قضايا وآراء

فن التحنيط السياسي .. أو كوميديا الانتخابات الفلسطينية

1300x600
لا تبدو مهمة تلك التفاصيل الإجرائية التي أفضت، من الناحية الشكلية، إلى تعثر الانتخابات البلدية في الضفة الغربية وقطاع غزة، فالمهمّ في المسألة أن الانتخابات تعثرت كما لم يكن مستبعدا منذ البدء، ولو تحت عنوان التأجيل، فالنتائج مرتبطة بمقدماتها والمآلات منسجمة مع السياق العام للواقع السياسي الفلسطيني.

تحتاج الشعوب والمجتمعات، بين حين وآخر، إلى وقائع تفتح أبصارها على حقائق تغمرها، وأوضاع تحاصرها، وها هي الانتخابات البلدية بما آلت إليه المحاولة؛ تزيح الستار عن مشهد فلسطيني عالق في مأزقه المزمن؛ وليست صناديق الاقتراع سوى عنوان من عناوينه.

من بوسعه أن يتجاهل وعودا مزمنة بقيام دولة فلسطينية، تم إعلان استقلالها أكثر من مرة، وهذا مع بقاء الاحتلال وهيمنة قواته على الأرض واستشراء الاستيطان وقضم أجزاء من القدس كل صباح وبقاء الأسرى عالقين في السجون وسيطرة الاحتلال على المعابر، والمتوالية معروفة.

هو واقع لم يمنع مد البساط الأحمر الفلسطيني واستعراض حرس الشرف، والتغني بدولة المؤسسات أو بمؤسسات الدولة، وقد تمت المبالغة منذ البدء بمظاهر الاستقلال والسيادة بديلا عن جوهرها. إنها مقايضة ذكية استعملها الاحتلال بحرص، عندما منح من يسميهم "الفلسطينيين" - وليس الشعب الفلسطيني الذي لا يجرؤ المحتلون على التلفظ باسمه ـ بعض الرموز، واحتفظ هو بالحقائق؛ منحهم حرية رفع العلم ومدّ البساط الأحمر وإطلاق ألقاب فخمة تروي ظمأ العطشى إلى "دولة مستقلة"، لكنه احتفظ بكل ما يستطيع الإمساك به من الحقائق على الأرض؛ في الأمن والسياسة والاقتصاد وتوزيع السكان والبنى التحتية والموارد المائية وغير ذلك كثير، ثم مضى في فرض ما يحلو له أمراً واقعاً يوماً بعد آخر.

منذ أن انطلقت هذه المتاهة الفلسطينية قبل ربع قرن تقريباً حتى جرى تعظيم انطباعات مؤسسية شكلية، لكنّ الواقع القائم اليوم تكفي في وصفه مشاهد ماثلة للعيان. فرئيس السلطة، مثلاً، ما زال في موقعه منذ اثنتي عشرة سنة، بعد انتخابات رئاسية لم تتكرّر منذ ذلك الحين، ولم يكن هذا مستبعداً أيضاً منذ البدء. أما انتخابات البرلمان فتمّت قبل عقد كامل من الزمن، والأهم أنّ المجلس التشريعي لم يجتمع بصفة شاملة منذ انتخابه إلا نادراً، وقد جرى ذلك لإجراء مراسم شكلية أساساً، وحتى هذا كان موضوعاً لتنازع صلاحيات في البيت السياسي. ولهذا البرلمان خصوصية قد لا يشاطره غيرها في عالمنا، فهو لا يجتمع أساساً على صعيد واحد، بل عبر الربط التلفزيوني، لأنّ الاحتلال يمسك بالمعابر الواصلة بين مقره في رام الله ونظيره في غزة، أو ما تسميها ثقافة السلطة الفلسطينية: جناحي الوطن، أي الوطن الذي تم اختزاله في خُمس الجغرافيا الفلسطينية بعد مسيرة نضال مديدة ومستمرة بلا هوادة عزّ نظيرها في التاريخ الحديث.

ليست الانتخابات البلدية أفضل حالاً، فقد تمت آخر مرة عام 2005، وها هي تتعثر بعد إعلان التوجّه إلى إجرائها بعد أحد عشر حولاً كاملاً لمن أراد أن ينعش الذاكرة.

في التفاصيل وفرة من حقائق مذهلة، وهي اعتيادية ضمن السياق السياسي الفلسطيني القائم. فما إن فازت في انتخابات البرلمان آنذاك قائمة لا يرغبها المحتلون الإسرائيليون ولا الرعاة الأمريكيون ولا المانحون الأوروبيون ولا أوساط الإقليم الحاضن لتجربة أوسلو؛ حتى تم فرض حصار خانق على حكومة منتخبة ديمقراطياً وحجب التمويل الخارجي عنها، والغرض هو التجويع والإذلال وإدخال الشعب الفلسطيني في بيت الطاعة.

لم يكن ذلك كافياً، فقد تم على الأرض تجريب فنون الفوضى الخلاقة، ويمكن سؤال الخبير الإقليمي الكبير محمد دحلان عن تفاصيل محاولاته التي تباهى بها في مجالسه. انطلقت حملات تقويض الديمقراطية في اليوم التالي لإعلان نتائج انتخابات البرلمان وقتها مباشرة، إنها الخطة ب، التي استعملتما عُرف عربياً بهجمات "البلطجة"، فاستهدفت نواباً فائزين ومقارهم، وتم تنفيذ اعتداءات مشينة على مقر المجلس التشريعي ذاته مع تلكؤ في تسليم أعماله الإدارية للصاعدين الجدد عبر الصناديق.

مثل ذلك كان قد حصل مع بعض المجالس البلدية في الضفة الغربية، التي لم يوافق لونها السياسي أولويات الرسمية الفلسطينية وداعميها الخارجيين.

لا حاجة لمتابعة التداعيات اللاحقة لذلك بعد أن شغلت السمع والبصر، لكنّ المسار واضح، بأنّ الانتخابات البرلمانية المسموح بها في (بعض) فلسطين، ضمن المعادلة المفروضة بإرادة خارجية منذ خريف المصافحة التاريخية (1993)، هي التي بوسعها أن تمنح شرعية شكلية لبرنامج الإذعان للاحتلال. وهذا ممكن، نظرياً، بعد حملات تجويع وحصار وترهيب وإغداق المال السياسي ومطاردات متضافرة بين أمن يرفع شارة فلسطينية وشركاء التنسيق الأمني على الجانب الآخر. لكنّ ضمان النجاح بعد تطبيق هذا المسار على الأرض ليس متاحاً، كما برهنت عليه محاولة الإقدام على الانتخابات البلدية في سنة 2016.

لا حاجة في هذا المقام لاستدعاء حقائق أخرى، ضمن مشهد سياسي فلسطيني مأزوم، مثل اتفاقات المصالحة بجولاتها المتعاقبة، وقد بات الفلسطينيون يسمّونها بالدارجة "مو صالحة"، وكذلك حكومة "وحدة وطنية" تحوّلت بذاتها إلى عنوان انسداد الوضع الداخلي، ولا من حاجة لاستدعاء حكاية "الإطار القيادي" الذي يجمع قادة الفصائل دون أن يلتئم أساساً رغم كل ما يتعاقب على فلسطين وشعبها وقضيتها من تطوّرات جسيمة.

بالوسع الزعم بإيجاز إنّ هناك في (بعض) فلسطين من أوصد الباب بإحكام، ثم ابتلع المفتاح على مرأى من الجميع، بما يتطلّب الآن عملية جراحية مع حامل المفتاح، أو خلع الباب بالكامل، أو البحث عن وجهة أخرى تدخر الوقت والجهد والخسائر، والبديل عن هذا كله هو مواصلة الكوميديا السياسية والاستمرار في جولات التحنيط المتعاقبة.

على أنّ شيئاً في هذه الكوميديا السياسية لا يعدل قدرة منظمة التحرير على التعبير عن الوضع القائم. فقد تمّت تسجية "الممثل الشرعي والوحيد" منذ زمن بعيد، وجرى تحنيطه بعناية فائقة على طريقة الروس مع جثمان لينين المعروض في موسكو. أما برلمان المنظمة، أي المجلس الوطني، فمن بقي من أعضائه على قيد الحياة كانوا قد شغلوا مواقعهم هذه قبل أن يُبصر معظم أبناء الشعب الفلسطيني وبناته نور الحياة أساساً. من بوسعه أن يتخيّل هذا؟

من العجائب أنّ آخر انعقاد لبرلمان منظمة التحرير جرى قبل عقدين من الزمن، وهذا لغاية وحيدة تقريباً، هي إلغاء ميثاق المنظمة، أو من الناحية الإجرائية إلغاء بنود محددة منه. تمت إهالة التراب على الميثاق الوطني الفلسطيني في مشهد آخر من الكوميديا السياسية، لأنه استحقاق مفصلي في "عملية أوسلو" التي ارتطمت بجدار مسدود، وبالطبع كرمى للرئيس كلينتون وقتها خلال زيارته مناطق السلطة. قد يكون من المسلِّي العودة إلى مشهد التصويت آنذاك بكل ما فيه فكاهة ومأساوية في آن وملاحظة تفاصيله ومفارقاته.

ما زال بعضهم اليوم أوفياء لأحلامهم بانعقاد المجلس مرة أخرى، ولن يكون ذلك قبل الشروع في عهد كلينتون الثانية، بعد انقطاع استغرق حقبة بوش بكاملها ثم عهد أوباما طولاً وعرضاً. لكن؛ لأي هدف تحديداً سيتم الانعقاد وما مبرر الإفاقة المفترضة؟ وماذا لو كان ترامب وليس هيلاري، هو سيد البيت الأبيض وقتها؟ إنها مادة ممتعة للتخمين على أي حال!

يا لها من كوميديا سياسية تلك التي أفضى إليها النظام الرسمي الفلسطيني بما يقوم عليه من "مؤسسات" و"نظم"، وما كان لهذا كله أن يتواصل، أو بتعبير أدقّ أن يستمرّ عالقاً في توقفه؛ لولا أزمة النخبة الفلسطينية سياسة وثقافة وإعلاماً ومجتمعاً مدنياً، وأزمة الفصائل الضالعة في إنتاج هذا المشهد أو تمريره، والتي استحال بعضها هياكل محنّطة لم تبق منها سوى لافتة تعلو "الرفيق المناضل" ومرافقيه.

لا ريب في أنّ حالة التحنيط هذه مفروضة بإحكام، بترتيبات خارجية لا تخطئها العين. فقد تم تصميمها بما يجعل الفكاك منها مكلفاً للغاية وعلى نحو يتطلب تضحيات جسيمة. لقد باتت هذه الحالة لازمة وجودية لاستمرار الاحتلال الذي أعاد إنتاج ذاته من خلال عملية أوسلو، لأن مسلك التحنيط المشفوع بمشهد الكوميديا السياسية يصادر القرار الوطني الفلسطيني، ويحول دون الاستقلال الفعلي أو انتعاش المقاومة الميدانية أو إطلاق المقاومة الشعبية، ويعيق حشر نظام الاحتلال في الزاوية ومحاصرته دولياً، ولا يتفاعل حتى مع ظاهرة المقاطعة ونزع الاستثمارات وفرض العقوبات أو مع حملات كسر الحصار. لا غنى للاحتلال عن حالة الترهل المتفاقمة وواقع العجز القيادي الفلسطيني هذه، التي تتولى تعطيل طاقات الشعب في الداخل والخارج وإيصاد أبواب المؤسسات وابتلاع مفاتيحها. يتمتع الجانب الإسرائيلي بالإصرار الرسمي الفلسطيني على خوض ربع قرن آخر من التيه السياسي والأوهام التفاوضية، بالتلازم مع التباهي بكبح الانتفاضات الفلسطينية والهبات الجماهيرية وإحباط عمليات المقاومة، وتقديس التنسيق الأمني والتخابر المنهجي مع أجهزة الاحتلال، والارتهان لاقتصاد المحتلين، وغير ذلك كثير من مظاهر التدهور في النظام وفي الأداء.

قبل عقد من الزمان سأل بعضهم عن الانتخابات الفلسطينية لمواقع الرئاسة والبلديات والبرلمان، فأجبت: لن يفاجئني أن تكون هذه آخر انتخابات فلسطينية. وليست قضيتنا اليوم إن كانت الرؤيا قد صدقت أم لا؛ بل حقيقة أنّ أي عملية انتخابية ضمن الملابسات القائمة لا تعدو بحد ذاتها أن تكون مواصلة لفعل التحنيط السياسي والنفخ في هياكل بلا روح. إنها طقوس مُجرّبة مع جثمان لينين المسجّى للناظرين في موسكو، حيث نال رئيس الرسمية الفلسطينية شهادته في الدكتوراه عن "النازية والصهيونية".. والتي تنصّل من مقولاتها لاحقاً تحت ضغوط إسرائيلية، ولا مفاجآت في الكوميديا السياسية.