كتب

قضايا إسلامية من منظور سيكولوجي

قضايا إسلامية من منظور سيكولوجي كتاب
لا يفتأ الباحثون على اختلاف تخصصاتهم واهتماماتهم، يقفون على أبعاد مستترة في تعاليم الدين الإسلامي وتشريعاته وأحكامه، التي يقاربها كل باحث من زاوية اختصاصه واهتمامه، فقد تجد خبيرا اقتصاديا يجلي أبعادا اقتصادية في أحكام الشريعة لا تظهر بادي الرأي لأرباب القراءة الظاهرية العجولة.

ولأن الدين بطبيعته وضع إلهي يخاطب كافة البشر على اختلاف مستوياتهم العلمية والفكرية، فإن نصوص كتابه المنزل مفتوحة لقراءات ذات مستويات مختلفة ومتعددة، فيغرف كل صاحب اختصاص منه، ما يشبع نهمته، ويفتح له آفاقا من المعرفة في مجالات بحثه واختصاصه.

في هذا السياق؛ تصدى الباحث الفلسطيني، الدكتور بديع القشاعلة المتخصص في علم النفس، في كتابه "زوايا إسلامية من وجهة نظر سيكولوجية"، لمقاربة تشريعات إسلامية، وقضايا شرعية، من وجهة نظر سيكولوجية، أي اكتشاف الأبعاد والمفاهيم النفسية الثاوية في تلك التشريعات والقضايا، وفقا لنظريات علم النفس الحديثة المتداولة في ذلك الحقل.

وقد أوضح المؤلف في مقدمة كتابه أن "الفكرة الأساسية في هذا الكتاب تتبلور في مقارنة ما جاء في القرآن الكريم، والسنة النبوية من شرح ظواهر سلوكية، مع ما جاءت به نظريات علم السيكولوجية الحديثة"، لافتا إلى أن الدين الإسلامي "لا يمنع سلوكا إلا وكان وراءه عاقبة وخيمة، وما حث على سلوك إلا وكانت نتائجه إيجابية".

ووفقا للمؤلف فإن "الشخصية الإسلامية شخصية إيجابية سوية بعيدة عن الانحرافات، وذلك بتمسكها بشعائر الإسلام وقوانينه.. ومن يتبع تعاليم الإسلام يتجنب الاضطرابات والانحرافات، ويشرح الله صدره للخير ويُنزل عليه الطمأنينة".

وقد خصص الباحث فصولا لبحث قضايا وموضوعات هامة، جاءت على النحو الآتي: "الذات في الإسلام من منظور سيكولوجي"، "سيكولوجية الأطفال في الإسلام"، "شخصية المسلم"، "السلوك السوي في الإسلام"، "المنهج الإسلامي في علاج الاكتئاب"، و "سيكولوجية الإرشاد النفسي وفقا لنموذج الإرشاد الإسلامي". 

ما هي السيكولوجية وما أهدافها؟

اختار المؤلف من بين التعريفات المتداولة للسيكولوجية التعريف التالي: "الدراسة العلمية لسلوك الكائنات الحية، وخصوصا الإنسان، وذلك بهدف التوصل إلى فهم هذا السلوك وتفسيره، والتنبؤ به والتحكم فيه".

أما أهداف السيكولوجية فذكر المؤلف ثلاثة أهداف، أولها: "فهم السلوك الإنساني وذلك بمحاولة الإجابة عن السؤالين: كيف؟ ولماذا؟". الهدف الثاني: "التنبؤ بالسلوك الإنساني، وذلك بالمحاولة للإجابة عن الأسئلة التالية: "متى؟ وماذا؟". أما الهدف الثالث فهو "ضبط السلوك الإنساني، وهذا يعني محاولة التحكم في المثيرات والاستجابات".

من الموضوعات المحورية في علم النفس "الصحة النفسية"، والتي تعنى بمفهومها العام، بحسب الكتاب، الحياة النفسية السليمة، ويمكن تعريفها "بأنها قدرة الإنسان على الشعور بالسعادة وإيمانه بقيمه المختلفة في الحياة، وتكوين علاقات صادقة مع الآخرين، وكذلك قدرته على العودة إلى حالته الطبيعية بعد التعرض لأي صدمة أو ضغط نفسي".

واعتبر المؤلف أن "الصحة النفسية جزء مكمل للصحة العامة" لافتا إلى أن "عالمنا الحالي مليء بالضغوط النفسية والاجتماعية والانفعالات المستمرة، التي تؤثر على صحة الإنسان الجسدية أو النفسية، كما أن الحياة اليومية وما فيها من تسارع للأحداث تعتبر من العوامل التي تساعد على إحداث تغيرات كبرى في سلوك الفرد". ونقل عن عالم النفس الفرنسي كلود برنارد قوله "الصحة النفسية تكيف مستمر مع ظروف الحياة".   

يقابل الصحة النفسية، الأمراض النفسية والعقلية، والتي "تُسجل انتشارا واسعا في كافة المجتمعات، فقد يُصاب البعض منا ببعض الاضطرابات العاطفية في أوقات مختلفة، وقد يشعر البعض الآخر بالحزن لأسباب متعددة، بينما يحس البعض الثالث بالقلق والتوتر في أوقات أخرى وقد يصبح البعض عصابيا، أو يغضب لموقف ما أو يتصرف بطريقة غريبة تحت ظروف معينة". 

منظور سيكولوجي لجوانب إسلامية

أقام المؤلف القشاعلة بحثه على تناول جملة من الظواهر السلوكية وتحليلها، ومقارنة طرق وآليات معالجتها في الشريعة الإسلامية، ونظريات علم النفس الحديثة، مظهرا في كل قضية بحثها أسبقية الشريعة الإسلامية على تقرير تلك المعاني والاهتمام بها، والتأكيد عليها.

من أوائل القضايا التي بحثها المؤلف "تطور السلوك لدى الأطفال"، وقد استند في عرض نظريات علم النفس بشأن ذلك الموضوع، إلى بحوث ودراسات عالم النفس الشهير (جان بياجيه)، الذي تخصص في الأساس في علم البيولوجي، "الأمر الذي صبغ تفكيره ونظرته إلى النمو النفسي والمعرفي بالصبغة البيولوجية، وقد ربط بين مراحل النمو وبين النضج البيولوجي للطفل". 

وشرح الكتاب ما تطرقت إليه أبحاث بياجيه بشأن "كيفية تعلم الأطفال للأشياء المحيطة بهم، وطرق فهمها، فقد استطاع أن يربط بين إدراك الطفل وتعلمه للمحيط وبين عمره الزمني، ذلك يعني أن الطفل لا يستطيع ـ على سبيل المثال ـ أن يتعلم الكلام قبل أن يصل إلى عامه الأول، وإذا كانت هناك محاولات فإنها لا بد أن تبوء بالفشل".

وذكر المؤلف أن بياجيه قام بالكثير من التجارب الميداينة (الامبيرية)، والتي استطاع من خلالها أن يبرهن على أن الطفل يمر بمراحل فهم وإدراك متفاوتة تنمو وتتطور مع تقدم عمره ونضجه البيولوجي، ما أوصله إلى قناعة مفادها "أن الطفل يتعلم عن العالم المحيط به عن طريق ما يسمى بالإدراك التدريجي التابع للفكر".

ما وجه المقارنة بين ما قرره السيكولوجي الشهير جان بياجيه بشأن تطور السلوك لدى الأطفال، وبين ما جاء من تعاليم إسلامية بهذا الخصوص؟

أجاب المؤلف القشاعلة بقوله: "ولقد توصل بياجيه بعد أن قضى وقتا طويلا من حياته يبحث في جوانب الطفل السلوكية إلى ما أشار إليه محمد صلى الله عليه وسلم قبل أربعة عشر قرنا، حينما ربط لنا إدراك الطفل وفهمه لمحيطه بالعمر الزمني، فالطفل لا يستطيع أن يكتسب الشيء ويتعلمه إلا حينما يصل نموه ونضجه إلى الزمن المطابق لتعلم هذا الشيء". 

أما الحديث النبوي الذي قصده المؤلف فهو قوله عليه الصلاة والسلام: "مُروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، وفرقوا بينهم في المضاجع" (رواه أبو داود والترمذي والحاكم وغيرهم). 

وطبقا للمؤلف القشاعلة فإن هذا الحديث يعتبر "نظرية شاملة في حد ذاته، إذ يحدد الرسول عليه الصلاة والسلام فترات زمنية للتعامل مع الطفل، ويربط لنا العمر الزمني الذي هو بعينه النمو البيولوجي مع النمو المعرفي، فقوله (مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع) تحديد للزمن وللوقت المناسب الذي يستطيع فيه الطفل تلقي الأوامر وفهم الأمور وإدراكها".

وحتى يُظهر المؤلف أهمية مضمون الحديث بالمقارنة مع نظريات علم النفس الحديثة، أطال النفس في الحديث عن مراحل النمو النفسي والسلوكي لدى الأطفال في الطفولة المبكرة، أي في مرحلة الرضاعة والمهد حتى جيل سبع سنوات، وهي دون شك مرحلة هامة من مراحل النمو البشري.. وسائر المراحل اللاحقة. 

وخلص المؤلف إلى أن الرسول عليه الصلاة والسلام "لم يشر إلى المرحلة الزمنية عبثا، بل كان متيقنا أشد اليقين بأن للنضج العمري والبيولوجي أهمية كبرى في فهم الأمور وتعلمها"، و"من هنا نرى تطابقا عجيبا بين أبحاث السيكولوجية الحديثة في هذا المجال وبين "النظرية المحمدية" (على حد تعبير المؤلف)، فالأبحاث والتجارب التي وصلت إلى نتيجة ميدانية (أمبيرية) كون الطفل يمر بمراحل زمنية مختلفة ينمي فيها العقل والمعرفة والاستعداد للتعلم..". 

وتابع المؤلف: "ويخرج الطفل من صيغة التفكير المتمركز حول الذات (Egocentrism) في سن السابعة، والتي فيها يمكنه تقبل وجهة نظر الغير، استطاع محمد صلى الله عليه وسلم أن يشير إليها قبل أربعة عشر قرنا ونيف، إذ حدد العمر الزمني بالدقة المتناهية في خروج الطفل من تمركزه في تفكيره إلى فهم قصد الآخرين، لذا يمكنه فهم ما تعني الصلاة، ويمكنه استيعابها".

النمو الجنسي بين السيكولوجية والتعاليم الإسلامية

توقف المؤلف أمام التوجيه النبوي الوارد في الحديث السابق "وفرقوا بينهم في المضاجع"، ليقول: "هنا يدخل عليه الصلاة والسلام في الحياة العقلية والمعرفية والجنسية للطفل فيأمر بتفريق الذكر عن الأنثى في هذا الجيل، ولكي نتعمق في فهم حديث رسول الله، علينا التعرف على سيكولوجية النمو الجنسي في هذه المرحلة".

ووفقا للكتاب، فإن "تطور النمو الجنسي في هذه الفترة من العمر والتي يطلق عليها اسم مرحلة ما قبل البلوغ الجنسي (9 ـ 12 سنة)، وتعد تحولا من حالة الكمون الجنسي إلى حالة النشاط الجنسي، والذي يبدأ مع مرحلة البلوغ، وبما أن هذه المرحلة هي مرحلة انتقالية وتحولية، فعلى الآباء أن يعدو أطفالهم لاستقبال البلوغ وذلك ببعض المعلومات والتوجيهات".

وتابع: "فعندما يصل الأطفال إلى سن العاشرة والحادية عشر نجد أن لديهم حب استطلاع شديد عن النواحي التشريحية الجنسية والفسيولوجية والحمل والولادة والأمراض التناسلية، ومن الملاحظ أن ميلهم إلى الأمور الجنسية في هذه المرحلة يزداد، إذ أن ما يميز هذه الفترة هو الميل إلى الأمور الجنسية والتعرف عليها، والعبث بها، وهذا جعله الله تعالى ليكون تمهيدا لمرحلة البلوغ والتي يمكن أن تحدث فيها عملية الزواج، كما وإن الانتباه في هذه المرحلة يزداد وتزداد دقته..".

شخصية المسلم.. على ماذا يُبنى السلوك؟

عقد المؤلف مقارنة طويلة بين الدوافع المحركة للإنسان في التعاليم الإسلامية ونظريات علم النفس الحديثة، وعرف الدافع بأنه "حالة داخلية، جسمية أو نفسية، تثير السلوك في ظروف معينة، وتواصله حتى ينتهي إلى غاية معينة، وللدافع معان كثيرة في اللغة العربية منها: الحاجة، الحافز، الباعث، الميل، النزعة، الرغبة... والدوافع عبارة عن حالات لا نلاحظها مباشرة بل نستنتجها من الاتجاه العام للسلوك الصادر عنها، ودوافع الإنسان لا عد لها ولا حصر، مثل: الجوع، العطش، الخوف، الغضب.. الحاجة إلى الأمن والحاجة إلى التقدير الاجتماعي..".

وأشار المؤلف إلى أن "علم السيكولوجية يقسم الدوافع إلى قسمين: أولا الدوافع الشعورية، والتي يفطن الفرد إلى وجودها، كرغبتك في السفر إلى بلد معين. ثانيا: الدوافع اللاشعورية حيث لا يفطن الإنسان إلى وجودها كالدافع الذي يحمل الإنسان على نسيان موعد هام".

ونقل عن بعض العلماء قولهم: "إن الدافع عبارة عن قوة محركة موجهة إذ يشير السلوك إلى هدف أو غاية معينة، وتأتي أهمية الدوافع من أنها أساس التعلم واكتساب الخبرة، كما وهي الأساس كذلك في اتصال الفرد بالعالم المحيط به، بل إن شخصية الفرد في جزء منها على الأقل، تقوم على أساس تنظيم الدوافع، وعلى أساس الطريقة التي تعلم الفرد أن يشبع بها دوافعه".  

وبحسب شرح المؤلف فإن موضوع الدوافع من أهم موضوعات علم السيكولوجية.. وقد فسرت الشريعة الإسلامية نظرية الدوافع بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات، ولكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه".

وفي ما يتعلق ببناء الشخصية الإنسانية، أوضح الكتاب أنها "مبنية من دفتين إيجابية وسلبية، ولكي يصل المسلم إلى الشخصية السوية، والصحة النفسية يجب أن ترجح لديه الدفة الإيجابية"، وذكر أن الدفة الإيجابية تتضمن جملة من الصفات التي ينبغي أن يسعى المسلم للتحلي بها كضبط النفس، والاتحاد والتعاون، والاستقلالية، والاعتراف بالخطأ، والاجتهاد، ومراقبة النفس.. والتي حث عليها الإسلام، وحرض المسلم على التخلق بها والقيام بأعبائها. 

أما الدفة السلبية من الشخصية فتتضمن جملة من الصفات المذمومة كالتشاؤم، الكبر، الفساد، الكذب،سوء الظن، الغش، السلبية، الأنانية، الاتكالية.. وقد حذر الإسلام منها، وحث المسلمين على الابتعاد عنها، ومجاهدة أنفسهم للتخلص منها.

وانتهى المؤلف بعد سرده وتحليله للصفات التي طلب الإسلام وجودها في الشخصية المسلمة، وتلك التي نهى عن وجودها، إلى التأكيد على أن "الشريعة الإسلامية حريصة كل الحرص على تكوين الشخصية السوية الصالحة المستقيمة لدى الفرد المسلم، والتي فيها الخير والمنفعة للمجتمع المسلم"، كما أن "الصفات الإيجابية لو اجتمعت لدى الإنسان لاستطاع أن يصل إلى الشخصية السوية البعيدة كل البعد عن الاضطرابات النفسية، إذ عن طريقها يمكنه التوصل إلى المفهوم العالي للذات وإثبات وجوده وتحصيل مكانته في المجتمع، الأمر الذي يمكنه من التكيّف والاستمرار".