كتب

أصولية المغرب.. رهانات إدماج الإسلاميين وتحديث المجتمع

كيف تمكنت وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمغرب من تقوية وتنشيط "أصولية دولة جديدة"؟ (عربي21)
كيف تمكنت وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمغرب من تقوية وتنشيط "أصولية دولة جديدة"؟ (عربي21)

الكتاب: "السياسة الدينية بالمغرب 1984- 2002: أصولية الدولة وإكراهات التحديث" السلطوي
الكاتب: سليم حميمنات
تقديم الدكتور عبد الحي المودن
الناشر: إفريقيا الشرق- البيضاء
عدد الصفحات 462


مقدمة

يعتبر هذا الكتاب (أطروحة جامعية لنيل الدكتوراه) مساهمة أكاديمية نوعية في رصد وتحليل السياسة الدينية في المغرب، على الأقل، في المرحلة التي جعلها الباحث إطارا لبحثه، أي 1984- 2002، والتي عرفت تحولات عميقة للسياسات الدينية في اتجاه المأسسسة وتحديد الوظائف وبناء الرهانات.

وتكمن أهميتها من جانبين اثنين، أولهما طبيعة الموضوع، وبشكل خاص، الإشكال الذي اشتغل عليه الباحث، والذي يخص دور الدين في الفضاء العام (المغربي)، والشكل الذي يتعاطى به الفاعلون معه، وأما الثاني، فيعود لطبيعة الباحث، المعروف باشتباكه البحثي مع مختلف القضايا التي تتصل بالسياسات الدينية والفاعلين الدينيين، وانضباطه الصارم لأدوات البحث العلمي، لاسيما ما يتعلق بالحزمة الوثائقية التي استند إليها، ناهيك عن تبنيه منهجية المقابلات لرصد مواقف الفاعلين، وتحليلها، ومقابلة بعضها مع بعض.

ولئن الحقل الديني هو مسرح تدافع عدد من الفاعلين (المؤسسة الدينية الرسمية، الزوايا، الحركات الإسلامية...)، بل تدافع قوى أخرى، لها تصورها المختلف لدور الديني في الفضاء العام (القوى العلمانية الليبرالية واليسارية)، فإن رصد السياسة الدينية، لا يمكن أن يكون بمعزل عن دراسة مختلف الديناميات التي ينتجها الفاعلون الدينيون أو الفاعلون الآخرون، مما تطلب معه، بحث استراتيجية كل فاعل، بما في ذلك استراتيجية الفاعل الأساسي في الحقل الديني، أي المؤسسة الدينية.

من هذه الزاوية تكمن أهمية هذا الكتاب، الذي حاول أن يتتبع مختلف السلوكات والمواقف والمخرجات التي تصدر عن هؤلاء الفاعلين، ويرصد الأدوار الوظائف، ويستخلص الخلاصات بشأن السياسة الدينية بالمغرب، ويختبر فرضياته البحثية بشأن أصولية الدولة وأهم الإكراهات التي يطرحها التحديث من فوق، أو ما أسماه الباحث "التحديث السلطوي".

السياسة الدينية وأجوبة الإسلام المؤسساتي عن التحديات

يحدد الباحث إشكاليته البحثية بشكل دقيق، فهو يسعى لفهم الكيفيات والأشكال التدبيرية التي يصوغها الإسلام المؤسساتي للإجابة عن الأسئلة والتحديات المتنوعة التي بدأت تفرضها بإلحاح على النظام السياسي منذ ثمانينيات القرن الماضي.
 
لا يقصر الباحث هذه التحديات فقط على بروز الحركات الإسلامية وتنامي مدها الاحتجاجي في المنطقة، بل يدخل ضمنها أيضا مختلف أشكال التدافع التي أنتجها فاعلون آخرون في ساحة الصراع السياسي، مما يرتبط بموضوع الدين ودوره في الفضاء العام، أو بما يرتبط بالضغط التي مارسته هذه الحركات سواء منها السياسية أو المدنية لفرض مطالبها في قضايا ذات حساسيات دينية (مطالب الحركات النسائية مثلا).

تختصر هذه التحديات في المواقف المتناقضة التي أنتجتها مختلف الأطراف السياسية والمدنية، في قضايا ذات حساسية دينية، تطلبت تدخل السلطة الدينية للتوفيق بينها، أو للبحث عن أشكال وصيغ لتدبيرها، بما يحقق الاستقرار ويضمن التعايش بين هذه المكونات تحت سقف النظام السياسي الحاكم.

وهكذا، اشتغل الباحث على السياسة الدينية للمغرب في فترة محددة، هي فترة الثمانينيات والتسعينيات، لاعتبار تعاظم هذه التحديات في هذه الفترة، وأيضا باعتبار وعي الدولة بأهمية إعادة صوغ المجال الديني، وتضخم وظائف وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية وأدورها في مواجهة هذه التحديات التي أفرزها الحقل الديني والسياسي على السواء، إذ في الوقت الذي كان مطلوبا منها أن تقدم جوابا عن المد الإسلامي الذي توسعت موجته بعد الثورة الإيرانية، كان عليها بشكل متناسب أن تواجه ضغط الطلب التحديثي، الذي كان يأتي من قوى يسارية وعلمانية لتجبر النظام السياسي على مواكبة التحولات الديمقراطية ومتطلبات التحديث السياسي.

وهكذا، حاول الباحث أن يحاجج على أطروحة مركزية، ترى أن السياسة الدينية لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، تمكنت خلال الفترة المدروسة من تقوية وتنشيط "أصولية دولة جديدة" ذات توجهات مختلفة عن تلك التي تحكمت في أصولية الستينيات والسبعينيات، وأن هذه الأصولية الجديدة، استطاعت أن تؤدي أدوارا نوعية بالغة الأهمية، في تدعيم سيرورة التنمية السياسية، وتقوية أركان الدولة الحديثة، مثلما كان يتصورها الملك الحسن الثاني، حيث تم استثمار الإسلام الرسمي وتوظيفه في تعبئة مختلف الفاعلين الدينيين والسياسيين بهدف توسيع التراضي والإجماع على الاختيارات والمشاريع التحديثية التي تبنتها الدولة.

وقد حاول الباحث في كتابه أن يعالج هذه الإشكالية وينافح عن هذه الأطروحة من خلال استعراض الإطار المؤسساتي والتنظيمي الذي تخضع له وزارة الأوقاف، وأهم المحطات التي أشرت على تحول هذه الوزارة إلى وزارة استراتيجية في بنية النظام السياسي، وأهم المنطلقات المرجعية التي انطلقت منها هذه الوزارة لتأطير سياستها الدينية (القسم الأول)، كما تطلب الجواب عن إشكاليته المركزية تحليل المحاور الكبرى التي ترتكز عليها السياسة الدينية بالمغرب سواء في مجال تدبير الشأن الديني (تدبير الحقل الديني) أو في مجال العلاقة مع الحركات الإسلامية والحركات النسائية، أو في الإسناد السياسي والإيديولوجي للمؤسسة الملكية، أو في إسناد السياسة الخارجية والمساهمة فيها.

وزارة الأوقاف من "مراقبة الأهلة" إلى "وزارة السيادة"

يخلص الباحث في الفصل المرتبط بتطور الإطار التنظيمي لوزارة الأوقاف في الفترة المشمولة بالدراسة إلى دخول الوزارة مربع التدافع مع القوى السياسية، وتحولها من مجرد وزارة متواضعة المهام والوظائف، إلى وزارة بوظائف وأدوار ورهانات دينية وسياسية واجتماعية واقتصادية باللغة الأهمية، وقد فسر الكاتب هذا التحول بكونه استجابة للتحديات، وبداية صوغ الجواب الديني، أو مساهمة الجواب الديني في التحديات التي بدأ النظام السياسي يواجهها لتعزيز الاستقرار وتقوية أركان الدولة.

وقد حاول الباحث تتبع التحديات التي طرحتها هذه المرحلة، لاسيما بروز دور الحركات الإسلامية، وشدة التوتر والاستقطاب بينها وبين الأحزاب اليسارية والعلمانية، وبشكل خاص واجهاتها السياسية والمدنية (الحركة النسائية)، وسجل بهذا الخصوص تغير المرجعية المؤطرة للسياسة الدينية، وتبني الدولة لنهج إيجابي جديد في التوجيه الديني لمواجهة التيارات الدينية والسياسية التي بدأت تزعج النظام السياسي، سواء في الداخل أو الخارج، إذ سيكون هذا النهج بمثابة الإعلان عن تنشيط السياسة الدينية، وصوغ مفهوم الأصولية الجديدة للدولة، التي ستعمل وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية على تنزيلها على أرض الواقع بأشكال مختلفة في الفترة المشمولة بالدراسة، وسجل الباحث مغادرة السياسة الدينية أسوار المساجد وحلقات الوعظ، وتوغلها في مجالات وفضاءات اجتماعية وسياسية واسعة.

 

الباحث أبدى ميله إلى الاعتراف بفعالية هذه الدبلوماسية والأدوار التي قامت بها، على الأقل سواء في ملف النزاع حول الصحراء، أو في ملف العلاقات مع غرب إفريقيا من خلال توظيف الامتداد الصوفي للمغرب في إفريقيا، والرد على الجزائر التي حاولت توظيف الزاوية التيجانية في صراعها مع المغرب على في إفريقيا.

 



ولبسط عناصر هذه السياسة الدينية الجديدة ومحاورها الكبرى، استعرض الباحث مفردات سياسة ضبط الحقل الديني وإعادة هيكلته، وعلاقة الدولة بالعلماء (الضبط المؤسساتي والإشراف الإداري لمؤسسة العلماء، الضبط والتوجيه الإيديولوجي سواء تعلق الأمر بضبط الوحدة المذهبية، أو تقوية وظيفة العلماء بالاندماج في المجتمع أو مساهمتهم في بناء المجتمع)، وتدبير المساجد بناء وتسييرا، وتكوين الأئمة والقيمين الدينيين، والتأطير الديني المستمر لخطباء الجمعة، ومراقبة المساجد مذهبيا ووعظيا وأمنيا.

ليخلص الباحث من ذلك إلى وظيفة السياسة الجديدة، والمتمثلة في تنشيط سياسة إعادة الأسلمة من فوق، سواء بتعزيز فعالية الوعظ والإرشاد الديني، أو عبر التربية والتعليم الديني العتيق، أو عبر إحياء الكراسي العلمية أو عبر الإشراف على معاهد التكوين والمدارس الدينية والعتيقة أو من خلال تقوية البعد العقدي للدولة (نشر وتحقيق الكتب، الصحافة والمجلات الدينية، الدروس الحسنية، تنظيم المؤتمرات والندوات الدولية ذات الطابع الديني).

وهكذا انتهى الباحث من عملية الرصد والتحليل لمفردات السياسة الدينية الجديدة، إلى أن الجهاز الحكومي ممثلا في وزارة الأوقاف، كان يشرف بشكل فعلي على تنشيط أصولية الدولة وإنعاش قنواتها، وأنها أصبحت تضطلع بوظائف متعددة، يمكن حصرها في: ضبط الحقل الديني بدافع السيطرة عليه والتحكم في مختلف الفاعلين فيه، ثم تنشيط هذا الحقل، وتفعيل مؤسساته بما يجعلها أدوات للتأطير والأسلمة.

أصولية الدولة والحركات الإسلامية

ربما كان الفصل المتعلق بتدبير العلاقة مع الإسلاميين في المغرب بمختلف مكوناتهم من أنفس الفصول في هذه الأطروحة، ذلك أن الباحث تتبع مسارات العلاقة بين وزارة الأوقاف والحركات الإسلامية، وأيضا مسارات الإدماج الديني، سواء من خلال الجامعة الصيفية للصحوة الإسلامية أو من خلال حوارات تم تدشينها بين الوزارة وهذه الحركات، إن بشكل مباشر أو غير مباشر.

انتهى الباحث من استعراضه وتحليله لمسارات الحوار والإدماج الديني للحركات الإسلامية إلى خلاصتين مهمتين، أولهما أن وزارة الأوقاف كانت الجسر والممر للإدماج السياسي بما يعني أن السياسة الدينية كانت توظف آلية الإدماج الديني لتحقيق مستوى لاحق من الإدماج هو الإدماج السياسي الذي باشرته وزارة الداخلية (إدريس البصري). أما الخلاصة الثانية، وهي مرتبطة بسابقتها، وهي أن وزارة الأوقاف، لعبت دورا مهما في تقوية النموذج التحديثي السياسي المغربي، من خلال توفير شرط الإدماج السياسي، ذلك أن نجاح أي ديمقراطية وأي مشروع تحديثي يتوقف على مدى قدرة النظام السياسي على إدماج أوسع قدر من النخب السياسية.

السياسة الدينية وجدل الصراع والاستيعاب للحركات النسائية

تتبع الباحث في الفصل الخامس من القسم الثاني من الأطروحة، سياقات إعداد مدونة الأحوال الشخصية، والصراعات التي اندلعت بين الإسلاميين والحركات النسائية بخصوص عدد من المقتضيات التي تضمنتها المدونة، كما تتبع سياق طرح حكومة عبد الرحمان اليوسفي لمشروع الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية، والصراعات التي أعقبتها بين الإسلاميين والعلمانيين، وبشكل خاص الحركات النسائية، وكيف أثمرت هذه الصراعات الدعوة لمسيرتين في الشارع، واحدة في الرباط، والأخرى في الدار البيضاء، وكيف استطاعت السياسية الدينية أن تؤطر هذا التوتر وتدبره وتحتويه، من خلال نهج اعتمدت فيه توظيف الإسلاميين والحركة النسائية على السواء، لفرض أصولية الدولة، وتعزيز أطروحة إدماج الإسلاميين وتقريبهم، والتأسيس لنهج الصراع والاستيعاب مع الحركات النسائية.

وقد سجل الباحث في خلاصاته بهذا الصدد بأن المؤسسة الدينية لم تكن تريد الاصطدام مع الحركات النسائية، ولم تكن تفكر في ذلك، وإنما اضطرت لهذا الخيار بعدما رأت دينامية هذه الحركات تتجه لمصادمة سياسة الدولة. ومع أن الوزارة كانت رافضة للخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية، إلا أنها طرحت نفسها كسلطة للتوفيق بين المطالب المتعارضة في الموضوع، والتي تم التعبير عنها من قبل الإسلاميين من جهة والحركات النسائية من جهة مقابلة. ويشير الباحث إلى أن المآل الذي انتهى إليه التوتر حول الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية صب في السقف الإصلاحي الذي كانت تتطلع إليه المؤسسة الدينية والذي سبق لها التعبير عنه.

السياسة الدينية كآلية لإسناد المؤسسة الملكية والسياسات الخارجية للدولة
 
وقد ناقش الباحث في أطروحته الدور الإيديولوجي الذي قامت به السياسة الدينية في إسناد المؤسسة الملكية وتكريس مرجعيتها التقليدية الدينية، واعتبار مؤسسة إمارة المؤمنين مؤسسة سامية تعلو على المؤسسات الديمقراطية والدستورية الحديثة.

كما حاجج في أطروحته على الدور الذي قامت به السياسة الدينية في إسناد السياسة الخارجية للدولة وتعزيز إشعاعها الحضاري، وذلك سواء تعلق الأمر بدعم الوحدة الترابية للمملكة (قضية الصحراء) أو تعزيز مصالح المغرب الخارجية في ظل غياب أو محدودية الإمكانات والموارد المالية وفي ظل وضع سياسي حرج تميز بالعزلة القاتلة التي كان يعاني منها المغرب.
 
وبغض النظر عن الخلاف في تقييم حصيلة الدبلوماسية الروحية في تدعيم السياسات الخارجية المغربية وتقوية نتائجها، وعدم وجود دراسات كافية في هذا الصدد، فإن الباحث أبدى ميله إلى الاعتراف بفعالية هذه الدبلوماسية والأدوار التي قامت بها، على الأقل سواء في ملف النزاع حول الصحراء، أو في ملف العلاقات مع غرب إفريقيا من خلال توظيف الامتداد الصوفي للمغرب في إفريقيا، والرد على الجزائر التي حاولت توظيف الزاوية التيجانية في صراعها مع المغرب على في إفريقيا.

وعلى العموم، يمكن القول بأن كتاب الباحث الدكتور سليم حميمنات، يعتبر من المساهمات البحثية الجادة، التي التزمت منهجية الحذر في الاستنتاجات، ودأبت على تكثيف المؤشرات من أجل تدعيم التوجهات التي خلص إليها في كل فصل على حدة. 


التعليقات (0)
الأكثر قراءة اليوم

خبر عاجل