كتاب عربي 21

الحركة الإسلاميّة وحتميّة التغيير

1300x600
الحديث عن "التغيير" بحث مضن في كيفية التناغم والتساوق والتجاوب مع حركة الكون والحياة والمجتمعات؛ فالتغيير سنّة كونية! كما أنّ المطالبة بضرورة "التغيير" لا تعني سلبية تلعن الماضي وتعتبره "سجنا" وتنقلب على الحاضر وتعتبره "جمودا"؛ بل هي إيجابيّة مطلقة تعتبر الماضي إنجازا وإرثا من الخبرة (بإيجابيّاته وسلبياته) يستفاد منها، وتنظر للحاضر أنّه نجاح يمكن أن يطوّر ويُبنى عليه، وتنظر للمستقبل على أنه بناء على إنجاز الماضي واستمرارٌ لنّجاح الحاضر.

والحديث عن "التغيير" عند الحركة الإسلامية لا ينفصل عن هذا السياق؛ ففي الوقت الذي يعتبره البعض انسلاخا عن الثوابت وتخليا عن المبادئ، وآخرون يعتبرونه رضوخا "للباطل" وتماهيا معه، فإن آخرين يعتبرونه انسجاما مع نواميس الكون، بل هو استجابة لأمر السماء وتناغم مع سنّة النبيّ -صلى الله عليه وسلّم- وسيرته..

وإذا كان "التغيير" عموما يواجَه بمقاومة شرسة من "المحافظين" على الواقع المضمون و"الخائفين" من المستقبل المجهول؛ فإن مواجهته عند الحركات الإسلامية أشد شراسة و"تطرّفا" لأنّها تركن (ولو وهما) لأسانيد دينيّة وشرعية، وتغلف بالحفاظ على "الثوابت" والمسار التنظيمي تارة، و"الطاعة" و"الثقة" بالمؤسّسات القيادية تارة أخرى!

بيد أنّ سنن الله في الكون والحياة لا تحابي أحدا إسلاميا كان أم غير ذلك، ولم يستثن من ذلك حتى الأنبياء؛ فقد جعل الله لكل شيء سببا، مَن بذل الأسباب حصد النتائج، وسنة "التدافع" للنّاس كافة: "ولولا دفع الله النّاس بعضهم ببعض لفسدت الأرض"، فالجمود على الحال يعني فساد المآل! والتعامي عن حالة "التدافع" التي يعيشها النّاس -والإسلاميّون جزء من النّاس- هو إيغال في الوهم! ولا يمكن الاستمرار في "حالة الإنكار" والوهم هذا إلى الأبد؛ وسيصحو "المنكِرون" من وهم الصمود السراب يوما ليكتشفوا أنهم ليسوا بدعا من "النّاس"!!

في جميع الأحوال؛ وافق الموافِقون أم أنكر المنكرون، لم يعد هذا الحديث حبيس الصدور ولا همسا في الصالونات المغلقة، أو حوارا بين النّخب القياديّة، أو أفكارا نشازا "لإخوة" خارجين عن الصفّ!

فمواقع التواصل الاجتماعي مليئة وزاخرة بحوارات بين شباب الحركة الإسلامية، وصلت في بعض الأحيان لدرجات غير مقبولة من الخلاف والاختلاف، الأمر الذي كان لعهد قريب يعد من المحرّمات!  ولم يقف الأمر عند مجرد الحوار والخلاف والاختلاف النظري والفكري بين "الشباب"، بل تكرّر أنْ نشهد -للأسف الشديد- حالات من الشقاق والانشقاق العملي في تنظيمات كانت تعد دوما عصية جدا على أقلّ من ذلك بكثير.

بإيجاز شديد؛ الحراك الفكري كبير وشامل سواء كان بين القواعد التنظيمية أم بين النخب القياديّة، والتباين في النظر للقضايا الكبرى والأسئلة المفتاحية بين الأجيال والبيئات الحركية أيضا كبير.

ولا يمكن الاستمرا في تجاهل هذا "الحراك" وهذا "التباين" ضمن منظومة البيئة الداخلية من قبل "أولي الأمر" و"أهل الحل والعقد"! خاصّة وأنّ "التغيير" ودوافعه ومحرّكاته أيضا في البيئة الخارجية المحيطة بالحركة الإسلامية قويّة جدا، وتتداخل مع حالة "الحراك" الداخلية وتتفاعل معها وتؤثر فيها سلبا وإيجابا، قبولا ورفضا، تعاونا وصراعا، سلما وحربا.. ولم تعد الحركة وأتباعها يستطيعون الاستمرار في "تعاطي" تلك "العزلة الشعورية" المصطنعة في كثير من الأحيان.

فأولا، هناك الربيع العربي وثوراته وإفرازاتها المجتمعية والسياسية والإقتصادية والفكرية، ثم ما تبعه من "الردّة الثورية" وارتدادتها الدموية من الإجرام والدمار والقتل والتشريد والسجون، التي تعيش الحركة الإسلامية في أتونها ما بين سجونها وميادين قتالها وحكوماتها وبرلماناتها وقضائها وإعلامها وأجهزتها الأمنية..

كلّ ذلك أدّى إلى "تغييرات كبرى" لا يمكن القفز عنها أو تجاهلها؛ على سبيل المثال لا الحصر (وهذا يحتاج لدراسات مضنية)؛ فآفاق الوعي ومساحته عند الشعوب اتسعت (وينطبق هذا أكثر على قواعد الحركة وأنصارها)، وسقوف التضحية والجرأة على الفساد والفاسدين في السلطة ارتفعت بشكل غير مسبوق.

في المقابل، فإنّ قعر الفجر وصل إلى مستويات من الدناءة والانحطاط لا يمكن تخيّلها. ومظاهر التديّن والالتزام بالشعائر وصل إلى ما لم يكن الإسلاميون يحلمون بأقلّ منه بكثير (انتشار المساجد، وتحفيظ القرآن، والحجاب، والإقبال على العلوم الشرعية..).

وفي مقابل هذا "الالتزام" العام، برزت تيّارات فكرية متطرّفة فكريا وعنفيا واستقطبت شرائح مجتمعية كبرى وبالذات الشبابية منها.

الثورة المعلوماتية ثانيا؛ التي يدخل تأثيرها في كل شيء، نعم كل شيء، في حياة الإنسان؛ فلا حدود للتواصل بين المجتمعات، لا قيود على المعلومات، لا خصوصية للأفراد والجماعات تحطمت معها أوهام السريّة، تغير كلي في بنية الأسواق والمنتجات، تشكل مجتمعات افتراضية مؤثرة وفاعلة، بل وقائدة للثورات، كل شيء متاح (التدين، التزكية، التربية، التطرّف، الانحلال، العنف..)، ولكل إنسان من مسافة صفر على الشبكة! وبكبسة زر على الريموت كونترول التلفاز أو لمسة إصبع على شاشة الهاتف الذكي!

هذه أهمّ المتغيّرات الكونية الكبرى -وغيرها كثير يصعب حصره في هذه العجالة- صنعت بيئة جديدة كليّا باجتماعها وسياستها واقتصادها وثقافتها وفكرها ومعاييرها.. لا بد لكل متعامل ومتفاعل مع الشأن العام أيّا كان اتجاهه أن يدركها إدراكا عقليا وفكريا يؤدي إلى "تغيير حتميّ" وكلي على أرض الواقع.

ولا يمكن ولا يعقل أبدا مع كلّ ذلك أن تبقى الحركة الإسلامية جامدة على ما كانت عليه من منهجية العمل ووسائله وأدواته وآلياته بل وفلسفته في سبعينيات القرن الماضي وما قبلها!!

في الوقت الذي يتسارع تغيّر العالم بسرعات فلكية حولها، إنها إن بقيت كذلك -ولن تستطيع- سيطويها الزمان، وستجري عليها سُنن الاستبدال، وستغادرها الأجيال الشابّة مخلّفة وراءها شيوخا يتغنون بما صنعوه وفعلوه في سالف العصر والأوان!

ولن يتحدّثوا إلا بصيغة الفعل الماضي والناقص أحيانا! وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا! وسيستمرون في الجلوس على "كراسي" السدانة والكهانة، يتلون تراتيلهم ويعبثون بحبّات مسابحهم وهم لا يدرون أنّ العبّاد قد غادروا المعبد، ولم يعد هناك حاجة للسدنة والكهنة!

وسيبقى السؤال الدائم: حتى متى؟!

آخر الكلام لمأمون فريز جرّار:

مَن لم يَكُن في الفُلك أدركه الغرق

وطواه تيّار الظلام وغاب في لُجَجِ الغسق!