كتاب عربي 21

سقط وما سكت

1300x600
تداول الناس في إعلامهم الاجتماعي الأسبوع الماضي مقطع فيديو طريف لمحلل استراتيجي في أحد البرامج السياسية المباشرة على تلفزيون "المنار" يقوم عن مقعده ليشرح على شاشة عملاقة رؤيته لمجريات التطورات العسكرية في سوريا فيسقط أرضاً أثناء محاولته العودة إلى كرسيّه الذي كرجت به عجلاته على أرضية الاستوديو القابلة للإنزلاق. الطريف في الفيديو ليس الوقوع بل متابعة الضيف تحليلاته وهو على الأرض بحيث أنه سقط وما سكت.

ليس ضيف "المنار" وحده الذي يسقط ولا يسكت، فالذاكرة السياسية العربية المعاصرة منذ نشوء قوميتها الناصرية وصولاً إلى ثورات الربيع العربي الفاشلة زاخرة بخطابات الانتصار في ساحات الانكسار، ولأن العرب تثيرُهم لعبة المفردات والشعارات فإن رهطاً منهم لم يؤمن حتى الآن بأن الخطاب العاطفي الحماسي لزعماء قومية النكبة والنكسة وانفراط الوحدة وتَشَكُّل اليمنَين والبعثَين ليس إلا مواد استهلاكية ملأت راديوهات الصوت الواحد كفواصل سياسية لروائع "السِّت" الغنائية. ولطالما شكلت خيبات الأمل في مواجهة الاحتلالات الخارجية والاختلالات الداخلية مصادر طاقة وتحديات حقيقية لشعراء عتبات القصور من أجل تحويل المأتم إلى عرس يلعب فيه "القائد الملهم" دور العريس والعروس والمأذون والشهود.

ليس بمنطق أفضل تعاطي رواد صحوة التغيير اليساري، فهم أيضاً تحولوا إلى مُروّجي مسكنات لجمهورهم بإدمانهم جرعات تفاؤل أكثر ثورية تقوم على فلسفة انتصارات انتظارية للمد الشيوعي القادم من الشرق، فإذا بالريح تأتي من الغرب وتطيح بمملكة العسل فيما نَحلُها يكمل ما تبقى من عمره بإثبات أنه نحلٌ فعلاً وإن تشابه مع الذُّباب.

عند تياراتٍ إسلامية تأخذ شوفينيةُ الانتصارات الوهمية منحىً أكثر شيزوفرانيةً، حيث تنشط نخبُها على اختراع الانتصارات وتثبيتها بنصوص دينية ما يجعلك تفرك عينيك علَّ الحرائق المشتعلة في المدن وميادينها أسهم نارية في احتفالات النصر العظيم وقد شُبِّه لك بأنها سقوط حواضر عربية لصالح المستقبل المظلم الذي لا يعترف به أحد. 

أما عند خطّ الممانعة فالرؤية كالرؤيا في المنام تتشابه مع ما كان يُقال للصغار بأنّ كل ما يرونه في أحلامهم سيكون عكسه، فالموت يعني الحياة والسقوط مرادف للنجاح. يتميز محللو التيارات الإيرانية على اختلاف مشاربهم ولغاتهم ببعد النظر والكشف عن البصيرة، فسقوط سوريا ونظامها وشعبها وجيشها ليس شيئاً مقابل صمود الأسد في "كاخ رياست جمهوري" أي قصر رئاسة الجمهورية، ووقوع العراق في قبضة قُطّاع الطرق والأواصر تصحيح لمسار التاريخ، وإذعان طهران النووي هو دخول العالَم بيتَ الطاعة الإيراني.

كلا... ليس مِنّا رجلٌ رشيد، إن سأَلَ أحد. وشعب كهذا يليق به حكام كهؤلاء ومشايخ كهؤلاء وثورات كهذه وبلاء كهذا، لكن لتستمر الحياة لا بد من إعلام كهذا ليحوِّل هزائمنا إلى انتصارات، إعلام يسقط ولا يسكت.