كتاب عربي 21

زلزال الاستفتاء البريطاني: هموم مواطن عربي!

1300x600
يتكدّس في ذاكرتنا ووعينا ولا وعينا تجاه بريطانيا مخزون هائل من العواطف والمشاعر المتناقضة والأفكار والآلام والذكريات؛ ففي كلّ قضايانا الكبرى هي حاضرة وبقوّة، بل كانت هي الحاضرة، فوعد بلفور والتقسيم وسايكس بيكو وسقوط الدولة العثمانية والثورة العربية الكبرى وإذاعة لندن.. وغيرها الكثير من الأحداث التي شكّلت حاضرنا وماضينا القريب، وما زالت آثارها واضحة في رسم مستقبلنا.
 
لذلك، فإننا نجد أنفسنا مهتمين تلقائيا بالحدث البريطاني؛ فكيف إذا كان هذا الحدث بحجم الانفصال عن الاتحاد الأوروبي، الذي بلا شك سيكون له تأثيرات كبيرة على منطقتنا؟
 
عموما، ليس هذا محور الحديث في هذه المساحة المتاحة؛ وإنما هي بعض إشارات ولفتات على هامش الاستفتاء ونتائجه:

اللجوء لاستفتاء الشعوب على الأمور الكبرى التي تخصهم وتخص بلدهم من علامات تمدن وتطور الأمم والدول، فالاستفتاء فكرة إنسانية وصلت لها البشرية بعد تراكم معرفي وهي إنجاز وملْك لكلّ البشرية، واحترام إرادة الشعب ليس ترفا أو خيارا تقرّره "نخبة" "مكْرمة" منها أيا كان موقعها، بل هو حق أصيل يجب أن تأخذه وتناضل لأجله، لأن أي "نخبة" ما وصلت إلى ما وصلت إليه إلا باستثمار (أو استغلال!) إمكانات وموارد الشعب بإرادته (أو رغما عنه!).

عندما يُلجأ لاستفتاء الشعب، فالمقصود يكون الشعب كل الشعب، كل المواطنين، بلا استثناء ولا تمييز، على أيّ أساس كان (عرقي، ديني، طائفي، لون، أصول، جنس، عُمْر..)، كما أنه لا يجري أي تمييز بين طبقة على أخرى؛ فصوت أي مواطن عامل في مصنع أو مطعم أو حرّاث أو عامل نظافة هو ذاته صوت أي مسؤول أو متنفّذ أو سياسي أو قائد أو مؤسس! 

تُحترم نتيجة الاستفتاء من الجميع (أكرر الجميع) أيا كانت، وحتى لو كانت 50.1 في المئة (في بريطانيا 52 في المئة)، ولا تخرج أصوات (تتفلسف!) فتقول الأغلبية غير مريحة! أو أنّها دكتاتورية الأقلية، وبالتأكيد لا يبدأ الطرف الخاسر بخوض معارك تدميريّة ودموية وصفرية، ليفرض رأيه بحجة "مصلحة" البلد! فلا يملك أحد كائنا من كان حق "الوصاية" لتقرير ما هي مصلحة البلد، وأين هي؟

استقال "كاميرون" مباشرة!! فالقيادة تتغير تلقائيا وبإرادتها، وباللحظة ذاتها، تبعا لنتيجة الاستفتاء، ليس بثورات وانقلابات ودبّابات وطائرات وحروب أهليّة لسنوات، ودمار البلاد، ومئات الآلاف من الضحايا وملايين المهجّرين؛ فالقيادة التي كانت تقود البلد ما قبل الاستفتاء لا تصلح لقيادته بعدها!

فقيادة الحرب غير قيادة السلم، وقيادة الوحدة غير قيادة الاستقلال، وقيادة الدعوة غير قيادة الدولة، وقيادة الثورة غير قيادة التحرير.. وليس هناك قائد (قيادة) تقود لثلاثين سنة، رغم تغير (الكون كله!) حولها، بينما هي قيادة ثابتة راسخة صامدة صالحة لكلّ الظروف والأزمان والأماكن، في الغنى والفقر والقوّة والضعف، والشباب والهِرم!
 
كل العالم يتعامل مع النتيجة بغض النظر عن رأيه فيها، وأثرها عليه! والجميع أيا  كان، ومهما كانت تعليقاته، فهي لا تقدم ولا تؤخر في النتيجة! ولا تعدو كونها رأيا، سواء مع أم ضد النتيجة؛ ترامب يؤيّد: لا يعني شيئا للبريطانيين! ميركل تعارض: هذا رأيها! أوباما: لم يسأله أحد عن رأيه!!
 
الكل سيبدأ يتكيف مع النتيجة شاء من شاء، وأبى من أبى! واللي "مش عاجبه" يشرب من نهر "التايمز"!!

البنك المركزي بدأ بالمعالجات، إسبانيا بدأت تراجع سياستها في جبل طارق، رئيس وزراء مالية اليورو مرتبك، هولاند يدرس خياراته، حلف الناتو يتأقلم مع الوضع الجديد.. 

تشعر وأنت تتابع الحدث، وكأنّ العالم ونخبه في الشرق والغرب: يتحاورون ويجتمعون ويعقدون المؤتمرات الصحفيّة، ويشكّلون اللجان، ويغيّرون الخطط والسياسات، ويضعون إجراءات الطوارئ، ويتابعون أسعار العملات والنّفط والأسواق.. كل هذا لأن 52 في المئة من البريطانيين اختاروا الانفصال عن الاتحاد الأوروبي، باستفتاء في يوم واحد!

وفي الحقيقة لو غيّر 2% رأيهم، لكانت "الدّنيا" مختلفة! هذه هي الشعوب التي تفرض احترامها واحترام رأيها وإرادتها على العالم، بحريّتها وكرامتها!

كل من يحمل الجنسية البريطانية (التي هي ليست منّة من أحد على أحد) بغض النظر عن "أصولهم" -منهم عرب إسلاميون- كانوا حريصين على التصويت، ومهتمين بالنتيجة؛ هذا يعني إحساسا كبيرا بالانتماء والمواطنة.

وهذا الإحساس هو نتيجة طبيعية لاحترام يلقونه من الوطن ومؤسساته، الذي يشعرهم بمواطنتهم، بل وإنسانيّتهم، ويدير شؤونه بناء على مصالحهم وإرادتهم؛ فصورة الوطن عندهم و"أجهزته" لا ترتبط بالسجون والشّبح والتعذيب، والقهر والإهانة، والبطالة والفقر، والفساد، والغاز المسيل للدموع، والرصاص المطّاطي، وهراوات الجنود والشرطة، والتنصت، وحجز الجواز، والحرمان من الهوية، وشهادة الميلاد، ورخصة السواقة، والتحكم بأدق تفاصيل المصير!!

هذه بعض إشارات لعل حكوماتنا وأحزابنا ونخبنا تلتقطها؛ إذا احترمنا شعوبنا وإرادتها، فسيحترمنا العدو قبل الصديق، وسيسعى لكسب ودنا، وسيأقْلم نفسه على مقاس إرادتنا! ولا تخافوا! فسيكون الاحترام من نصيبكم أيضا!

وهي إشارات لشعوبنا أن تستمرّ في النضال -مهما كانت الكُلفة- لتحصل على احترام إرادتها ورأيها ومصالحها من القوى المسيطرة على مقدراتها، سواء كانت هذه القوى دولة عميقة أو أحزابا ديناصورية أو قيادات متنفذة أو نخبا متعفّنة!

وأخيرا:

 هي هموم مواطن عربي ناضل أربعين عاما ضد نتائج السياسات البريطانية، يخشى أن تصبح آخر أحلامه أن يكون مواطنا بريطانيّا!