قضايا وآراء

مفهوم المواطنة وتحوّلاته منذ بناء الدولة الوطنية التونسية

1300x600
دَين المعنى أو المواطنة المشروطة في عهد الزعيم بورقيبة (1)

بعد انتخابات أكتوبر 2011، اختلف التونسيون في تحديد المهام الأصلية للمجلس التأسيسي، ولكنهم اتفقوا على نقطة مركزية ألا وهي أن تكون صياغة الدستور هو المهمة الأولى للمجلس التأسيسي. ولا شكّ في أن القيمة التداولية للدستور متأتية أساسا من تعبيره عن منطق الواقع من جهة أولى، وكذلك من تعبيره –من جهة ثانية عن تطلعات المجموعة الوطنية التي يعبّر عنها مختلف الفاعلين الاجتماعيين. كان السؤال الأهمّ في تلك المرحلة المفصلية من التاريخ التونسي هو السؤال التالي: كيف يمكن صياغة" دستور" يكون الساهرون على كتابته متوافقين على "حدّ أدنى" من القيم والمرجعيات التي تجعل لهم "لغة مشتركة"، يحدّدون بها طبيعة المجتمع الذي نريد أن نحيا فيه "جميعا"، أي ذلك المجتمع الذي يجد فيه المتصارعون "أقصى" ما يمكن إداركه "واقعيا"-بعيدا عن منطق الانقلابات والقوة"العارية"- وذلك بالنظر إلى موازين القوى ومصالح الأطراف الأخرى المادية منها والرمزية؟

لمّا كانت الأطروحات السياسية عندنا ، هي أساسا أطروحات" وظيفية" براغماتية تنشد "الفاعلية" الآنية والإقناع "الخطابي" أكثر ممّا تطلب التحقّق بالشروط "البرهانية" لـ"معايير الخطاب" مثل الصدق والدقة والحقيقة و المسؤولية - أي كلّ تلك الشروط التي يُفصّلها هابرماس في حديثه عن "العقل التواصلي"، الذي لا يمكن فصله عنده عن "الديمقراطية التداولية" بما هي تجاوز للديمقراطية التمثيلية السائدة في الغرب-، فإننا مضطرّون إلى ملء تلك "البياضات" التي تدخل عند أحزابنا - بإسلامييها وعلمانييها- في باب "اللامفكّر فيه"، أو في باب "ما لا يجب التفكير فيه" بحكم الكُلفة النفسية والروحية و"الانتخابية" التي قد يدفعها أي تنظيم حزبي، إن هو رضي بمواجهة الكثير من الأسئلة والإجابة عنها خارج منطق الربح والخسارة "الآن-وهنا". 

إنّ الأحزاب –باعتبارها "التنظيم" الجماعي الأكثر فاعلية في إدارة المجال السياسي داخل المجتمعات الحديثة، وباعتبارها الوريث "التركيبي" الأبرز "للعصبيات" والانتماءات  المهيمنة على "المجتمع الأهلي" في الفضاءات التقليدية-، لا يمكن أن تُفلت من سلطة تلك القاعدة الاجتماعية المعروفة، التي بمقتضاها لا تستطيع أي ثقافة أن تطرح من الأسئلة ما لا تستطيع الإجابة عنه. وبالطّبع فإنّ الغياب العمومي للأجوبة لا يعني دائما "غيابها" الفعلي، بل منتهى ما يعنيه أنها "مكبوتة" أو مراقبة داخل دوائر ضيّقة تُدرك مقدار الخسارة التي قد يتسبّب فيها جعلها موضوعا من موضوعات الحوار العام. وسأكتفي في هذا السلسلة من المقالات بالتمثيل لهذه الواقعة السوسيولوجية بمسألة "مفهوم المواطنة"، وذلك بعيدا عن سلطة المحدّدات الصورية أو الأدبيات السجالية التي تتحدّث عن مواطنةٍ، لا وجود لها إلاّ في مساحة الخطابات"المخيالية" المدافعة عنها أو الرافضة لما يخالفها من أطروحات أو بدائل. 

عندما قامت الدولة الوطنية في تونس بعد الاستقلال "القانوني" عن فرنسا ، حاولت النخبة الحاكمة إقامة دولة وطنية Etat-Nation يتمّ فيها حصر الانتماء في المستوى "القطري" (باعتباره يحيل إلى "الأمّة التونسية")، ولم يمرّ هذا التوجّه البورقيبي من دون معارضة "نسقيّة" ذات خلفيات إيديولوجية متباينة من طرف العديد من الرموز الوطنية لعلّ أشهرهم صالح بن يوسف. كان فشل اليوسفيّة  واغتيال الزعيم بن يوسف انتصارا للنموذج"التحديثي" الذي حدّد منوال التنمية البشرية والاقتصادية من خلال التلازم التاريخي بين ذلك الثالوث الذي فصّل القول فيه محمد أركون،أي ثالوث: الوطن-الحزب-الزعيم. وكان هذا النموذج-رغم مساوئه الكثيرة- مظهرا من مظاهر النجاح "الظاهر" للفلسفة اليعقوبية الفرنسية في أثناء اشتغالها في المستعمرات السابقة. 

لكنّ "المعارضة" التي عرفها هذا النظام في مستوى اختياراته الثقافية والاقتصادية أبانت عن "هوّة" واقعية بين الإرث التنويري الفرنسي الذي يستند إليه "صوريا"، و بين "حقيقة" المواطنة كما يحياها "الفرد" بعد أن تمّ فصله عن الأطر الاجتماعية لانتمائه داخل المجتمعات التقليدية مثل القبائل و"العروش" والزوايا الكبرى وغيرها. لقد عمل بورقيبة على تدمير كل "الوسائط" التي كانت تقوم بين "المخزن" والفرد داخل المجتمع التقليدي، أي إنه قد قضى على كل التضامنات التي كانت تحمي الفرد فيما يمكن تسميته بـ"المجتمع الأهلي" ( باعتبار المجتمع الأهلي هو السلف المفهومي "للمجتمع المدني"الحديث)، ولكنه لم يسمح بانبثاق"مجتمع مدني" خارج هيمنته"الكارزمية" وخارج سلطة الحزب التنظيمية أو التأطيرية. 

ولو شئنا استعمال "استعارة" تمثيلية لهذا الوضع لقلنا: كان "الحزب" هو زاوية العمل السياسي الحديث، وهي زاوية تحافظ على "طريقة" واحدة وعلى شيخ واحد ولا تقبل المنافسة في سوق "النجاة" الدنيوية أو الأخروية. كانت الأرضية"اليعقوبية" التي هي مظهر أقصى من مظاهر ما يُسمّيه المرحوم المسيري بـ"العلمانية الكلّية"  تسمح "للزعيم" بأن يُسيطر على المجال العام من خلال التدخّل في "مملكة المعاني" أو الغايات النهائية للوجود. ولم يكن بورقيبة مجرّد "قائد" سياسي، بل حاول أن يُجمّع في شخصه ووظائفه صورة الفقيه وفيلسوف التاريخ و المصلح الاجتماعي باعتباره مرجع المعنى والحَكم بين "الأبناء"وغير ذلك من الصفات التي لا تجتمع في البيئة التقليدية، ولا يُسلّم بها الاّ لمن ادّعى "المعرفة اللّدنية" واعترفت الجماعة له بها. 

واقعيّا، كانت "المواطنة" في عهد بورقيبة "منحة" لا ضامن لها إلاّ أمران: رضا الزعيم من جهة أولى، والاعتراف به –من جهة ثانية- "عقلا مطلقا" متجسّدا في التاريخ. وهو ما يعني أنّ كل معارضة "سياسية" تُدرك من منظور"المركز السلطوي" باعتبارها المرادف الحديث "للرّدة" في المجتمعات التقليدية. فبورقيبة لم يكن يطلب "فهما" أو "تفهّما" بقدر ما كان يطلب "إيمانا مُعلمنا" لم يستطع رغم صبغته "المعقلنة" أن ينفصل عن الوعي الديني المتحكّم في المجتمع التقليدي الذي أراد "الزعيم" تجاوزه. كان ذلك يعني أنّ المواطنة بتجلّياتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية  لم تكن إلا مظهرا من مظاهر ما يُسمّيه مارسيل غوشيه بـ"دَين المعنى" l’endettement de sens ،أي إنّ بورقيبة قد كان وفق ما صرّح به هو نفسه "صانع" تونس-أي مخرجها من العماه والهيولى إلى عالم الوجود-، وهو الذي أخرج التونسيين من وضعية"التذرّر" إلى وضعية"الأمّة"، وهو بالتالي من "وهب" للتونسيين "معنى" يتجاوزون به حالة "الفوضى" واللاّمعنى التي كانت لهم قبل الزعيم . مقابل ذلك كان التونسيون "كلهم" –وبلا استثناء-  "مدينين" له بالطاعة والولاء "مدى الحياة". 

كان غياب الولاء علامة على"اللاوطنية" التي تُبيح للنظام كل مظاهر العسف والظلم بصرف النظر عن الإيديولوجيا التي يحملها من ينتمي إلى"الفئة الضالة". ولم تكن المواطنة بهذا المنظور تخرج عن معيار الطاعة وعن "منحة" الزعيم ، فكانت بالتالي "مواطنة مشروطة" مرتبطة بإرادة الزعيم "المُمأسسة"  والمحمية جيدا عبر أجهزته القمعية بشكليها الأيديولوجي والبوليسي. وكانت "شَرطية" المواطنة أمرا ثابتا في كل تحدّ "جماعيّ" لسلطة الزعيم، سواء أكان المتحدّي من داخل الحزب-كما هو شأن صالح بن يوسف ومن معه- أم كان من المناضلين اليساريين والقوميين أم الإسلاميين من بعدهم. ولكنّ بورقيبة رغم ذلك ظلّ محافظا على هامش إنساني"تنويري" عصمه عن الأخذ بمبدأ" العقوبة الجماعية" أو شيطنة المعارض إلى يوم الدين وتنكيل من خلفه به. 

لقد كان لهيمنة ثالوث الوطن-الحزب-الزعيم على الدولة الوطنية منذ تأسيسها تأثير كبير في تحديد "واقع" المواطنة واستحقاقاتها الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية. فالمواطنة لم تكن شأنا "حقوقيا" إلاّ بالمعنى الذي تُعبّر عنه تلك المقولة الليبرالية الكلاسيكية من ارتباط كل شيء بالسياسة tout tient radicalement à la politique . ولا تعني السياسة في مجتمعنا "ما بعد الكولونيالي" المتخلّف "فنّا" أو مجالا مستقلا عن سائر المجالات العامة الأخرى، بل "نواة" المجتمع ومركز توزيع القيم والخيرات المادية، تبعا للقرب من ذلك المركز أو الابتعاد عنه. فرغم أنّ المرحوم بورقيبة قد جعل الكثير من أبناء الطبقات المحرومة  (من الريفيين خاصة) يرتقون اجتماعيا من خلال ما وفّره من التعليم المجاني، وبالرغم من كل ما وفرته الدولة لضعاف الحال من التغطية الاجتماعية والرعاية الصحية، أي برغم المكاسب "الاجتماعية" والاقتصادية، بل من المكاسب الثقافية التي كانت ومازالت مثار سجال اجتماعي حاد بين العلمانيين والإسلاميين، فإن الزعيم بورقيبة لم يستطع أن يُجري"واقعيا" مبادئ الليبرالية والتنوير الفرنسي خارج فهمه "النرجسي" و"الجهوي" لللائكية اليعقوبية ولكيفيات تنزيلها في عملية التحديث بعد الاستقلال عن فرنسا. 

كانت المواطنة في عهد المرحوم بورقيبة "امتيازا" ومنحة "أبويّة"  مشروطة، وكانت الضمانات الواقعية لها  مرتبطة بإرادة الزعيم وبـ"حكمته" التي قد تنقض أبسط الحقوق الأساسية للمواطن التونسي في أي لحظة، إن أراد الزعيم-أو من يمثلونه- ذلك. فالتمتع بامتيازات المواطنة كان مرتبطا بسلطة الحزب أو الجهة أو الولاء "الشخصي" أو منطق الزبونية، وغير ذلك من المحددات التي تجعل "المواطن النموذجي" بالنسبة للسلطة البورقيبية هو شخص مُدجّن وتابع بامتياز. كما كانت امتيازات المواطنة تثبت بصورة طردية بمدى "التنازل" عن أهمّ حقّ من الحقوق في المنظومة الكونية لحقوق الإنسان: أي الحق في التفكير والتعبير والاعتقاد من خارج المنظورات السلطوية، دون أن ينتج عن ذلك مساءلة "قانونية" أو معاملة "أمنية". 

واقعيا، هيمن على تونس منذ بناء الدولة الوطنية ما اصطلحنا على تسميته بـ"المواطنة المشروطة" أو "المواطنة الهشّة"، تلك المواطنة التي ستبلغ أوج "هشاشتها" مع تقدّم "الزعيم" في العمر ودخول النظام في أزمة بنيوية ووظيفية حادة مهّدت لانقلاب 7 نوفمبر1987. وقد حرص "صانع التغيير" على تأكيد انتمائه إلى التراث البورقيبي من جهة أولى، وعلى إظهار رغبته في إصلاح هذا النظام وتطويره نحو ترسيخ مفهوم المواطنة من جهة ثانية. وهو ادّعاء سنعمل في الجزء الثاني من المقال بإذن الله على بيان محصوله الواقعي طيلة 23 عاما من الحكم، أي إلى حين سقوط رأس النظام-لا النظام كله-  بثورة 17 ديسمبر 2010 المجيدة.