قضايا وآراء

أين أخفق التوافق السياسي التونسي؟

1300x600
لا يختلف اثنان حول الإضافة العميقة التي قدّمها مُصطلح التوافق في التّجربة التونسية التي أعلنت بداية فصل جديد في تاريخ دول المنطقة، ولتصمد دون غيرها من التجارب التي حذت حذوها ولم تفلح لجملة من الأسباب الذاتية والموضوعية في أن تُواصل تحقيق بعض الأهداف التي رفعتها.

سنوات مضت منذ أن احتكم التونسيون للتوافق السياسي كأداة يسّرت عمليّة الانحناء أمام العاصفة التي كادت أن تنسف كل ما تحقّق في المرحلة الإنتقالية الأولى في البلاد، والتي انتهت بالتوافق على دستور الجمهورية الثانية، كما يُسمّى اليوم في تونس، ولتكون لحظة التّصويت بإجماع عليه أولى ثمار هذا النّهج السياسي الذي تبنّته النّخبة السياسية بقيادة الشيخين، راشد الغنوشي والباجي قائد السبسي.

ومنذ تلك اللحظة الفارقة في تاريخ البلاد ومسار الثورة التونسية، تتالت المحطّات السياسية وتتالت الاختبارات، وتشكّلت جملة من المشاهد أصبح من الممكن عبرها أن نقوم بتقييم هذه التّجربة، وأن نقف عند حدود القصور فيها.

يهتمّ هذا المقال بمكامن الإخفاق في تجربة التوافق، باعتبار أن التّغنّي بمحاسن الأخير حظي ويحظى بعازفين مهرة لا يتوانون عن مدحه ومدح أفضال لا ننكرها، ولكنها تظلّ جزء من الحقيقة لا الحقيقة كلها.. وصورة ضمن صور أخرى لا يُمكن الاكتفاء بها لإنتاج رأي وازن، وموقف عقلاني مُتجرّد ومتحرّر من الحسابات الضّيّقة التي لا يستقيم استحضارها متى تعلّقت المآلات بالمصلحة الوطنيّة.

محطّات التوافق السياسي السابقة

متى حاولنا تعداد المحطّات الفاصلة التي حقّق فيها مُصطلح التوافق حضورا بارزا في المشهد السياسي التونسي؛ سنخلص إلى ثلاث محطّات بارزة، الأولى كانت إثر انتخابات سنة 2011 والتي أفرزت فوز حركة النّهضة، والتي احتاجت لتشكيل ائتلاف حكم جمعها بحزبي المؤتمر من أجل الجمهورية والتكتل الدّيمقراطي من أجل العمل والحريات.

والثانية خلال الحوار الوطني الذي رتّب بين سنتي 2013 و2014 مسألة تنازل حركة النّهضة وشركائها عن الحكم لفائدة حكومة الكفاءات، مُقابل التوافق على الدّستور والقانون الانتخابي ثم انتخابات سنة 2014.

والثالثة كانت عقب انتخابات 2014، وما أفرزته من نتائج فرضت على المشهد السياسي التونسي مرّة ثانية المُضي لحكم ائتلافي؛ جمع كلا من نداء تونس الفائز في الانتخابات، وحزب حركة النهضة والحزب الوطني الحر وحزب آفاق تونس.

توافق اللحظة التفاوضيّة

وعند التأمّل في هذه المحطّات جميعها وما تلاها من فعل سياسي - مع استثناء المحطّة الثانية التي أعتبر أنّها أدخلت البلاد في عطلة سياسية تخللتها الحملات الانتخابية للأحزاب - يسهل على المُتابع أن يستنتج أن القاسم المُشترك بينها كان اختزال التوافق كفعل سياسي ظرفي محدود في الزمان والمكان.

فحكومات حمادي الجبالي وعلي العريض التي قادت الفترة الانتقالية الأولى، ورغم أنها كانت سليلة توافق سياسي بين أحزاب الترويكا، لم تُؤسّس لفعل سياسي جمعي حقيقي، وهو ما برز في عديد المحطّات التي طفى فيها على السّطح حجم التباين بين مُكوّنات الائتلاف الحاكم.

ونكتفي هنا بذكر خطاب المرزوقي في مؤتمر حزبه الأوّل الذي تهجّم فيه على شريكه في الحكم، حركة النّهضة، ما أدّى لانسحاب الوفد المُمثل للأخيرة، وحادثة تسليم البغدادي المحمودي، والتي سبّبت أزمة بين رأسي السلطة التنفيذية، بالإضافة إلى مُضي رئيس المجلس التأسيسي وقتها، مصطفى بن جعفر، إلى تعليق العمل في البرلمان استجابة لضغوط جبهة الإنقاذ عقب اغتيال النائب محمد ابراهمي، على عكس إرادة شريكيه في الحكم، النهضة والمؤتمر.

ولم يختلف الأمر في محطّة التوافق الثالثة، حيث لم تخل فترة الحكم المُشترك بين الرباعي الذي قاد الفترة الانتقالية الثانية؛ من النيران الصّديقة فيما بينهم، والشّواهد أكثر من أن تحصى أو تعد، فها هو الحزب الفائز في الانتخابات يستحوذ على نوّاب أحد شركائه في الحكم بشكل يتعارض مع أبسط أبجديّات العمل السياسي المُشترك، ولا ننسى كيل التّهم وتحميل المسؤوليات بين الفينة والأخرى.

إذن نحن أمام أحد مواطن الخلل الرّئيسية في منظومة التوافق السياسي التّونسي، فهو توافق ينتهي بعمليّة الإمضاء على الوثائق ولا يُرافق المُتّفق عليه، ما يجعله أعجز من أن يُؤسّس لمنتوج سياسي قادر على التغيير الذي يحتاج وقتا ونحتا على الحجر، في ظل الأوضاع الصّعبة التي تعيشها البلاد.

توافق "خفيف" خال من المضامين

وعلى صعيد آخر، وإذا ما استثنينا عمليّة الاتفاق على الأسماء والحصص والمنابات، وإذا ما تجاوزنا ما حُبر على الأوراق من أهداف وعناوين رنّانة، وإذا ما غُصنا في عمق المضمون السياسي لمحطّات التّوافق وتساءلنا: "حول ماذا تم التوافق؟".. فلن يكون مآلنا سوى الحيرة.

على أرض الواقع، ظلّ التوافق خال من المضامين الحقيقية التي يُمكن أن تُؤسّس لفعل سياسي مُشترك. فبمُجرّد مُتابعة الأجزاء المُكوّنة للمشهد كل على حدة، نستنتج بيُسر أننا إزاء هموم متعدّدة وجزر متناثرة تغيب فيما بينها المُوجّهات العامّة التي تحوّل الأجزاء إلى كلّ يعمل بتناسق من أجل أهداف مشتركة.

فهل تمّ التوافق على مُحاربة الفساد؟ نعم، على الورق.. ولكن البحث عن أثر ذلك في المُنجز الواقع والمُمارسة السياسية يدلّان على أنه لا نصيب له من الحقيقة.. وكذا الأمر في باقي الملفّات.

إن عجز التوافق عن التحوّل من لحظة سياسية جامعة إلى ورشة سياسيّة مُجمّعة يعود بالأساس إلى غياب تلك الأرضيّة المضمونية المرجعيّة التي تتسطّر في أفقها السياسات وتترجم على ضوئها المُمارسات، وهو ما مثّل ويُمثّل أحد أهم مواطن القصور الوظيفي للتوافق السياسي التّونسي.

توافق أفقي أحادي الأبعاد

وإذا ما بحثنا في مدى تشرّب فكرة التّوافق لدى المُهتمّين بالشّأن العام بداية ولدى عامّة النّاس؛ نجد أنّها لم تتجاوز مُحيط النّخبة السياسية، بل إنّها حتّى داخل النّخبة بأقدار مُتفاوتة وبتبايُنات واضحة أحيانا كثيرة. فجولة بسيطة في مواقع التواصل الاجتماعي كفيلة بأن تكشف أنّ قواعد كلا الحزبين اللذين يرتكز عليهما التوافق السياسي اليوم في تونس؛ لا يتبادلان نفس الودّ الذي عادة ما تبرزه الصّور التي تجمع القيادات، فلا غرابة إذن ألا نجد أثر هذا التوافق عند عامّة النّاس.

لم ينجح قادة التوافق ومُنظّروه في تحويل التّعاقد السياسي الذي جمعهم إلى ثقافة شعبية قادرة على لعب دور المُحرّك لبرامج ومشاريع النّهوض بالبلاد، وهو ما يُفسّر بوضوح عجز التّوافق السياسي عن تحقيق مُنجز تنموي واقتصادي على الأرض.

في المُحصّلة، نحن إزاء تعبيرة سياسية نُخبويّة أفقيّة لم تنجح في إقناع عامّة النّاس، ولم تفلح في شخذ الهمم حول مشروع وطني حقيقي تتكاتف من أجله الجهود. شريحة واسعة من التونسييين مُقتنعون بأن التوافق جنّب البلاد ويلات الاحتراب الأهلي.. صحيح، لكنّهم في الآن ذاته لم يجدوا فيه بعد ذلك المُحفّز الذي يدفعهم للأمل والحلم بواقع أفضل. ونسبة عدم ثقة التونسيين في الأحزاب السياسية التي تجاوزت الستين في المئة وفق آخر نتائج سبر الآراء؛ دليل على ذلك.

وبعد عدم تجديد الثقة في حكومة الحبيب الصّيد، وتكليف يوسف الشّاهد لتشكيل حكومة جديدة، تتّجه البلاد نحو محطّة رابعة سيُسجّل فيها التّوافق حضوره.. توافق ضروري لإنجاح العمليّة السياسية التي أطلقها الرّئيس التّونسي، الباجي قائد السبسي، مع بداية حزيران/ يونيو الماضي، لكنّه لن يكون مُجديا في حدوده الدّنيا التي سبق وأن تمّ الكتفاء بها ولن يُؤدّي المطلوب منه إذا لم يتم تلافي مكامن النّقص التي تم التطرّق إليها أعلاه.