قضايا وآراء

ما بين البرهان والحلو: الدولة وشروط النهضة

إبراهيم الصديق علي
1300x600
1300x600
(1)
"إنتاج فكرة حية تطبع على مجتمع معين الحافز الذي يدخله التاريخ".. ذلك تعريف الحضارة عند المفكر مالك بن نبي، فهي حاضنة التقدم والمحيط المناسب لإشاعة ثقافة القيم، وفي هذه الأيام نحن بحاجة لقراءات جديدة عن "شروط النهضة" و"مشكلات الحضارة". وبعض تنظير ابن نبي في خمسينات القرن الماضي والدول العربية والعالم الثالث بشكل عام كان يسعى للتحرر من الاستعمار، واليوم نشهد في بلادنا منظوراً جديداً للهيمنة والسيطرة على الأمم بآليات جديدة ووسائل جديدة، والغاية واحدة: "الإخضاع" و"القولبة".

ويتوسع ابن نبي في تفسير إشكالات الحضارة، السر الكوني (الإنسان والتراب والوقت)، وبواعث الدين في تحريك خمول الذهن ووهن العقل والسعي إلى المثل العليا.

ووصف ابن خلدون ناتج الحضارة بأنه ".. تعظم الثروة، ويكثر الغنى وتزيد عوائد الترف ومذاهبه، وتستحكم لديهم الصنائع في سائر الفنون"..

وقال الإمام محمد أبو حامد الغزالي، تعليقاً على آراء الإمام الشاطبي في المقاصد: "إن مقصود الشرع من الخلق خمسة، وهو أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم، فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول مصلحة، وكل ما يفوت هذه الأصول مفسدة ودفعها مصلحة"..

وقد قال الإمام الشاطبي إن المقاصد "ضرورية وحاجية وتحسينية، وهي التي تقوم عليها حياة الناس ووجودهم في الدنيا، بحيث لو فقدت لعمت الفوضى وتعرض وجودهم للخطر".. ذلك واقع الدين في حياة الناس، فكيف يمكن فصل هذه المفاهيم عن سياقات الحياة وبواعث النهضة والتغيير؟.. إن غاية مقاصد الشرع تحقيق مصالح العباد في الدنيا والآخرة..

(2)
سعى ماكس فيبر "Max Weber" (١٨٦٤-١٩٢٠م) لتفكيك السلطة الدينية عن حركة الدولة والمجتمع، وتوسعت أفكاره حين نازع الساسة السلطة عن الكنيسة في أوروبا، وكان ذلك بداية للتحرر والانعتاق وما يسمى بالنهضة الأوروبية..

ومع استصحاب واقع حال أوروبا وسطوة "الكنيسة" في تلك الحقبة الزمنية، فإن فيبر نفسه قال في كتابه "الرأسمالية والأخلاق البروتستانتية": لو طبقت البروتستانتية لوصلت لأعلى درجات الرشد". وخلاصة الأمر أن الخلل في تطبيق المثل والقيم وليس في ذات القيم الدينية..

واليوم، هناك من يجادل بذات المنطق، مع اختلاف الأديان والشعوب وحركة المجتمع وتطور القيم الإنسانية..

لقد شهد العالم في العقدين الماضيين توسعا في أنشطة المجموعات ذات النزعة الشعبوية والداعية لنبذ كل القيم الأخلاقية والنزعة الإنسانية، وهذه توجهات توافق هوى قوى سياسية في عالمنا الثالث، تسعى لنزع الناس من ضوابط الدين ومنظومة القيم إلى حالة من "الانفكاك"، وحين تنزاح النوازع يسهل القياد.. وذلك مربط الفرس..

(3)
ليس في شأن الحكم فحسب، وإنما في المنهج التعليمي (كتاب التاريخ والنهضة الأوروبية) وتجارب الاقتصاد (وصفة البنك الدولي)، والبناء الاجتماعي (الموافقة على اتفاقيات سيداو وتغيير قانون الأحوال الشخصية)، وكل هذه الممارسات والتصرفات تحدث من عقل مركزي وذهن بأجندة محددة.

وفي خطابه بعد توقيع اتفاق إعلان المبادئ في جوبا، قال رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان: "إن التغيير الحقيقي بدأ اليوم"، فما هو مقصده من التغيير الحقيقي؟ إن كان ذلك يعني السلام، فإن الأمر في طور النقاش، وإن حدث سيكون إضافة للواقع السياسي. وسبق أن تم اتفاق أكثر شمولية في نيفاشا ٢٠٠٥م، فما هو المقصود بعبارته تلك؟!

وربما نجد الإجابة في مشهدين آخرين؛ أحدهما تقرير الأمين للأمم المتحدة بتاريخ أول آذار/ مارس ٢٠٢١م، وهو يشير لتوقيع ١١ مجموعة على تحالف عريض مع عبد العزيز الحلو. كانت تلك إشارة لتضخيم الحدث وما وراء الحدث، وهو "العلمانية" وإبعاد الدين عن الحياة، وهذه أحمال وأجندة قوى سياسية ذات أهداف داخلية وخارجية.

والمشهد الآخر أكثر من لقطة للدكتور نصر الدين عبد الباري، وزير العدل، مع خبراء أجانب والترويكا ومجموعات عمل وأوراق ونقاشات، مما يشير لدور فريق من "الوسطاء" في تحرير المواقف..

(4)
إن هذه القرارات والتوجهات؛ فوق أنها تتجاوز الثوابت والممسكات الوطنية، فإنها جزء من منظور أكبر ومشروع أوسع يهدف لاختطاف الوطن بكلياته..

لقد منح إعلان المبادئ حركة الحلو علمانية الدولة وفيدرالية الحكم وإبقاء قواتها إلى حين إدراج ذلك في الدستور.. فماذا تبقى لأجندة التفاوض؟..

إن مهام الفترة الانتقالية ذات طبيعة مؤقتة، لا تحزم أمراً نيابة عن أمة وشعب، ولا خيارا بعيداً عن صندوق الاستفتاء الشعبي، فكيف أجاز البرهان لنفسه خيار فرض إرادة مسبقة على وطن وشعب؟.. وهل هناك توجه لتغييب الرأي الشعبي أطول فترة ممكنة؟.. هل هناك أثمان للبقاء فترة أطول في السلطة؟

إن كثيراً من الشواهد تشير لذلك، وربما ذلك تفسير انقلاب موقف المكون العسكري من رفض اتفاق حمدوك والحلو في أديس أبابا والتوقيع عليه في جوبا..

إن مصالح الأمم والشعوب ترتبط بقدر المثل العليا، وليس الكسب قصير الأمد وقليل الثمن..
التعليقات (0)