مقالات مختارة

تحرير العملة.. وحبس السياسة!

1300x600
المتأمل جيدا للقرار الذى اتخذه البنك المركزى الخميس الماضي، والقاضي بتعويم الجنيه وتحرير سعر صرفه أمام العملات الرئيسية، إضافة إلى رفع سعر بيع الوقود، مثلما تم مع العديد من السلع والخدمات الأخرى خلال الفترة الماضية، يدرك على الفور أننا أصبحنا نعيش في «جمهورية جديدة»، غير التيكانت قائمة منذ 64 عاما.

فالجمهورية القديمة التي تأسست في عام 1952، اعتمد القائمون على أمرها، «معادلة غير مكتوبة» في التعامل مع الشعب جوهرها هو «لنا السياسة.. ولكم الدعم»، التي تعني بوضوح أن المواطنين في هذا البلد لا يحق لهم المشاركة في صناعة القرار السياسي، أو المطالبة بتداول السلطة وترسيخ قيم الديمقراطية والحرية، طالما أن الدولة تتكفل برعايتهم صحيا وتعليميا وتوفر لهم ولأبنائهم الوظائف الحكومية.

أما الجمهورية الجديدة التي أصبحنا نعيش في كنفها الآن، فرأت أنها لن تستطيع الاستمرار في هذه تحقيق المعادلة، وأنه آن الأوان للتحرر من جميع التزاماتها تجاه الشعب، الذي ينبغى عليه التعود على «الفطام» بعد أن بلغ سن الرشد، ويعي أن «الدولة ليست بابا وماما»، وأن يدفع ليحصل في المقابل على الخدمات التي يريدها.

التمهيد لهذا الأمر، بدأ منذ أن كان الرئيس عبدالفتاح السيسى مرشحا في انتخابات الرئاسة عام 2014، حيث قال بوضوح للإعلاميين إبراهيم عيسى ولميس الحديدي: «أنا مش قادر أديك»، في إشارة منه إلى أن الدولة لن تستطيع الاستمرار في تقديم الدعم أو تلبية طلبات المواطنين المتزايدة، وعندما لمحت الحديدي إلى إمكانية حدوث غضب شعبي يتمخض عنه قيام البعض بقطع الطريق، رد الرئيس بحزم: « القانون موجود.. إحنا مش هنهزر بجد».

الكثير من خبراء الاقتصاد يعتقدون أن القرارات الأخيرة، سواء المتعلقة بتحرير سعر صرف الجنيه أو رفع أسعار الوقود، سوف تسهم في إزالة مخاوف المستثمرين العرب والأجانب من العودة إلى الاستثمار في مصر، كما أنها ستساعد على تنشيط الأسواق وضرب السوق السوداء للعملة الأمريكية، وتخفيف العبء عن كاهل الموازنة العامة للدولة، ومعالجة الاختلالات الموجودة في جسد الاقتصاد المصري.

ربما يكون هذا الأمر صحيحا، بل قد يكون الحل الوحيد المتاح أمام الحكومة للخروج من هذه الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تعيشها مصر، ودون اعتماد مثل هذه الإجراءات المؤلمة التي تمس حياة المواطنين مسّا مباشرا، فإن القادم لن يكون مبشرا على الإطلاق.

لكن السؤال الأهم؛ إذا كانت «جمهورية 2016» تريد التحرر نهائيا من التزاماتها تجاه المواطنين التي رسختها «جمهورية يوليو 52» في معادلة «لنا السياسة.. ولكم الدعم»، فلماذا لا يمد الخط على استقامته، ويتم تحرير السياسة من قبضة السلطة، ويسمح للشعب بالمشاركة الحقيقية في اتخاذ وصناعة القرار السياسي، وألا يظل متابعا لما يحدث في بلاده من مقاعد المتفرجين، خصوصا أنه الوحيد الذي يدفع الثمن في النهاية؟.

يجب أن تدرك «جمهورية 2106»، أن هناك أثمانا ينبغى عليها أن تدفعها أيضا مقابل تحررها من التزاماتها تجاه المواطنين، أهمها أن ترفع القيود التي تفرضها على المجال العام، وألا تنفرد باتخاذ القرارات المصيرية المتعلقة بحياة شعبها، وأن تطلق الحريات ولا تقمعها، وتسمح بتعدد الآراء المعارضة لها وتستوعبها ولا تتهمها بالخيانة، وأن تتخلص من محاولاتها استعادة دولة «الصوت الواحد» التي انتهت تقريبا في كل بقاع العالم.

عندما يحدث هذا على الأرض، يمكن للشعب وقتها تفهم الإجراءات الاقتصادية المؤلمة التي تم اتخاذها، ويصبر حتى تنتهي هذه المرحلة العصيبة، لكن دون ذلك، فإن الرهانات على بقاء مكنون الغضب حبيسا في الصدور ستكون «صعبة وخطرة»، لأن الشعب وقتها سيكتشف أن الحكومة لم تقرر«تعويم» الجنيه فقط، بل رميه في البحر، وهو لا يجيد السباحة.

الشروق المصرية