مقابلات

استشاري نفسي يكشف الأسباب الحقيقية لانضمام الشباب لـ"داعش"

هناك أسباب عديدة تجعل من الشباب العربي يتبنى الفكر المتطرف ويلتحق بالتنظيمات الإرهابية مثل تنظيم الدولة- فيسبوك
قال الاستشاري والباحث في الظواهر النفسية والاجتماعية ومدير مركز "تفكير" للدراسات الإستراتيجية والإنسانية بالمغرب، هشام العفو، إن هناك أسبابا عديدة تجعل من الشباب العربي بصفة عامة، والمغربي بصفة خاصة، يتبنى الفكر المتطرف ويلتحق بالتنظيمات الإرهابية مثل تنظيم الدولة، مشيرا إلى الأسباب المرتبطة بالقهر والتسلط الاجتماعي، وكذا الأسباب المرتبطة بالشخصية القاعدية للشباب، إضافة إلى قلة فرص الحياة وانعدام التكافؤ الفردي داخل المجتمع.

ودعا، في حوار خاص مع "عربي21" إلى ضرورة اتخاذ الحيطة والحذر، مستدركا: "لكن عدم التفكير الجدي في مقاربة نسقية، ذات مضمون اجتماعي ونفسي، وعدم إشراك علماء النفس والاجتماع والدين، قد يدفع الوضع إلى التفاقم أكثر ولن تكون المقاربة الأمنية فعالة بعدها".

وأشار إلى أننا في مفترق طرق جديد "إما أن نراجع بموجبه الكثير من البنى الاجتماعية والسياسية والثقافية والفكرية ... ونعيد ترتيب أوراقنا ونظرتنا تجاه الشباب، وإما سنفقد المزيد منهم لأن المتغير الجديد هو وجود تنظيمات خطيرة لها إيديولوجيات أخطر وتستفيد بشكل كبير من البحر الذي يشكل متنفسا لشباب اليوم وهو عالم الإنترنيت"، على حد تعبيره.

وفيما يلي النص الكامل للحوار:

ما هي الأسباب الحقيقية التي تجعل من الشباب يلتحقون بتنظيم الدولة بالرغم من مشاهدتهم للمجازر التي يقوم بها هذا التنظيم؟

حينما يتعلق السؤال بالأسباب فإننا نكون أمام مقاربتين: الأولى إحصائية، تعتمد على ما يتم رصده من أسباب لتطور الظاهرة ونمتلك من خلالها أرقاما وإحصائيات حولها، ليكون تقييمنا للظاهرة دقيقا وواقعيا أكثر، لكن على مستوى التفسير قد يستحق الأمر المقاربة الثانية وهي الوصفية، والتي تقوم أكثر على المعطيات المتوفرة وعلى الملاحظة ومواجهة العينات المباشرة أحيانا، وهذا قد يساعدنا أكثر في الإحاطة بهذا السؤال الكبير.

التحاق الشباب خصوصا بما يسمى "داعش" لا يحتاج إلى كثير من التأمل، لأن الأمر يتعلق بقرار فردي أو جماعي لفئة من الشباب تعاني أصلا من مجموعة من الاختلالات على مستوى التفكير والعقيدة ثم المعرفة والهوية..... وكذا من اضطراب أو نكوص على مستوى التركيبة السيكولوجية للفرد، والتي ترتبط أيضا بنظام المجتمع الذي ينتمي إليه، وإذا أردنا أن ندقق في هذه الاحتمالات، فيمكننا أن نرصد الجوانب التالية:

 أولا: الأسباب المرتبطة بالقهر والتسلط الاجتماعي الذي يعانيه الشباب، ويولد لديهم الإحساس بانعدام الفرص داخل المجتمع، أو صعوبة إثبات الذات، في ظل غياب مبادئ التكافؤ الاجتماعي والمساواة في الفرص .... إضافة إلى الإحساس بالظلم خصوصا حينما يجد الشاب العربي عامة والمغربي خاصة نفسه غارقا في مستنقع البطالة، وحفرة الفقر، وهذه الأمور ترتبط بالوضع الاجتماعي عامة الذي يكون حافزا ودافعا قويا للشباب لتجييش مشاعر الكره للذات وللمجتمع الذي ينتمون إليه، ونستحضر هنا سنوات التسعينيات في المغرب، والتي عرفت هجرة الآلاف من الشباب عبر البحر وهم يدركون جيدا أن لحظات عيشهم ضئيلة ومحفوفة بالمخاطر.

ثانيا: الأسباب المرتبطة بالشخصية القاعدية للشباب، أو ما يسمى بالتركيبة السيكولوجية والهوياتية للشباب، لأن ظهور نظام اجتماعي فصامي "وصف مأخوذ عن علم النفس المرضي"، دليل على أن المجتمعات العربية لم تستطع إيجاد نموذج اجتماعي وسياسي خاص بها، يحفظ لها الهوية التاريخية التي قامت عليها، وكذا لا يعيق تقدمها وتطورها في جميع المجالات، وهذا ما خلق ازدواجية خطيرة على مستوى أسس قيام الدولة، ومرجعية المجتمع، فقد نشبت صراعات قوية بين تيارات محافظة وأخرى تقدمية منفتحة، لكن المشكل لم يكن في طبيعة الصراع، ولكن في النخبة التي تقود الصراع، لأنها لم تتبنه من منطلق تغيير الأوضاع وتقديم النموذج الأفضل من أجل بناء دولة حضارية قوية، وإنما كان من منطلق الكبرياء الزائد، وحب المناصب والكراسي، وأنتج لنا هذا الوضع نخبة سياسية فاشلة وفاسدة، انعكست أوضاعها ومطامعها على آمال وفرص الشباب في التغيير، مما كرس في نفوسهم الإحساس بالفشل المجتمعي في تبني حقوقهم وأحلامهم مستقبلا.

ثالثا: قلة فرص الحياة وانعدام التكافؤ الفردي داخل المجتمع، وظهور فوارق طبقية كبيرة، وضرب أهم الحقوق التي يمكن أن يعيش عليها الشباب، خصوصا التعليم والصحة والشغل، وهذه الميادين الثلاثة التي دفعت الآلاف من الشباب، لفترة طويلة، إلى الهجرة غير الشرعية والبحث عن تحقيق هذه الحقوق الأساسية في العيش في بلدان أخرى، مما اضطرهم بعد الهجرة بقبول الهوية الاجتماعية الجديدة، أو بالباقين في بلدهم الأصلي إلى البحث عن طرق أخرى كيفما كانت لتحقيق هذه الحقوق وهو الأمر الذي عزز ظهور تنسيقيات وحركات احتجاجية متعددة انطلقت شرارتها من تونس مع الشهيد الشاب "البوعزيزي" وامتدت إلى باقي الدول العربية، لكنها كانت هزات احتجاجية انتظرت هزات ارتدادية قوية كانت تبعاتها السلبية أقوى من طبيعتها التغييرية، نظرا لغياب العقلية الاحتجاجية المؤطرة سياسيا، وقد شكل فشل هذه الحركات الاحتجاجية في إصلاح الأوضاع داخل البلدان العربية، إحباطا كبيرا لدى فئات واسعة من الشباب الذين وجدوا في الهجرة إلى تنظيم يرحب بهم ويوفر لهم كل مفاهيم الكره والانتقام والكراهية ملاذهم الآمن الجديد بعدما لفظتهم مجتمعاتهم الأصلية.

هناك إحصائية تقول إن نصف الملتحقات بتنظيم الدولة مراهقات، في نظرك لماذا؟ وما هي الأسباب التي جعلتهن يلتحقن بهذا التنظيم؟

التحاق المراهقات بهذا التنظيم (حسب دراسة مجلة نيويورك تايمز حوالي 500 فتاة التحقن بالتنظيم أغلبهن مراهقات دون 13 سنة) لا يختلف مبدئيا عن كونه مظهرا من مظاهر انحراف المجتمع، كما سبق الذكر بالنسبة للشباب الذكور، من جهة، ومن أزمة يعيشها الإنسان المضطهد من جهة أخرى، وبالنسبة لنا لا نرى اختلافا كبيرا بين ارتماء الفتاة في حضن الدعارة والفساد والانحلال والإدمان، وبين توجهها إلى الانضمام لهذا التنظيم، لأن كلا الأمرين يمكن تفسيرهما بهروب الفتاة من واقع مؤلم وصعب ليس على المستوى الاقتصادي والاجتماعي فحسب، بل حتى على المستوى النفسي، وناتج أيضا عن أزمة الذات والهوية التي بدأت الفتاة تعيشها في خضم تطور العالم الجديد، والدليل هنا، أن الوضعية الأولى هي نتاج فشل الفتاة في تحقيق ذاتها والاندماج مع الواقع، ثم نزع الاعتراف من المجتمع مهما كانت ظروفها ووضعيتها النفسية والاجتماعية ومستوى تفكيرها... وبالتالي تعزيز القلق الاضطهادي الذي يحمله الإنسان منذ طفولته حسب تعبير المحللة النفسانية "ميلاني كلاين"، وأن مشاعر الإحباط الناتجة عن تراكم الفشل والخيبة، وتبخيس الذات هي عوامل ودوافع سيكولوجية لا شعورية تتراكم عند الفتاة التي تعيش مضطهدة في أسرتها ومحيطها وتعجز عن توفير الأمن النفسي لها، مما يدفعها إلى البحث عن بديل، يحتويها ويوفر لها حضنا وهوية حتى وإن قبلت الفتاة أن يطلق عليها وصفا يجسد انتماءها مثل "العاهرة"، و"الفاسقة"، و"المشرملة" .....

أما من الجهة الأخرى، وحسب الوضعية الثانية، فإن لقب "عروس الجهاد" الذي تم ابتداعه أيضا من طرف مهندسي التنظيم، لا يختلف عن الوصف السابق، فهو يلبي للفتاة رغبة دفينة في وجود حضن وتموقع داخل هذا العالم، وبالتالي فإنها تحجز لنفسها مساحة هوية جديدة تحت مسمى "الفتاة الداعشية" أو "عروس الجهاديين"، ولا تبالي هنا الفتاة التي تفكر في الانتماء بخطورة ما ينتظرها داخل هذا العالم الموحش، لأنها فرت من جحيم مجتمعي آخر كان أكثر وقعا على حياتها النفسية، ونشير هنا إلى أن هذا الوضع الذي تدخله الفتاة الملتحقة بتنظيم "داعش" يتطور حسب المرجعية التفكيرية- التكفيرية للتنظيم، والذي يعمل على غسل دماغ الفتاة وإعادة برمجتها بشكل يخدم التنظيم وأهدافه على المستوى القاعدي، إذن هنا يكمن مربط الفرس، إذ إن المتربصين والمترصدين بالفتيات في البلدان الغربية يختلف خطابهم الموجه لهن على خلاف الخطاب الموجه للفتيات العربيات والمسلمات، لأن طريقة الإغراء أيضا تختلف حسب طبيعة الحاجات التي تفتقدها كل فتاة من جهة، فالفتاة الأوروبية سواء في الجنسية أو الأصل قد تشبعت بقيم الحداثة والانفتاح وعاشت نوعا من الرفاهية لكنها بدأت تدخل مرحلة الفراغ وهو محصلة طبيعية لحياة الترف التي تعيشها، ونمط الحياة الصعب في البلدان الأوروبية، لهذا فإن طبيعة الخطاب الموجه لهذه الفئة يختلف تماما، ويقوم على التغرير بهن ووعدهن بتوفير الحماية والمساعدة على التوبة والحصول على عريس مجاهد بمواصفات معينة، يعوض الفتاة عن حلمها الضائع ويصور لها فارس الأحلام الذي سينقذها من الضياع والفراغ ومن الغدر والخيانة ..... علما أن الذين يقومون بدور الاستقطاب لديهم اطلاع كبير باستراتيجيات الإقناع والمحاورة والتضليل.

أما الفتاة العربية والمسلمة، فإن طريقة استقطابها أكثر سهولة من غيرها، بالرجوع إلى الأوضاع النفسية والاجتماعية التي تعيشها، وتراكم مشاعر القهر والإحباط والظلم الذي تعيشه، ونشير هنا إلى أن المستقطبين لا يحتاجون إلى كثير من العمل لإقناع المراهقات، بل يكفي استدراجهن خصوصا اللواتي سبق أن احترفن الدعارة أو وقعن ضحايا الاغتصاب آو المشاكل الأسرية من طلاق أو الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية من فقر وعوز ...... فيعمل المستقطبون هنا على فرش الطريق بالورود وزرع الأحلام الوردية ونشر الأوهام، على أمل أن الفتاة المراهقة يمكنها أن تكفر عن خطاياها وتكون في مأمن بين الرجال "الحقيقيين". إننا نتحدث هنا عن فتاة كانت على مشارف الانتحار أو فشلت في تحقيق ذاتها في مجتمع ضبابي (تعبير أستاذ علم النفس المرضي محمد بنحدو كلية الآداب فاس)، أو بالأحرى إنها ضحية ما يسمى: سيكولوجية الإنسان المقهور حسب ما قدمه الدكتور مصطفى حجازي في كتابه ودراسته السيكولوجية العميقة.

هل ترى أن ما تقوم به الدولة حاليا من حملات استباقية واعتقالات ومداهمات كفيلة بردع هؤلاء الشباب عن الالتحاق بهذا التنظيم الإرهابي؟

سنكون واقعيين هنا قليلا، ونقول إن استفاقة الدولة كانت متأخرة جدا، وأن طريقة معالجتها لهذه الظاهرة لم تكن في مستوى التطلعات حقيقة، لكن الحاجة إلى معالجتها الآن ضرورية، إذ لابد من منع الشباب من الالتحاق بجميع الطرق الممكنة، لكن على ألا تكون هذه هي الطريقة الوحيدة المرسومة من طرف الدولة، بل إن معالجة هذه الظاهرة يجب أن تكون وفق إستراتيجية شمولية ومنهجية نسقية، مع إشراك جميع مكونات المجتمع، وتبني رؤية مجتمعية وسياسية وعقائدية موحدة، بعيدة عن "التقزيمات" الإيديولوجية، لأننا نتحدث عن فئة تعتبر الأهم ضمن مكونات المجتمع، وهي مستقبل البلاد، لهذا يجب الاعتراف أولا بالأخطاء السابقة ثم العمل على تداركها بشكل جدي، وإعطاء الأمل للشباب خارج ما يسمى "كوطا التمثيليات" وغيرها...، وإنما في جعل الشباب حقا حملة مشعل التجديد والإصلاح، لكن أن تتعامل الدولة بسياسة العصا والتكسير للأطر العليا المعطلة وحملة الشهادات والأساتذة المتدربين فهذا تكريس للخطأ السابق الذي وقع، وبالتالي فإنه يغذي ما تحدثنا عنه من إحساس بالظلم والقهر، وهذا ما يدفعنا إلى ضرورة استيعاب المتغيرات الإقليمية والدولية، وفهمها جيدا ووضعها في سياقها الحقيقي، حتى تكون المقاربة المتبعة إصلاحية عوض أن تكون صدامية قد تزيد من تعقيد الوضع القائم، لهذا نكرر قولنا إن اتخاذ الحيطة والحذر واجب وضروري، لكن عدم التفكير الجدي في مقاربة نسقية، ذات مضمون اجتماعي ونفسي، وعدم إشراك علماء النفس والاجتماع والدين، قد يدفع الوضع إلى التفاقم أكثر ولن تكون المقاربة الأمنية فعالة بعدها.

هل للأسرة والمجتمع جانب من المسؤولية في تحول الشباب من مسالمين إلى محبي العنف؟

قدم بعض علماء الاجتماع في مراحل بحثهم عن أسباب تطور العنف في المجتمعات بصفة عامة، تصورا مهما يتمحور حول التنشئة الاجتماعية والتي تتضمن فصولها أولا الأسرة ثم المدرسة والمجتمع المدني، لكن هذه التركيبة ربما في حاجة إلى تعديل بسيط، يمكن أن يراجعه علماء الاجتماع والأنتروبولوجيا، اعتبارا للتحول المجتمعي وللظرفية الراهنة، فالأسرة تتحمل أول مسؤولية في التربية، ونظرا لما لحقها من تغير وتفكك للأسرة الممتدة، فقد تسربت بعض المظاهر الجديدة إلى نموذج الأسرة النووية الجديدة، وأصبح مطلب تحرر الشباب والانعتاق من مظاهر التحفظ السابقة ضروريا بالنسبة لهذه الفئة، وهذا ما جعل العلاقة بين الأبناء، خصوصا في مرحلة عمرية معينة مثل المراهقة، والوالدين تتوتر كثيرا، مما عمق فجوة التربية الداخلية، وأصبح العنف هو اللغة الجديدة التي أصبحت سائدة داخل الوسط الأسري والتربوي، وأيضا داخل المؤسسات التعليمية، إضافة إلى ما نراه داخل الملاعب الرياضية وفي الأحياء والشوارع، إذن أصبح العنف هو التمظهر الذي كشف عن واقع المجتمع وأبرز ما كان يخفيه من تناقضات ومن تفكك وتشتت في العلاقات والقيم المجتمعية، وهنا نشير إلى أن ظهور تنظيم "داعش" لا يمكن النظر إليه من زاوية معزولة عن الواقع الاجتماعي العربي عامة والمغربي خاصة، وإنما هو متضمن في السياق نفسه.

 كما يعتبر هذا التنظيم نتيجة حتمية لفشل المجتمعات العربية في تحقيق التنمية والإصلاح، واستثمار شبابها وتوجيه طاقاتهم وتحقيق التكافؤ وخلق فرص تحقيق الشباب لذواتهم، وبالتالي فالنتيجة ستكون محسومة وهي ظهور تيارات وتنظيمات راديكالية منحرفة عن سياق الطبيعة البشرية ومخالفة لمبادئ الانسانية والعقلانية، ومجانبة للأخلاق والقيم الكونية، وهدفها تدمير السلم الكوني، والعبث بسر الوجود الإنساني والطبيعي الذي وضعه الله عز وجل وائتمن الإنسان عليه في الأرض كما في الآية الكريمة: "إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا" (الأحزاب- الآية 72).

إن الفشل في تحقيق الاندماج الاجتماعي من طرف الشباب، يشكل حافزا ومشجعا على تبني أساليب الرفض والإقصاء، لأن المجتمع لم يطور آليات استيعاب وتقبل الذين تعذر عليهم تحقيق الاندماج، وإنما يتبنى صيغة الرفض في حقهم، وهو ما يولد في نفوسهم دوافع الحقد والكراهية للذات والآخر، ويكون العنف أكبر تمظهر وتجل لحالة فشل الاندماج، وما نراه في الشوارع، والمدرجات، وساحات الجامعات والمؤسسات التعليمية، وحتى في البيوت، من حالات اعتداء واعتماد العنف وسيلة للتواصل بين الشباب والآخرين في أعمار مختلفة عنهم، يعكس ما نقوله.

لهذا، فإننا نؤكد على أن اعتماد أو تبني الشباب لأساليب العنف ليس اختيارا حرا، وإنما هو واقع فرض عليهم نتيجة اختلال التوازنات الاجتماعية والسيكولوجية، وإن هذه الوضعية المتأزمة تخلق حالة من الفوضى العارمة تتمظهر على شكل سلوكيات عنيفة، وتتخذ شكل أفكار هدامة يستغلها تنظيم "داعش" وغيره من التنظيمات الراديكالية التخريبية سواء المسلمة أو المسيحية أو اليهودية، فتعمل على بناء نموذج إيديولوجي خطير له نزعة تدميرية، تشكل منفذا لهؤلاء الشباب المحبطين واليائسين من أوضاعهم وأوطانهم.

كيف يمكن تغيير "الفكر الداعشي" لدى الشباب بفكر أكثر اعتدالا والقضاء عليه تماما؟

إن تغيير الفكر المتطرف كيفما كان، يستلزم البحث أولا عن أسباب ظهور وتنامي هذا الفكر وتسربه إلى عقول وأذهان الشباب، ثم الرجوع إلى المنافذ الأولى التي سمحت بتسرب هذا الفكر الخطير، وهنا نستحضر أساس الأسرة، لأنها المنبع الأول والحاضن للطفل قبل أن يصبح مراهقا ثم راشدا ومواطنا يحمل كل معاني الإنسانية، وإن الاستقرار الأسري إذا كان مهددا أو مختلا فقد يؤثر في التوازن النفسي والذهني والفكري للشخص، إضافة إلى ظهور نماذج فكر متطرف داخل الكثير من الأسر التي لم تستوعب بعد وجود أنماط تفكير مختلفة ومنفتحة أكثر عقلانية، وهذا جسر آخر يقودنا إلى المنبع الثاني وهو المدرسة، وهنا نشير إلى أن فشل المدرسة في استنبات فكر عقلاني تنويري دون فقدان الهوية والانسياق وراء التبعية العمياء، هو أمر ضروري، لكن للأسف نسجل فشلا ذريعا للمؤسسات التربوية سواء الأسرة أو المدرسة في زرع أسس الفكر المنفتح الذي يقوم على العقل أساس وتقبل الاختلاف والنقد، عوض التجريح والتعصب للرأي الواحد، وهذا هو دور الفكر الفلسفي الذي يعتبر ركيزة أساس لقيام الحضارات ونهضة الأمم، ولم يشهد التاريخ قيام حضارة إنسانية دون اعتمادها على أسس التفكير العقلاني المنفتح، وهذا ما لا نجده في الخلفية التربوية التي تمثلها المؤسسات التربوية والمجتمع المدني إلا في بعض الأحيان فقط، إذ يبقى هذا النوع من التفكير العقلاني الفلسفي مهما يحقق للشباب نسبة من الاعتدال والتوازن، ويمدهم بأدوات النقد والتمحيص قبل التشبع بأي فكر كيفما كان، وهكذا على الأقل سنضمن عدم تشبع هؤلاء الشباب بالفكر الداعشي أو غيره من باقي الأفكار القائمة على التخويف والترهيب والقتل والإبادة التي عمت حضاراتنا الإنسانية خصوصا في القرون الثلاثة الأخيرة.

ما الرسالة التي يمكن أن توجهها للأسرة والمجتمع والدولة للحفاظ على شبابنا؟  

 يقال دائما إن معرفة قيمة الشيء أو الكنز لا يكون إلا بعد فقدانه، لهذا لا يجب إسقاط هذا القول على واقعنا اليوم، فلا يمكن إدراك أهمية وقيمة الشباب بانتظار ارتمائهم في حضن هذه التنظيمات الخطيرة على الإنسانية، لهذا فإن أول مدخل يمكن اعتماده للحفاظ على الشباب هو احترامهم وتقديرهم وتعزيز الثقة في نفوسهم، فلا بد من إعادة تكوين العلاقة داخل الأسرة خصوصا بين الآباء والأبناء، وبنائها على أساس الاحترام المتبادل والاعتراف، ثم اعتبار الشباب دعامة أساس في بناء الأمة ونهضتها وذلك بتعليمهم وتوجيههم وتهيئة الطريق أمامهم حتى يستشعروا الأمان في أوطانهم، لأن صلاح الأمة من صلاح شبابها، وتوازن الأمة من توازن شبابها، ولنا في الحركات الاحتجاجية التي قامت مؤخرا في الدول العربية أسوة، فقد خرج الشباب عن الإطارات السياسية والحزبية وأرسلوا رسائل واضحة، لكن ما نتأسف له أن الدولة لم تتلق هذه الرسائل وإنما تلقاها تنظيم "داعش" وعمل عليها بكل قوة، واعتبر نفسه مغناطيسا يجذب إليه كل الشباب والشابات أيضا، وقد شكل هذا التنظيم للشباب مأوى جديدا وحاضنا لهم بدل أسرهم ومجتمعاتهم التي لفظتهم بقوة.

 إذن، إننا اليوم أمام مفترق طرق جديد، إما أن نراجع بموجبه الكثير من البنى الاجتماعية والسياسية والثقافية والفكرية ..... ونعيد ترتيب أوراقنا ونظرتنا تجاه الشباب، وإما سنفقد المزيد منهم لأن المتغير الجديد هو وجود تنظيمات خطيرة لها إيديولوجيات أخطر وتستفيد بشكل كبير من البحر الذي يشكل متنفسا لشباب اليوم وهو عالم الإنترنيت، إضافة إلى دور الأسرة، فإن دور المجتمع المدني لا يقل أهمية عن غيره، بل يجب اعتماد مقاربة سوسيو- بنائية وتكوينية جديدة، وثقافية منفتحة توفر للشباب إمكانية تحقيق ذواتهم والمشاركة في تأهيل مجتمعهم، مما قد يشعرهم بحب الانتماء ويضخ في كيانهم ترياق الوطنية، ولن يسمح لسم التفكير المنحرف كيفما كان لونه وطعمه أن يتسرب إلى عقولهم، فدور المجتمع المدني يكتسي طابع الأهمية القصوى، ولابد للدولة أن تعمل في هذا الجانب بقوة وتوفر للمؤسسات المدنية الدعم اللازم، وضرورة أن تتجنب عقلية الاتهام السابق والمجاني، ومن جهة أخرى، فإن هذه المؤسسات المدنية أيضا مطالبة بتجديد تصوراتها ومرجعياتها وفتح الباب أمام الشباب لتحملهم المسؤولية داخل التنظيمات عوض اعتبارهم مجرد أرقام تزين بها مدرجاتهم، أو يتم استغلالهم في الحملات الانتخابية.

إن ما ذكرناه سابقا لا يعتبر وصفة سحرية تمكننا من وقف هذا المد التكفيري – التفكيري المنحرف والخطير، لكن يمكن اعتباره مدخلا باستطاعتنا اعتماده لتأسيس أرضية انطلاق يكون الشباب محورها وهدفها الأساس، خصوصا في مدن معينة حيث تنشط التنظيمات المتطرفة خصوصا في مدن الشباب وبعض المدن التي تفتقد التنمية وتعتبر مدنا هامشية مهمشة.