كتاب عربي 21

الأقلية المسلمة لا تقف وحدها في مواجهة ترامب

1300x600
كما أن انتخاب دونالد ترامب في الولايات المتحدة الأمريكية، ومن قبله خروج بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي في إطار ما يعرف بالبركسيت، يعد تعبيرا مكثفا عن موجة أوروبية أمريكية آخذة في التصاعد باتجاه تيارات اليمين والانعزال القومي، فإن حفل تنصيب الرئيس الأمريكي وما رافقه من حركة احتجاجية واسعة النطاق ضمت سبع عواصم عالمية، تؤشر على تشكل تيار عالمي يدافع عن الحقوق المدنية ومصالح الأقليات العرقية والدينية، ويقف في وجه التوجهات العنصرية المتصاعدة مع تفشي موجة اليمين المتطرف.  
 
الواضح أن سياسة ترامب اليمينية تستهدف بدرجة أولى الحلقات الضعيفة في المجتمع الأمريكي، وفِي مقدمة ذلك الأقليات المسلمة المحاصرة بكم هائل من القيود والتضييق والأحكام المسبقة، خاصة مع تنامي موجة الإرهاب والعنف باسم الإسلام.

بدأ ترامب في أول إجراء له حال تنصيبه بإلغاء نظام التغطية الصحية الذي وضعه الرئيس الأمريكي السابق أوباما، بما يعني حرمان الطبقات الفقيرة في المجتمع، خصوصا من السود والملونين، من التغطية الصحية، وتركهم عرضة للمرض والهلاك. 

ثم أردف ذلك بوضع قيود على قبول المهاجرين واللاجئين من الشرق الأوسط، في ترجمة عملية وأولية لحملته الانتخابية التي وعد فيها بمنع المسلمين من دخول أمريكا.

المتوقع على المستوى الداخلي إذن، أن تعمل الإدارة الجديدة على سحق الشرائح الضعيفة، وخنق الأقلية المسلمة، وإطلاق العنان لمناخات التعصب والكراهية ضدها. 

أما على المستوى الخارجي، وبما أن التوازنات الدولية لن تسمح لترامب بإطلاق يده لتنفيذ وعوده وتهديداته للقوى الدولية الكبرى، سواء في العلاقة بالصين أو روسيا أو حتى إيران، ستتجه سهامه بدرجة أولى إلى الدعم المطلق واللامشروط لإسرائيل، سواء بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس أو بتوفير الغطاء الكامل لتمدد الاستيطان، ومزيد ابتلاع الأراضي الفلسطينية، أو بابتزاز دول الخليج بذريعة حمايتها والدفاع عنها.

لكن الحقيقة هي أن ترامب الذي يبدو اليوم كالثور الهائج الذي يدمر كل ما يعترض طريقة، يلقي التهديدات يمنة ويسرة ضد الصحفيين والمكسيكيين والمسلمين والمهاجرين واللاجئين والملونين، ليس طليق اليدين كما يتوهم.

بعيدا عن لغة الصلف والعنجهية، يبدو الواقع أكثر تعقيدا، لا يتيح للبلدوزر الأمريكي السبعيني فعل كل ما يشاء، سواءا في الداخل او الخارج.

البارحة هددت مندوبته الجديدة في الأمم المتحدة بأنها تسجل أسماء كل الدول التي لن تدعم قرارات دولتها، في نبرة تهديد وقحة لم تخف على أحد.

لكن الحقيقة هي أن الولايات المتحدة الأمريكية ليست في الوضع الذي يسمح لها بإعادة تشكيل الساحة الدولية على النحو الذي تريد، وليس بمقدورها استعادة المغامرات العسكرية للمحافظين الجدد في حقبة بوش الابن إن هي شاءت.

جرت مياه كثيرة في نهر التوازنات الدولية في العقدين المنصرمين، وأضحت أمريكا لاعبا من بين لاعبين آخرين، في ظل نظام عالمي يتسم بالتعددية والتركيب والمنافسة المتنامية.

ثم إن ترامب وبحكم نزواته اليمينية المتطرفة، وأسلوبه الاستفزازي الفج، سيكون عاجزا عن بناء إجماع حول سياسته الداخلية والخارجية.

كل المؤشرات تؤكد أنه سيدفع بوعي منه ومن دون وعي باتجاه تعميق الاستقطاب والتناقضات الداخلية، أي أنه سيزيد في إضعاف الجبهة المحلية، ومن ثم زعزعة وضع الولايات المتحدة الأمريكية، التي تواجه من أصلها منافسة حادة على الصعيد الدولي.  

لقد تبين أن ترامب ومنذ اليوم الأول لدخوله البيت الأبيض، محاط بجبهة معارضة أمريكية وعالمية عريضة تتصدرها الحركة النسوية، والتيار الحقوقي التحرري، والمكونات العرقية المختلفة، وقوى يسارية وليبرالية متنوعة، تخشى المس بالطابع التعددي والمنفتح للولايات المتحدة الأمريكية، التي لم تقم على هوية أحادية وحصرية، بقدر ما تأسست على صناعة مخيال جمعي مشترك تحت عنوان "الحلم الأمريكي"، الذي اجتذب إليه هويات دينية وأثنية شتى تنشد الرفاه والحرية.

لن تجد الأقلية المسلمة في أمريكا نفسها معزولة في مواجهة أجواء العداء والكراهية المقيتة التي فجرها ترامب. 

الواضح اليوم هو أن التناقض الذي يشق المجتمع الأمريكي والساحة الأوروبية يعكس بدوره تضاربا كبيرا بين خطين متناقضين من الميراث الفكري والسياسي، ما فتئا يتصارعان على الوعي والوجدان الغربيين لقرون متتالية.

نهج ترامب والجماعات اليمينية التي باتت تتصدر المشهد السياسي في العديد من البلاد الأوروبية يستمد جذوره من النزعات القومية المنغلقة على نفسها المهووسة برفعة الرجل الأبيض، التي عبرت عن نفسها في موجات مختلفة من الحملات التوسعية في القرن التاسع عشر تحت عنوان "حمل الحضارة وتصدير المدنية للشعوب المتخلفة"، أو في القومية النازية القائمة على تفوق الجنس الآري، أو الفاشية المحكومة بنزعة قومية عدوانية حادة. 

ليست القرارات التي اتخذها ترامب منذ أيام حكمه الأولى، من قبيل بناء الجدار العازل عن المكسيك، ثم منع التأشيرة عن 7 دول ذات أغلبية مسلمة (أو قبول عودة المسافرين التي تنحدر أصولهم من تلك البلدان حتى إن كانوا حاصلين على الإقامة أو الغرين كارد)، وإصدار تقرير مفصل أسبوعي من قبل إدارة الأمن الوطني يعدد الجرائم التي يقترفها المهاجرون دون غيرهم، في تذكير بممارسات ألمانيا النازية، وإجبار المسلمين على التسجيل في سجل خاص بهم كي يسهل تتبعهم، والمرسوم الذي يسمح بالتحقيق مع المتهمين بالإرهاب في مواقع سرية خارج الولايات المتحدة يمارس فيها التعذيب، إلا تعبيرات صارخة عن هذا الاتجاه التعصبي داخل الثقافة الغربية الآخذ في التنامي في أوروبا، وما وراء البحار.  

بيد أن هناك خطا مواز لهذا التوجه العنصري العنجهي الإقصائي، يستمد جذوره من الميراث التنويري القائم على قيم المساواة والتعدد والتسامح والعيش المشترك، في إطار ما أسماه الفيلسوف كارل بوبر بالمجتمع المفتوح. 

طبعا هذان النهجان لم يفترقا بصورة قاطعة، فأصابت بعض لوثات الأول أبعادا من الثاني، فغدت مزيجا من التوجهات التحررية الإنسانية يختلط بنزعة استعلائية ثقافية جلية، على النحو الذي نراه مجسدا في اللايكية الفرنسية فيما يخص علاقتها بالآخر المسلم مثلا.

فرضت النزعة التنويرية في شكلها الليبرالي واليساري الاجتماعي نفسها، خصوصا بعد هزيمة النازية والفاشية في الحرب العالمية الثانية، وكان لها دور هام في تلطيف وضبط التوجهات القومية المركزية والتوسعية.

تم ذلك عبر تشكل شبكة من القوى السياسية والاجتماعية الفاعلة وطوق من مؤسسات المجتمع المدني قاما على حماية النموذج الليبرالي واليساري الاجتماعي المعتدلين.

أتاح هذا للأقليات العرقية والدينية والجماعات الاحتجاجية، بما في ذلك تلك التي تخرج عن الخط العام، أن تجد مكانها في مجتمعات غربية تعددية ومنفتحة (إذا استثنينا المرحلة المكارثية في الحرب الباردة) ومثل هذا النموذج الاجتماعي المنفتح والتعددي تحديا حقيقيا للنموذج الشيوعي المنغلق لعقود متعاقبة.

إلا أن ما نشهده اليوم هو استفاقة للنزعات القومية والاستعبادية القائمة على إشاعة التعصب لهوية وهمية صافية مغلقة على الذات، في استبعاد لكل ما تراه مغايرا، وتجذير الأحكام المسبقة إزاء الأقليات العرقية والدينية، خصوصا المسلمة منها.

هذه الموجة تتغذى الْيَوْمَ من الأزمات الاقتصادية وصعود جماعات العنف والإرهاب وتداخل الحدود والقوميات والألوان، بفعل حركة الهجرة وتطور أدوات الاتصال الحديثة. وليس صعود ترامب وانتصار معسكر البريكسيت وتصدر أحزاب اليمين المتعصب للكثير من البلاد الأوروبية إلا التعبير الأكثر كثافة عن تسارع وتيرة هذا الاتجاه الذي يحمل شعار "أمريكا أولا" أو "بريطانيا أولا" أو "فرنسا أولا". 

نحن أمام مفارقة عجيبة تطبع عصرنا الراهن: بقدر ما يزداد اتساعا وتنوعا وترابطا بين الأمم والثقافات والأعراق مع تسارع وتيرة العولمة، بقدر ما يغدو أكثر ضيقا وتعصبا وانغلاقا مع تنامي التوجهات اليمينية المتطرفة.

هذه التيارات اليمينية المتطرفة غدت حقيقة تغزو المشهد السياسي على صعيد الخطاب والشعارات والممارسة السياسية. إلا أن التيارات التحررية الضاربة بجذورها في الميراث الأنواري الكانطي (نسبة للفيلسوف الألماني كانط) والفكر الحداثي القائم على تجذير الوعي بالمساواة وقيم الحرية والتسامح هي أيضا تعيش اليوم حالة استنفار وإعادة تنظم في مواجهة الخطر اليميني الداهم، ولن يكون من السهل تجاهل أصواتها المتصاعدة أو تجاوزها.

الْيَوْم وفي إطار التنوع والتعدد الذي يطبع عصرنا تتجه هذه التيارات، لأن تكون أكثر انفتاحا وأقل تمركزا حول مفاهيم الكونية والشمولية والكليانية.

الأرجح إذن، أن يساهم صعود ترامب وأحزاب اليمين المتعصب في تشكل حلف تحرري واسع يتمركز حول الحقوق المدنية، تكون الأقلية الإسلامية في قلبه ومكونا فاعلا فيه.

وليس صعود بعض الوجوه النسائية المسلمة مثل الفلسطينية ليندا صرصور في إطار هذه الحركة وتحول صورة المرأة المتحجبة التي حملها مئات آلاف المحتجين الأمريكيين وهم يجوبون شوارع واشنطن إلى رمز التحدي لترامب وسياساته العدوانية العنصرية إلا مؤشرات بينة على تبلور هذا التيار المستقبلي.  

هذا يفرض بالضرورة على المسلمين وهيآتهم الفاعلة وشخصياتهم المؤثرة الخروج من قوقعتهم الضيقة وانغلاقهم الذاتي إلى فضاءات أرحب وتجذير روح التعاون والانفتاح والتنسيق مع الآخرين، في إطار تحالف موضوعي عريض يضم كل القوى والروافد التحررية التي تدافع عن مجتمعات متعددة ومتسامحة، بعيدا عن نزوعات الاستعلاء والتعصب والعنصرية المقيتة.