أرادت مدن كثيرة إنشاء كنائس بسرعة كرمز لإيمانها المسيحي، وإثبات لتقواها، تنافس متبرعون أثرياء في محاولاتهم للتفوق بعضهم على بعض، وتقديم أوقافٍ تقيةٍ (مثلما فعل أفراد أغنياء في مجتمعات البلاد الإسلامية في نظام الوقف، وهو نوعٌ من التبرع المعفي من الضريبة في الشريعة الإسلامية)، كان المِزاج العام بعد الحملة الصليبية الأولى يتّسم بالحماس الديني في أوروبا، ومن هنا نبع الاندفاع لبناء الكنائس الذي انتشر بسرعة في العالم المسيحي.

 

ميراث ما قبل الإسلام.. العمارة الوثنية والمسيحية الأولى في سوريا

 

في الفصل الثالث، تتطرق الكاتبة ديانا دارك إلى عالم "الشرق القديم مهد الحضارات والأديان السماوية، أو ما نُسميه الآن "الشرق الأوسط"، وهو الموقع الذي نشأت فيه الحضارة، وحيث حدث الانتقال من الصيد وجمع الثمار إلى الزراعة أولا هناك، وتَبِعَ ذلك بناء أول المعابد والمستوطنات، وبدأت أولى صناعات المعادن، وأُسِّستْ أولى الممالك والإمبراطوريات، ووضِعت أول أبجدية، ما الذي شكّل أفكار هذه الحضارات عن كيفية البناء؟ من الواضح أنه كانت هناك قيود بيئتهم، والمناخ ومواد البناء المتاحة، كان التأقلم مع مناخ الشرق الوسط أساسيا دائما بسبب الحاجة لصنع ظل مفيد مثلا، ولإدارة موارد الماء المحدودة بنجاح.

ما إن أصحبت ضغوط البقاء على قيد الحياة غير حادة، حتى توفر الوقت للتأمل، حاول البشر فهم العالم، أول بناء معروف، وهو غوبكلي تيبي" "Gobekli Tepe (يعني بالتركية حرفيا: التل ذو البطن)، قَلَبَ فهم الإنسان للعالم رأسا على عقب. يقع هذا البناء على بُعد 25 كيلومترا شمال أورفة  Urfa، وهي الآن في جنوب شرق تركيا، ويرجِع تاريخه إلى الألف العاشر قبل الميلاد، شكله بعيدٌ عن كونه قرية أو مسكنا جماعيا، ويبدو أن تصوره كان نوعا من المعبد الديني الذي بُني بشكل دوائر حجرية عديدة، نُقش عليها صور حيوانات، الأحجار المفردة ضخمة جدا، ويصعب تخيل الجهد الهائل الذي احتاجَ إليه سحبها إلى قمة هذا التل، الذي يشرف على أراضي الرعي في الهلال الخصيب، لماذا فعلوا ذلك؟ ما الذي دفعهم لقضاء كل هذا الوقت وبذل كل ذلك الجهد لبناء ذلك المبنى، ولم يكونوا يعيشون فيه؟ مرت 2500 سنة قبل أن يبدؤوا ببناء مستوطنات عاشوا وسكنوا فيها هناك، أولى المستوطنات المعروفة هي تشاتاليوك (çatalhöyük) في وسط الأناضول، ويعود تاريخها إلى 7500 قبل الميلاد.


عالم "الشرق القديم مهد الحضارات والأديان السماوية أو  ما نُسميه الآن "الشرق الأوسط"، وهو الموقع الذي نشأت فيه الحضارة، وحيث حدث الانتقال من الصيد وجمع الثمار إلى الزراعة أولاً هناك، وتَبِعَ ذلك بناء أول المعابد والمستوطنات، وبدأت أولى صناعات المعادن، وأُسِّستْ أولى الممالك والإمبراطوريات، ووضِعت أول أبجدية

تقول الكاتبة ديانا دارك: "تتضح نظرية رِن بأن "الأعمدة هي بساتين من الأشجار"، في تفاصيل الزخرفة داخل مسرح شلدون، وهو واحد من أوائل الأبنية التي صممها في أكسفورد، المعرض المقنطر مدعم بأعمدة خشبية مخددة ملونة باللون البني، وعليها تيجان كورينثية ذات أوراق غزيرة من نبات الأقنثا،(acanthus leaves)  بنمط كلاسيكي نموذجي، حتى دعامات الدرابزين النحاسي حول المعرض فيها تزيينات نباتية تذكِّر بفاكهة غريبة تنضحُ بالنُّضج والخصوبة. أما الإفريز تحت السقف مباشرة، فقد صُمِّم ليبدو مثل أغصان أو أوراق نباتية تحمل السطح أو السقف، يتدلى إفريز عاجيّ فوق الأعمدة الخشبية منحوتا برسوم كلاسيكية للبيضة والسهم، وهما الرمز المزدوج للحياة والموت، مثلما يُشاهد في مواقع كلاسيكية مبكرة مثل تدمر، والزهرة التدمرية منحوتة فوقها مباشرة، كان رِن يعرف عن تدمر لأنه يذكرها في البارنتاليا، مستخدما اسمها العربي "تدمر"، التي ظنّ اليونانيون والرومان أنها تُشير إلى ثمار "التمر"، بل ربما حلم بها؛ لأن ابنه يُخبرنا أن رِن أُصيب بمرض سنة 1665 حينما كان في باريس هاربا من الطاعون، واشتكى من الحُمّى وألم الكُلية: "حلم أنه كان في موضع تنمو فيه أشجار النخيل، وأن امرأة بثياب رومانية قدمت إليه التمر، في اليوم التالي طلب بعض التمر الذي كان شفاء له من ألم ظهره"(ص102).

 

كانت هنالك اختلافاتٌ معمارية كبيرة أخرى بين الروم الشرقيين والغربيين، فالمعابد الرومانية في الشرق، مثل معبد بل (بعل) في تدمر، كان فيها تركيز على المساحات الكبيرة المُحاطة بجدران، أي مساحات مفتوحة، أحاطت بغرفة قدس الأقداس الصغيرة حيث وضِعت صورة الإله، وحيث لا يسمح بالدخول إليها سوى للكهنة، كانت هذه المساحة حرما يجتمع فيه عموم المصلين، ويشاركون في احتفالات وطقوس الأديان السامية القديمة، تشاهد أوائل الأمثلة على ذلك في العمارة السومرية في مدينتي أور وبابل، وهي مجمعات معابد من الزقورات ذات ساحات واسعة، ترجع إلى الألف الرابع قبل الميلاد، كان هذا النمط غريبا بالنسبة للعمارة الدينية عند الفرس والإغريق والرومان، حيث لا توجد حاجة لاستيعاب العامة، ولكن هذا النمط موجود في الألفية الثالثة قبل الميلاد في المعابد الفنيقية في شرق المتوسط، مثل عمريت جنوب طرطوس في سوريا، كما يذكُر لنا المؤرخ واروريك بول ، (Warwick Ball) "مفهوم جماعة المصلين أساسي وعام في الأديان السامية القديمة.. كانت التقاليد الدينية والمعمارية القديمة، وما زالت، راسخة بشكل عميق في هذه المنطقة".

استمر هذا التقليد في المسيحية مع كنائس الحج الأولى في شمال سوريا، مثل كنيسة القديس سمعان العمودي، وكنيسة قلب لوزة التي تتميز بمساحات كبيرة ذات جدران حيث يستطيع الحجاج التجمع بأمان، وكذلك كنيسة بيسوس في رويحة كانت تُعرف بأنها مكان للحماية، كان مفهوم الحرم والحصانة مهم جدا في التقاليد الدينية العربية حيث يشكل الحرم، المكان المُسيّج الذي منح في الأصل امتيازات تجارية أيضا، مكان عبادة تتوفر فيه مساحات تستطيع القبائل أو الأقوام المتحاربة أن تجتمع فيها للقيام بالتعاملات التجارية على أرض محايدة، فمثلا، هناك ساحة مفتوحة ضخمة في حصن سليمان، الذي يقبع عاليا في جبال وسط سوريا، وهو مجمع معابد طوله 134 مترا وعرضه 85 مترا، وهو مخصص للإله المحلي بعل، وقد استخدم أيضا "سوقا محايدا غير خاضع للضرائب".
عندما ظهر الإسلام، آخر دين سماوي، في نهاية العصر الروماني، استمر ذلك الانفتاح للناس في العمارة بشكل مسجد صلاة الجمعة، استُخدمت المساحة المقدسة ذاتها في بعض الأحيان على التتالي كمعبد وثني، ثم كنيسة مسيحية، ثم جامع إسلامي، مثلما حدث في دمشق، مما جعل الانتقال سلسا؛ لأن الميزات المعمارية لكلّ منها سمحت بإعادة توظيف الساحة بسهولة.

 

المسيحية الشرقية:

 

تقول الكاتبة ديانا دارك: "اختراقُ الشرق الأدنى لأوروبا واحتلالها، يسبق احتلال أوروبا للشرق بزمن طويل، فقد أسس الفينيقيون والفرس والسوريون واليهود مستعمرات وجماعات في غرب المتوسط قبل توسع الإغريق والرومان نحو الشرق بزمن طويل، بينما فعل العرب والهون والآفار والمغول والترك ذلك فيما بعد.

يُخبرنا وارويك بول أنه تم تسجيل وجود أقليات سورية مهمة في معظم موانئ جنوب إسبانيا، في ملقا وقرطاج وإشبيليا وقرطبة، منذ القرون القليلة الأولى بعد الميلاد، كما سُجّل وجود مجتمعات من التجار السوريين في إسبانيا وبلاد الغال، في مناطق مثل ليون وغرينوبل وأورليان وترييه ومرسيليا وبوردو وناربون منذ سنة 589، تقع رافينّا على الساحل الإيطالي لبحر الأدرياتيك، وكانت عاصمة الإمبراطورية الرومانية الغربية من سنة 402 حتى 476، وقد تميّزت بالتأثيرات السورية في فسيفسائها ودِينها، وبوجود روابط قوية خاصة مع الميناء السوري أنطاكيا، كان جميع أساقفة رافينّا حتى سنة 425 من أصول سورية حسب تاريخ الأب أنييلوس (Angellus) في القرن التاسع: "كنيسة القديس ليبر في رافينّا (Liber Pontificalis Ecclesiae Ravennatis)" ، وحتى باريس كان لها أُسقف سوري في القرن الخامس، يكتب بول: «أصبحت مثل تلك المجتمعات السورية أكثر نفوذا بعد تبني المسيحية، خاصة أشكال الرهبنة الشرقية المشجعة، وتبني الصليب كرمز للمسيحية".

"اختراقُ الشرق الأدنى لأوروبا واحتلالها، يسبق احتلال أوروبا للشرق بزمن طويل، فقد أسس الفينيقيون والفرس والسوريون واليهود مستعمرات وجماعاتٍ في غرب المتوسط قبل توسع الإغريق والرومان نحو الشرق بزمنٍ طويل، بينما فعل العرب والهون والآفار والمغول والترك ذلك فيما بعد.

يُخبِرنا إيغناسيو بينا (Ignacio Pena) في دراسته المستفيضة للفنّ المسيحي في سوريا البيزنطية، أن الحمل كان رمزا مفضَّلا أيضا عند المسيحيين السوريين، وقد تم نقشه على أطراف أبواب في كنائس القرنين الخامس والسادس ليمثل المسيح المخلص الذبيح، الذي تطور فيما بعد إلى طقس القُربان المقدس اللاتيني قبل المُناولة: "يا حمل الله الذي يفدي خطايا العالم، ارحمنا"، ربما ما هو أكثر إثارة للدهشة هو أن ستّة من البابوات في المئة الأولى بعد الغزو الإسلامي كانوا سوريين، وأنّ ثيودور، أسقُف كانتربري من 668 إلى 690 كان قد وُلِد في طرسوس، مكان ولادة القديس بولص، في شرق المتوسط، غالبا ما ينسى الناس أن أصول المسيحية وأوّل قرون قليلة من تطورها كانت معظمها شرقية بالكامل، نشأت العمارة المسيحية الأصلية الأولى في الشرق البيزنطي خلال القرون الرابع والخامس والسادس، وليس في روما، كانت سوريا ومصر وبيزنطة مراكز العالم المتحضِّر آنذاك، كان الغرب اللاتيني في انحطاط تام، وكانت أوروبا مغمورة باضطرابات اجتماعية، وهجرة، وحُكم غير مستقر. نظر الأوروبيون إلى الشرق لاستلهام فنونهم وعمارتهم، فمثلا، كان القديس أدومنان (St Adomnan) رئيس دير إيونا (Iona) وكانت سيرة مؤسس الدير القديس كولومبا (597 –521 "St Columba")، وهو يُخبرنا أن رهبانا إيرلنديين ذهبوا إلى سوريا ليتعلّموا عمارتها الرهبانية، بينما كتب لورنس أُسقُف سيبونتي (Siponte) في إيطاليا إلى الإمبراطور زينو (Zeno) طالبا منه إرسال فنّانين لتزيين الكنائس في مدينته الأُسقُفية، وقد استُجيب لطلبه ذلك، في تلك القرون الحاسمة الأولى في العمارة المسيحية، كانت هنالك في جميع أرجاء بلاد الغال صُروح وهياكل جنائزية، تُظهر تأثرا سوريا واضحا، مثل شاهدة قبر بويتُوس (Boethius)، أسقُف كاربِنتراس (Carpentras) المؤرّخة في سنة604 (ص 106 ـ 107).

 

ضُمّت سوريا إلى الإمبراطورية الرومانية سنة 64 قبل الميلاد، ولكن على الرغم من دورها كمركز قوة اقتصادية، وأنها كانت تقدم عدة أفواج مساعدة، فإن دراسة سوريا كمقاطعة رومانية قد تلقّت انتباها وتركيزا أقل بكثير من مقاطعات أخرى مثل إيطاليا، واليونان، وبلاد الغال، ومصر، أبرزت أبحاث جديدة أن كثيرا من الآلهة الوثنية، مثل جوبيتر دوليكنوس (Jupiter Dolichenus) وجوبيتر هليوبوليتانوس (Jupiter Heliopolitanus)، وآلهات الخصوبة المحلية، مثل أتارغاتيس (Atargatis)، قد نشأتْ في سوريا، كما أظهرت كيف اخترق التأثير السوري جميع مستويات المجتمع الروماني، من الجنود الخصوصيين والمواطنين العاديين، إلى الكهنة، والعائلات الإمبراطورية.

وتضيف الكاتبة ديانا دراك قائلة: "الإمبراطور الروماني سبتيميوس سيفيروس (Septimius Severus) الذي حكم في الفترة (193 - 211)، كان يحمل دما فينيقيا، وُلِد في لِبتيس مانيا (Leptis Magna) (ليبيا الآن)، وتوفّي في إيبوراكوم (Eboracum) (الآن هي يورك في إنكلترا)، تزوج امرأة سورية، جوليا دومنا (Julia Domna)، ابنة كبير الكهنة في معبد الشمس الشهير في إيميسّا (الآن مدينة حمص في سوريا)، أنجبت له ولدين، أصبح كل منهما إمبراطورا، كانوا جميعهم أصحاب بشرة داكنة بالطبع، كانت الإمبراطورية واحدة من أنجح بوتقات الانصهار في التاريخ، وتحمّلت الثقافات والأديان الأجنبية بشكل عام دون تعصُّب واضح ضد العرق أو لون البشرة، طالما أن رعايا الإمبراطورية لم يتَحَدُّوا حُكمها وسلطتها، يُقال إن جوليا دومنا شجّعت ابنها كاراكالا (Caracalla) لإصدار مرسومه الشهير سنة 212، الذي منح الجنسية الرومانية لجميع الرجال الأحرار في الإمبراطورية، لكي يُمحى كل تمييز بين الرومان ورجال المقاطعات، انتهت عقلية «ارجع أيها الأسود من حيث جئت"، على الرغم من أن بعض الرومانيين بالطبع قد شعروا بخلاف ذلك، مثلما اشتكى شاعر القرن الأول يوفنال (Juvenal) في سُخرياته من أنّ "نهر العاصي كان يصبُّ منذ زمن طويل في نهر التّيبر"، عَرف كل روماني أن نهر العاصي كان نهرا سوريا يصبُّ في البحر عند أنطاكيا (وليس في نهر التيبر الذي يمر في روما)"(ص108) .


اقرأ أيضا: بحث في تاريخ الاحتكاك الحضاري بين المسلمين والغرب.. فن العمارة

التعليقات (0)
الأكثر قراءة اليوم