كتب

الشائع والثابت في جرائم "ريا وسكينة" في مصر (1من2)

قراءة موثقة لحكاية "ريا وسكينة" في التاريخ المصري  (فيسبوك)
قراءة موثقة لحكاية "ريا وسكينة" في التاريخ المصري (فيسبوك)

الكتاب: رجال ريا وسكينة.. صورة اجتماعية وسياسية
المؤلف: صلاح عيسى
دار النشر: الكرمة.. 2019
عدد الصفحات: 940


في نحو ألف صفحة، فتح الكاتب والمؤرخ المصري الراحل صلاح عيسى ملفًا راجت عنه التهاويل أكثر من الحقائق، ولكن ليكشف حقائق أكثر هولا. لقد تحولت قصة عصابة خطف النساء وقتلهم في العقد الثاني من القرن العشرين بمدينة الأسكندرية، والمعروفة بعصابة "ريّا وسكينة" إلى أسطورة حيث أضافت المخيلة الشعبية وكذا الكُتاب وصنّاع الدراما تهاويل مثيرة وغامضة، شطحت عن الواقع.

إلا أن الوقائع، التي قدمها صلاح عيسى في كتابه، حيث تتبع خيوطها المتشابكة وتفاصيلها وخلفياتها الخاصة والعامة، شكلت فاصلا بين ما هو مثبت وما هو شائع، منبها إلى التناقضات حتى وإن لم يرجح كفة إحداها. تلك الوقائع كانت من الهول لتفوق الخيال.

ليست مجرد جريمة:

عبر قرن من الزمان، تتابعت أكثر من ثلاثة أجيال، تعرفت على الأختين من الدراما، بضعة أفلام ومسرحيات، بعضها يثير الرعب، وبعضها يثير الضحك، وأحيانا التعاطف. لكن كيف كانت أصداء الحدث في أوانه، عند اكتشاف الجريمة، وخلال التحقيقات، وحتى تنفيذ حكم الإعدام؟

طبعت صور بنات همام في بوسترات تحتها اسمهما بالعربية والإنجليزية. خصصت الصحف زاوية ثابتة يومية على مدى شهرين تخيلهما الناس وحوشا هربت من الغابة وطلبت تعقبها... إلى أن وقعت في  المصيدة، ص9.

طلب "عظمة السلطان أحمد فؤاد من رئيس وزرائه ووزير داخليته.. أن يوافيه بتقرير شامل عن ابنتي على همام، استحث رئيس الوزراء، ووزير الحقانية على الإسراع بإنهاء التحقيق معها". كما أصبح  الموضوع في جانب من مجال للجدال حول كفاءة المصريين لحكم أنفسهم. ص9.

كانت ريا وسكينة وضحاياهما من تسميهم الصحف "الطبقات الواطئة".
 
"وهكذا تواطأ الجميع بالصمت أو الجهل أو سبب الإحساس العميق بالعار على تحول ريا وسكينة إلى رمز أسطوري للشر" ص9.. أخذوا يتبادلون وينسجون حولها قصصًا وأساطير مرعبة... يخيفون بها الأطفال وتستخدم مادة في المسرحيات. 

ينتقد عيسى ما كتبته الأديبة لطيفة الزيات، والذي اعتمد على حكايات أمها في طفولتها عن طقوس  القتل والزار وحرق الجثث، وتفاصيل أخرى يرى عيسى أنها مقتبسة من السفاح الفرنسي هنري لاندرو 1919 الذي بدأ جرائمه في 1914 واختطف 286 امرأة وقتل 11 منهن وحرق جثثهن واستولى على قيمة التأمين على حياتهن وظل متشبثًا بالإنكار لكن حكم عليه بالإعدام ديسمبر 1921 بعد أيام قليلة من تنفيذ إعدام ريا وسكينة. (ص 12).

تواطأ الجميع بالصمت أو الجهل أو سبب الإحساس العميق بالعار على تحول ريا وسكينة إلى رمز أسطوري للشر" ص9.. أخذوا يتبادلون وينسجون حولها قصصًا وأساطير مرعبة... يخيفون بها الأطفال وتستخدم مادة في المسرحيات. 

 

أثارت قضية ريا وسكينة مخيلة أشخاص غير أسوياء، من بين هؤلاء "فؤاد الشامي" الشخص العابث الذي ألهمته الحكايات حول ريا وسكينة، فأخذ يتفاخر بجرائم لم يرتكبها وأمضى فترة في عماد الدين يفرض الإتاوات على البارات والملاهي والراقصات.

مجرمون أبطال

يقول عيسى: إن المرويات لسنين اعتادت أن تمجد الخارجية على السلطة وتصنع منهم أبطالًا أما أحدثهم من لقوا بعض الترويج ياسين وبهية وشفيقة ومتولي وأدهم الشرقاوي. وفي لبنان شاهين ومرعي، علاوة على روبين هود الانجليزي، وزاباتا المكسيكي. ولكن لم تقم المخيلة الشعبية بالأمر نفسه مع ريا وسكينة. 

بدأ أدهم الشرقاوي مشواره الإجرامي وانتهى تزامنًا مع ريا وسكينة 12/10/1919. 

يبدي المؤلف تعجبه من اختلال مصير أدهم الشرقاوي عن ريا وسكينة في المخيلة الشعبية. وعن شخصين محمود أبو العلا ومحمد خليل الأول مدسوس من الباحث وهو من وشى بأدهم الشرقاوي أما الثاني من قادة في كمين أعدته الشرطة، فقد مزج التراث الشعبي بين أبو العلا ويهوذا الاسخريوطي.

في يوم الأربعاء 21 كانون الأول (ديسمبر) 1921 سجن الحضرة عندما نكست الراية السوداء دلالة على انتهاء تنفيذ حكم الإعدام هتف المحتشدون عاش اللي شنق ريا عاش اللي شنق سكينة وهكذا استثناء من قاعدة الفولكلور شيعوهم باللعنات.

بحث بالصدفة

بدأ عيسى بحثه بالصدفة في 1993 حينما وقعت عيناه على ملف الجناية رقم 23 سنة 1920. وربط بين موجة الإجرام التي كانت من بينها جرائم ريا وسكينة التي حدثت عقب الحرب العالمية الأولى وبين جرائم أولاد الليل التي تلت الحرب العالمية الثانية.

بلغت أوراق القضية 2220 صفحة فلوسكاب. غاص فيها المؤلف ليرسم سيناريو متخيلا لحياة بنات همام مشيرًا إلى حركة الهجرية الداخلية في مطلع القرن العشرين، حتى حطوا الرحال بالإسكندارية التي كانت تعج بالأجانب، يقيمون كباقي المهمشين في جحور مظلمة بأزقة ضيقة.

من بين الملاحظات التي لفتت نظره هو أن رجال عصابة "ريا وسكينة" شاركوا في الحرب العالمية، بين مليون من فقراء المصريين الذين كانوا يساقون نحو خطوط القنال للقيام بالأشغال. بعضهم سخرة وبعضهم للحصول على فرص عمل بأجر مجز بمقاييس تلك الفترة العصيبة على شبح المجاعة. (ص32)

ترتيب الملف كان ملائما لطبيعة البحث الجنائي والمحاكمة القضائية

ـ البلاغات ـ محاضر التحقيق والتفتيش ـ تحقيقات النيابة ـ محاضر تفتيش النيابة ـ جلسات المحاكم، أمام قاضي الأحكام أو محكمة الجنايات ـ منطوق الحكم ـ الطعن أمام محكمة النقض ـ محضر التحريات ـ الأوراق والمستندات والأحراز، والمضبوطات (ص33).

كانت مهمة الكاتب 

ـ إعادة بناء سيرة كل شخصية وفق تسلسل زمني مفهوم ودوافع المشروع الإجرامي والظروف التي آلت إليه حتى وصولهم إلى أعواد المشانق.
 
ـ إعداد فهارس مختلفة: الوقائع/ الأعلام/ الأماكن.
 
ـ العودة لمسح الصحف المعاصرة للمقارنة مع غيرها وتلمس الرأي العام. 

ـ الرجوع إلى أرشيف الصحف منذ بداية الحرب للبحث في الخلفية الاجتماعية. 

ـ اتسع البحث لمراجع تتناول الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية. 

تغريبة بني همام 

استدرك في عدة صفحات عن وضع الصعيد المصري، حيث قادَهُ التحقيق إلى لقب العائد قد يرجع إلى الهمامين، نسبة إلى شيخ العرب همام الذي حكم الصعيد 1765 ـ 1769 ورغم هشاشة الاستنتاج الأخير، إلا أن إسهابه جاء في تحليل أوضاع الصعيد وعزلته التي كسرها محمد علي في إطار مشروعه النهضوي ثم مشروعات السكة الحديد وسكة الري وكذلك العمل بالسخرة في حفر القناة والعمل بالسخرة في شق الطرق بدت المدن بالنسبة للمعدمين أقل شقاء من الريف. (ص44) 

الفصل الأول
 
يبدأ صلاح عيسى بنسج خيوط سيرة ريا وسكينة رجوعًا إلى أبويهما وتاريخ محل ميلادهما في قرية تُسمى الكِلْح بسوهاج، وأقرب مكان حسب بحث في مركز ادفو بأسوان. في بيئة غير مستقرة، استشفها الكاتب من سلوكياتهما تتسم بالخروج من العادات والتقاليد إلى درجة إدارة بيوت للدعارة. ومعاونة الأم والأخ لها، الأمر الذي لا يرجع للفقر وحده، حسب رأي الكاتب.
 
وسط موجات الهجرة شمالًا، هاجرت أسرة علي همام من بني سويف إلى كفر الزيات، التي كانت مركز محالج القطن، ومعاصر الزيوت البدائية، وأصبحت مركزا لجذب العمالة، حيث التحق الأخ أبو العلا وسكينة بأحد معامل الحلج وعملت ريا وأمها في بيع الشاي والطعام للعمال. لكن العمل في المحالج كان موسميًا من أكتوبر إلى يناير. عاش العمال المهاجرون في تجمعات منعزلة عن السكان الذين اشمأزوا منهم لما يتسببون فيه من تلوث وارتفاع الأسعار والإيجارات ومال سكان كل محافظة إلى بلدياتهم. 

 

أثارت قضية ريا وسكينة مخيلة أشخاص غير أسوياء، من بين هؤلاء "فؤاد الشامي" الشخص العابث الذي ألهمته الحكايات حول ريا وسكينة، فأخذ يتفاخر بجرائم لم يرتكبها وأمضى فترة في عماد الدين يفرض الإتاوات على البارات والملاهي والراقصات.

 



تزوجت الأخت الكبرى "ريا" من أحد العمال الصعايدة من قرية "الرقب" مركز كوم امبو... وبعد مرضه ووفاته تزوجها أخوه (حسب الله) شريكها في مسيرة الإجرام (ص 46).
 
عمل حسب الله خفيرا، ويظهر من تتبع مسيرته أنه مال إلى الكسل كما مارس السرقات، تزوج من ريا أرملة أخيه في 1909 وأنجبا ابنتهما بديعة، التي سيكون لها دور كبير في قضيتهما. ولأن عمله كان موسميًا اضطرت ريا للعمل كي تنفق عليه وعلى تدخينه المعسل والمخدرات.

الوعد 

انزلقت سكينة إلى "الوعد وسجلت في نقطة المومسات بمدينة طنطا وكان تنظيم الدعارة يضم "العايقة" وهي الضامنة التي تدير بيت البغايا، واللاتي يسميهن الترخيص مقاطير وكان القانون يسمح بعدد محدود من بيوت البغاء وتسجيل المقاطير على أن يخضعن للكشف الطبي (ص52 ،53).. وبسبب مرضها ودخولها المستشفى، تعرفت سكينة على الممرض أحمد رجب، وتزوجت منه.
 
نشبت الحرب أغسطس 1914 حتى أصاب أسواق القطن الكساد وأصابت البنوك أزمة بسبب سحب الودائع.. كان موسم القطن يمثل موسم رخاء للزراع والعمالة الموسمية، ورواجا لأعمال الإنشاء وبالنسبة لأصحاب الأرضي.. حتى أن شهر أغسطس السابق على موسم جني القطن يسمونه موسم الأزمة. بسبب الحر والرطوبة والأزمة المالية (ص55).

لم يقتصر أثر الحرب على أزمة القطن، بل أدت لاضطراب طرق المواصلات الدولية والتصدير والاستيراد.. وأسهم فيها الأجانب المسيطرون على التجارة الداخلية في الأزمة.. عاد حسب الله، أبو العلا للسطو على الدكاكين ولم تزد غنائمه عن بعض البقالة.. ولم يكن حسب الله الوحيد بل انتشرت السرقة بسبب البطالة. (ص57). 

الهجرة إلى الأسكندرية
 
بالانتقال إلى الأسكندرية، مسرح الأحداث، يكتسب السيناريو حركية أكبر. كانت المدينة الساحلية تضم ما يقرب من نصف مليون نسمة مقسمين إلى ثمانية أقسام كانت تضم الكثير من الأجناس، وكذلك مصريون من جميع الأقاليم. كانت شوارعها مرصوفة ومنارة ويسير فيها الترام وتصدر بها الصحف بالعربية وبلغات أوروبية.
 
ازدحمت الأسكندرية بالفنادق والحانات ودور السينما، 75% من التصدير كان من نصيب ميناء الأسكندرية، وبذلك فتحت مجالا للعمال المهاجرين في كافة المجالات. وبالطبع كانت الحرب سببًا في كساد العمل في المدينة فانتشرت البطالة كوباء خلال أسبوعين تشرد 20 ألف عامل وامتلأت بهم شوارع الأحياء الصغيرة باب سدره كوم الشقافة القباري وكرموز، فساروا في تجمعات هاتفين "عاوزين ناكل عاوزين ناكل" وتجمهروا أمام مبنى المحافظة التي اتخذت قرارت قاسية منها ترحيل أعداد كبيرة إلى الصعيد، تشغيل البقية في حي الشاطبي بأجور بخسة، ثلاثة قروش للرجال وقرشان للنساء.

استطاع التجار توفيق أوضاعهم مع ظروف الحرب وحولوا أعمالهم للصناعات الحربية. لكن الفئات الصغيرة زادت ترديا، حتى قررت السلطات البريطانية تشكيل فرقة الجمّالة التي تنقل المهمات والذخائر وفيلق العمل لتمهيد الطرق ومد الأسلاك اندفع جحافل للعمل تحت وطأة الجوع. 

كانت عائلة همام واحدة من تلك العائلات المهمشة، عملت سكينة في بيع اللحوم الفاسدة من المعسكر الإنجليزي، وخرجت الأم والأخت من الحبس، فتكدسوا في غرفتها سبقهم حسب الله ثم أبو العلا. كانت المدخرات التي تركها زوج سكينة، المغترب مع فِرق الحرب، لا تكفي، مما دفع سكينة لبيع القصب أو عرض نفسها أو تأجير غرفتها للبغايا (ص65).

فيما بعد استقر عمل العائلة في منزل (بيت الخوّاص) للبغاء السري نظير نسبة 25% من الأجر الذي تراوح بين 5 ـ 10 قروش. صقلت ريا موهبتها فأصبحت "سَحَّابة" تغوي النساء لمجالسة الرجال ومعاشرتهم، وقد تراوحت علاقة أفراد العائلة ما بين الاتفاق والاختلاف.

اجتماعيًا كان هناك تفريق بين بيوت "الأحرار" و"البيوت السرية" (بيوت البغاء) والتي انتشرت بشكل كبير وزحفت بين بيوت "الأحرار" الذين لم يستطيعوا مقاومة ذلك، لا سيما في ظل تراخي القبضة الأمنية على هؤلاء. فكانوا في أقصى الأحوال يحاولون الانتقال إلى مناطق أخرى.

رغم تكاثر البلاغات عن بيوت البغاء لم تعر الشرطة الأمر أهمية، لعدة أسباب من بينها كيدية بعض البلاغات، واهتمامها بجرائم أكبر مثل القتل والمشاجرات والسرقة، وإخفاء السلع. لم يتعدَ الأمر حملات المداهمة للبغايا في الشوارع أو المقاهي وتحويلهم إلى المستشفى للكشف عن الأمراض المنتقلة عن طريق الجنس.

رغم كونها متزوجة، مارست سكينة الجنس بمقابل أو مع من يروق لها، كما رافقت آخرين. أهمهم "محمد عبد العال" رفيق المشروع الإجرامي من قرية موشا بأسيوط، والذي تزوجته بعد إجبار زوجها أحمد رجب على تطليقها. 

جنرالات وفتوات
 
يظهر على المسرح رجل ثالث، بعد حسب الله وعبد العال، أحد "رجال ريا وسكينة"، إنه عرابي حسان، والذي اتضح من تقصي الكاتب أن أصله من أبنوب الحمام بمحافظة أسيوط، ترك لهم والدهم بضعة أفدنة لكنه تركها لإخوته يزرعونها، ورحل للأسكندرية واشتهر كفتوة.. 

في هذا الفصل يتعمق صلاح عيسى في ظاهرة "الفتوات"، نشأتها وأفولها في عصر المدينة وبسط الشرطة النظامية نفوذها، إلا أن عدم إحكام القبضة الشرطية، علاوة على بقائهم بين السكان ومعرفتهم جعلتهم أكثر تخويفًا، حيث آثر البعض عدم اللجوء للحكومة. كان لكل منطقة فتوة له عصابة، وكان يطلق على أي فتوة بالأسكندرية "أبو أحمد". يلي الفتوة في التراتب المشاديد الصبوات ثم المجدع، ثم المقاطيع وهم خدم العصابة.  

وكانت الجنسيات في الأسكندرية تتمتع بالامتيازات الأجنبية، التي يحصل عليها البعض بمقابل المال، فيستمتع بالامتيازات الأجنبية، ومنها عدم قدرة الشرطة على التعامل معهم دون إخطار القنصل فنشأت طبقة من الحثالة الأوروبية تمارس شتى أنواع الجرائم من نشل وسرقة وبلطجة وقتل وتهريب. نشأ التحالف المسكين بين الفتوات والقوادين خوفًا وطمعًا.

كان عرابي حسان من مرتبة أدنى من كل مراتب الفتوات السالفة. وقد فرض سطوته على بيت البغاء نظير استغلاله لخدماتهم مجانًا. وقد اضطرت الظروف عائلة همام للانتقال أكثر من مرة وأحيانًا كانوا يستأجرون بيوتًا للسكن خلاف بيوتهم السرية.

الشغل في السلطة 

خلال الحرب تحولت مصر إلى سلطنة تحت الحماية البريطانية يحكمها السلطان حسين كامل، وأعلنت الأحكام العرفية فحظر أي نشاط سياسي وتوقفت معظم الصحف. خلاف الأنفار تم الاستيلاء على المحاصيل والمواشي والدواب.

يقول عيسى: "إن القاسم المشترك الأعظم في سيرة حياة كل الذين عرفوا فيما بعد باسم رجال ريا وسكينة بعد "التغريبة" هو "الشغل في السلطة"، يشير ذلك إلى نحو 1.2 مليون مصري عملوا سخرة وتطوعًا بأشغال قوات الحلفاء بدءا من دخول إنجلترا الحرب أغسطس 1914. حظي هؤلاء بكسوة كاملة وغطاء وجراية يومية 32 أوقية خبز بلدي، 24 أوقية بقسماط، 3 أوقيات لحم، 4 أوقيات عدس، 4 أوقيات بصل، أوقيتان من الأرز، كما حصل بعضهم أيضًا على السمن والشاي واللبن (ص 138).. كانت قائمة الجراية تمثل كنزا نفيسا لهؤلاء المعدمين، لا سيما في ظروف الحرب. 

 

إن القاسم المشترك الأعظم في سيرة حياة كل الذين عرفوا فيما بعد باسم رجال ريا وسكينة بعد "التغريبة" هو "الشغل في السلطة"، يشير ذلك إلى نحو 1.2 مليون مصري عملوا سخرة وتطوعًا بأشغال قوات الحلفاء بدءا من دخول إنجلترا الحرب أغسطس 1914

 



عمل محمد عبد العال في السخرة بين نهاية 1917 وبداية 1919 أغلبها في العراق، يليه عرابي حسان الذي خدم في الشام وأقلهم حسب الله في ليمونس عاصمة جزيرة مودوروس. بعد العودة للحرب انغلق مصدر الرزق الذي كانوا يعيشون عليه ولو لفترات، ولم يبق إلا العمل في البغاء ولم يعد من الممكن التواري عن المجتمع. كما لم يستطع محمد عبد العال مواجهة أمه التي جاءت لما سمعت بعلاقته بسكينة (ص160).

ثورة 1919

تراكمت الضغوط الاقتصادية ـ الاجتماعية بسبب الحرب، التي لم يكن للمصريين فيها ناقة ولا جمل، وفاقم من الوضع قمع الاحتلال. نشبت ثورة 1919 وانقطعت المواصلات بين القاهرة والأسكندرية، بلغت الثورة ذروتها في القاهرة والصعيد والدلتا والمدن الساحلية. لكن الأسكندرية كانت أهدأ نسبيًا وقد فرض حظر التجوال ونصبت نقط التفتيش تأثر نشاط البغاء المصرح به الذي اعتمد بنسبة كبيرة على الجنود الإنجليز والنيوزلنديين والأفغان والهنود والأستراليين.

يستكمل الكاتب الفصل الثاني من الكتاب مقتفيا أثر آل همام الذين تكرر انتقالهم حتى وصلوا إلى حارة النجاة حيث أنشأوا محششة في المنزلين رقم 8،9. كان تعاطي الحشيش غير مستهجن اجتماعيا، ولم تتجاوز عقوبته الغرامة، وكانت المحششة أيضا غطاء وبابا للدعارة. عكس هذا الجزء جهودا واضحة من الكاتب للم شتات القصة من الأقوال المبعثرة من ملف القضية المتخم.
 
الفصل الثالث.. شيء من القساوة 

في خريف 1919 جاء ظهور عبد الرازق يوسف، الرجل الرابع وليس الأخير، من "رجال ريا وسكينة" عربجي أجير اكتسب قوته من وقاحته وسجله الجنائي الحافل بـ 19 سابقة سرقة وضرب وحيازة حشيش، وهو سكندري الأصل من حي اللبان بدأ الإجرام منذ طفولته بسرقات بسيطة ثم أصبح فتوة في صباه. 

أوصلته سبله الملتوية بآل همام في أوج نشاطهم، حين كانت المحششة تزدحم بروادها حتى أصبحوا يستعينون بأماكن خارجية. فكان له قصب السبق في مضمار الجريمة النكراء.

في غضون ذلك، عادت الثورة للاشتعال بعد صدور قرار لجنة ملنر، جعلت المظاهرات تطوف الأسكندرية تتابعها الشرطة حتى تنفض حتى الجمعة 24/10/1919 حيث تجاوز عددها 15 ألفا، فجأة داهمتها الشرطة ووقع اشتباك واستنجدت الشرطة بجيش الاحتلال وتصاعد الموقف لحرب شوارع وأصبحت تحت رحمة جيش الاحتلال.
 
في هذه الظروف جاءت لأول مرة فكرة قتل أول ضحية خضرة محمد اللامي 20/12/1919، حتى فردوس بنت فضل الله 12/11/1920 الضحية 17 والأخيرة (ص 218).

ورغم اعتراف المجرمين الأربعة بتفاصيل بشعة إلا أنهم تنصلوا من المسؤولية من القرار الأول.. إذا كان صحيحًا، كما يقول المتخصصون في عالم الجريمة أن نمطا معينًا من الجرائم، يمكن أن يقود إلى ارتكاب أنماط أخرى أكثر تعقيدًا وعنفًا، فمن الصحيح كذلك أن التخصص في نمط معين من الجرائم، بما يتضمنه ذلك من صفات نفسية وخبرات سابقة هو القاعدة العامة التي يسير عليها الخارجون عن القانون فماذا حدث لينتقل آل همام فجأة من التخصص في الجنح الناعمة التي لا تتعدى أمور المزاج والفرفشة ولا يعاقب عليها إلا بالغرامة أو الغلق، إلى الجنايات الخشنة التي تقود إلى المشنقة؟ ومن أين جاؤوا بكل تلك الوحشية التي لم نعرفها عنهم خلال تاريخهم السابق؟ 

ويستطرد صلاح عيسى أن الانحلال الخلقي كان قد وصل إلى أقصى مدى.. حتى طفت معه على سطح المجتمع ظواهر اجتماعية وإجرامية لم تكن معروفة من قبل ومن بينها:

ـ الإتجار في أعراض الغلمان، استخدام الأحداث في السرقة، العثور على أطفال حديثي الولادة أحياء أو أمواتا عند الترع وفي الأزقة وأمام أقسام الشرطة والمستشفيات، انزلاق الفتيات إلى الدعارة وتقدمهم إلى قسم حفظ الآداب للحصول على ترخيص رسمي للعمل في الدعارة (ص222)..

بلغت القسوة في قمع المظاهرات درجات لم يعتدها المواطنون، الذين بلغت ردود أفعالهم درجة لم يتوقعها البريطانيون (ص224).. وفي معرض ذلك أشار الكاتب إلى ضلوع العصابة المتكونة في سرقة جثث الضحايا الملقاة في الشوارع.

اختيار الضحايا 

اعتادت العاملات في البغاء تجميد ما تبقى لهم من أجرهن في حلي ذهبية تنفعهن ضد تقلبات الزمن وتعطيهن تعويضًا عن وضعهم في المجتمع، وأصبح لهن ذوق خاص في المشغولات. جعلهن في المقابل معروفات، ربما فقط لدى المتعاملين معهن، بتفضيل الأساور الثقيلة قليلة الزخارف لأنها أقل مصنعية.


ربما بدأ الأمر حسب ما رسمه الكاتب بملاحظة ناقمة من ريا ثم تلقفها عبد الرازق ذو الخلفية الإجرامية العنيفة المشهور بوقاحته ودناءته في التعامل خاصة مع النساء الضعيفات اللاتي كان يضاجعهن دون مقابل بل ويسلبهن ما يحملنه من نقود ومصاغ ويضربهن بعنف.
 
استقر رأي الرجال على استدراج خضرة إلى حجرة ريا في حارة علي بك الكبير، كانت الخطة تقوم على إغراء المرأة باحتساء كمية كبيرة من الخمر حتى تفقد وعيها وحينها يسلبونها مصاغها، لكن التوجس من احتمالات فشل المخطط وافتضاح أمرهم. زعم أفراد العصابة أن فشل محاولة السرقة تحت المخدر دفعهم لقتل خضرة اللامي أولى ضحاياهم. 

كان إخفاء الجثة أمرا هاما، لأن حوادث الاختفاء لم تكن تدعو الشرطة للبحث، حيث تتعدد الأسباب في  ظل الظروف المضطربة، من بينها "المشي في الوعد" أي العمل في الرذيلة.

تصريف المسروقات

كان نظام الصاغة من 1913 يقضي بتعيين وزّانين في أسواق الذهب لفحص المصوغات ووزنها وتسجيلها في دفتر معتمد من المحافظة. ولأن المرأتين ريا وسكينة المنوطتين بتصريف المسروقات، لم تقمن بذلك بالطبع، خمّن الصائغ أنها مصوغات مسروقة. وبينما قدرت مصوغات الضحية حسب فاتورة بتاريخ 15/10/1919 قدمها أبناؤها، بـ32 جنيها، قيم على الصايغ المصاغ بـ 18 جنيها ولم يدهش حين قبلت ريا دون تردد.

تراخِي الشرطة 

رغم تقدم أهل الضحية ببلاغ، تعاملت الشرطة بتراخٍ، حيث انتهى بالحفظ في 23 فبراير 1920 في هذا الوقت كان قد انضم إلى خضرة اللامي تحت صندرة حجرة ريا خمس نساء: نظلة أبو الليل، عزيزة المشار لها بـ "مجهولة اللقب".


التعليقات (0)