كتاب عربي 21

خطاب السيسي لـ"الأسياد"!

1300x600
عندما هتف السيسي: من أنتم؟.. رد عليه كثيرون عبر مواقع التواصل الاجتماعي: "نحن الشعب المصري". وقد ذكرهم سؤاله بالأخ العقيد القذافي قائد الثورة الليبية، الذي طرح هذا التساؤل، بنفس الدرجة من العصبية، قبل أن ينادي: "دار دار.. زنقة زنقة"!

في تقديري أن هذا التصور جانبه الصواب، فلم يكن السيسي يوجه كلامه للمصريين، فالمدقق المتأمل في أطول خطاب له، يعلم أنه كان في جلسة  تحضير للجان، عندما يخاطب من يقوم بتحضيره والمتعامل مع الحالة المرضية، شخصاً آخراً، هو العفريت الذي "يركب الملبوس"، حيث ينتهي الأمر بطلب صاحبنا من الحاضر الغائب بحدة أن يخرج من ظفر القدم، بينما الحضور في خشوع عظيم!
لقد كان السيسي في خطابه يخاطب جهة، أو دولة، أو قوى، بينما كان الحاضرون أمامه على "مسرح الجلاء" التابع للقوات المسلحة، كالأطرش في الزفة، لا يعرفون من المعنى بهذا الخطاب، وتلك الرسائل، وربما ظنوا ما ظنه العامة من أن زعيمهم المفدى يخاطب الشعب المصري، مع أن هذا الشعب لم يبدو معنياً من الخطاب إلا بإشارات قليلة، كحديثه عندما انتقل بمصر " الفتاة العفية" في عهد عبد الناصر، إلى الأم مكسورة الجناح التي تحتاج من أبنائها أن "يصبحوا عليها" يومياً بجنيه لكل منهم هو قيمة المكالمة الهاتفية. تعلمون أن الشاعر "عبد الرحمن الأبنودي" رسم صورة لمصر في المرحلة الأولى، بأنها "على الترعة بتغسل شعرها"، قبل الإعلان الشهير بأكثر من ثلاثين سنة الذي ينصح المصريين بأن يعطوا ظهورهم للترعة تجنباً للبلهارسيا، فلم يكن مصر حينئذ ترى في الترعة ذلك، وكان غسل شعرها فيها دليل عافية وشموخ، وتطورت النظرة إليها بأنها "بهية بطرحة وجلابية"، "الزمن شاب وهي شابة، هو رايح وهي جايه". كما في شعر أحمد فؤاد نجم!!

لكن مصر شاخت على يد عبد الفتاح السيسي وصارت عجوزاً تخطب ود أبناءها ولو بالسؤال عنها بجنيه، وقبل هذا طلبت وزيرة مسؤولة من المصريين في الخارج أن يتذكروا أمهم "مصر" بمائتي دولار، لسد العجز فيه!

هذا فضلاً عن أن المصريين كانوا مستهدفين بكلام عام بدا يفتقد للمبرر الطبيعي لوجوده مثل "إحنا هنقطع مصر ولا إيه"، وهو كلام عند بعض المترجمين المطلعين على "شفرة السيسي"، يستدعي به إجماعاً شعبياً حوله، وربما حماية جماهيرية عند الحديث عن أن مصر تواجه خطر التقسيم، وأنه وحده من يستطيع بهم مجابهته، وإذا كنا لا نعرف من يقصد بهذا التساؤل؟.. إلا أنه من الواضح أنه كلام للاستهلاك المحلي بغية تحقيق هدفه باحتشاد جماهيري، كان هو السبب في تراجع المشير عبد الحكيم عامر بقيادة انقلاب الجيش على عبد الناصر، حيث إحتمى بجيش أقوى يتمثل في بسطاء الشعب المصري!

وتكمن مشكلة "السيسي"، في أنه كنتاج للثقافة السمعية، لا يعلم أن الأمر مختلف، فعبد الناصر كانت انحيازاته كلها للفقراء، وهو كل تركيزه على شعبية داخل الجيش، فانشغل به عن الفاتورة المكلفة للشعب، ولأنه كان يريد حماية سريعة، وثقة الشعوب بالدرجة التي تمثل حماية يكسبها الحكام في دول العالم الثالث بالتراكم!

عندما يتساءل السيسي بعصبية زائدة: "من أنتم"، فإنه لا يقصد المصريين، لكنه يقصد آخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم!

وهؤلاء هم الذين وجه لهم التحذير بعد القسم بالأيمان المغلظة بأن من "يقرب لها أشيله من فوق وش الأرض"، وهى نظرة توحي بالتعامل مع البلاد على أنها المرأة الفقيرة العاجزة بعد مرحلة وقوفها على الترعة ممشوقة القوام لتغسل شعرها بحسب الصورة الشعرية للأبنودي، ولم يقل لنا من الذي يفكر أو يخطط في الاقتراب منها ليوجه له هذا التحذير بأنه سوف "يشيله من فوق وش الأرض"، لاحظ أنه يتعامل أحياناً على أنه مصر، كما يتعامل في أحيان أخرى على أنه بعلها!

يتقدم "السيسي" خطوة للأمام، وهو يقول "أنتم فاكرين الحكاية إيه؟" وهو إن كان وجه نداءه للمصريين بقوله: "إلى كل مصري يسمعني"، فلا يليق أن تكون أزمته مع المصريين وكل من يسمعه منهم، ليضع تساؤل عن الحكاية، دون أن يقول لنا ما هو تصور المصريين عن الحكاية؟.. بل وما هي الحكاية نفسها!
لقد قال السيسي وهو يوجه كلامه للعالم السفلي "إسمعوا كلامي أنا بس"، وهي العبارة التي كررها ثلاث مرات، كانت الأولى في مداخلته من القاعة وكانت المرة الثانية والثالثة من فوق المنصبة، ثم كانت الرسالة واضحة تماما إلى أنه يقصد "الأسياد"، وهو اللقب الذي يطلق على العفاريت التي تركب البشر، وهو يسألهم باستنكار: "أنتم فاكرين إنه أنا هسيبها".. ثم يستدرك: "لا والله"!

للتقريب على غير المصريين في فهم معنى "الأسياد"، فمؤكد أنكم استمعتم في الأفلام المصرية القديمة عبارة "دستور يا أسيادنا"، وهي التي تقال شعبياً لصرف الجن، أو لعدم استعداءه، ولأن لي اهتمامات أنثروبولوجية، فقد فشلت في فهم معنى "دستور" في التعامل مع الجان، وليس هذا هو الموضوع، فما يشغلني هو من يمثلون "الأسياد" من عالم الجن والعفاريت الذين يخاطبهم "عبد الفتاح السيسي" بكل هذه الحدة والعصبية، ويخاطبهم بأنه يعرف مصر ويعرف علاجها، دون أن يقول ولماذا يضن عليها بالعلاج؟.. فضلاً عن إعلانه انه يقدر على بناء مليون شقة وإنشاء مئة منطقة صناعية في شهرين، ولا نعرف من يمنعه؟!

وعندما وصل المذكور عند إطلاق تحذيره مرتين بأن أحداً لا يستطيع، أو بالعامية "محدش هيقدر"، تذكرت المأسوف على شبابه "حسني مبارك"، في جلسة افتتاح آخر برلمان له، قبل ثورة يناير!
لقد قال في هذا الخطاب وتصرف بما استرعى انتباهي، فأشرت إليه وقتئذ، فقد قال ما معناه أنه سيظل يحكم "ما دام هناك نفس يخرج وقلب ينبض"، ثم نظر إلى الشرفة أعلى القاعة، فذهبت معه الكاميرا حيث نظر، ربما بحسن نية، لتحط على وجه نجله جمال، وزوجته سوزان مبارك!

بدا لي أن مبارك ليس متحمساً لمشروع التوريث، أو على الأقل يريد أن يؤجله لفترة طويلة، وأن عليه ضغوطاً من "الأسرة"، فحرص على أن يوجه لها هذه الرسالة الواضحة والمتحدية لآية ضغوط، قد يكون لها تأثيرها على الرجل عندما يصل للشيخوخة فيغري ضعفه الزوجة لتحقيق أغراضها، والسيطرة على الموقف!

في البداية وعندما طلب أن يسمعوا له فقط، ظننت أنه يدشن لمرحلة الرئيس الفرد، وهي صيغة الحكم التي تستهويه بتعسف فيتصرف على أنه صاحب محل بقالة هو من يدير أمره، فلا يريد بالتالي من المصريين أن يستمعوا للحكومة أو للبرلمان، لكن دفاعه بعد ذلك عن الحكومة والبرلمان، كان سبباً في أن يستقر في وجداني أنه يقصد جهة أخرى، أو قوى إقليمية أو دولية، تسمع لآخرين من دائرة حكمه، ولا أعرف لماذا لفت انتباهي عدم وجود "عباس كامل" سكرتيره وصفيه؟، الذي كانت مهمته التعامل مع دول الخليج الراعية للانقلاب العسكري، والذي يحضر معه كظله، واصطحبه معه للسعودية، في وقت كان وجوده يمثل حرجاً بعد التسريبات واستهانته بهذه الدول وتصوير حكامها على أنهم ليسوا أكثر من مصدر للمساعدات التي لا تأتي إلا بالابتزاز!

"عباس كامل" ليس أكثر من "مرسال"، وقد يكون قد سئل في أمر رأي "السيسي" أن مجرد سؤاله فيه يمثل تجاوزا ويكشف عن خطة لازاحته، وقد يكون هو من نقل الرسالة للسيسي من باب الإخلاص، تماماً كما فعل رئيس الجيش الثاني الميداني عندما نقل للسيسي طلب الرئيس مرسي تعيينه وزيراً للدفاع عندما أيقن ان" السيسي" ضالع في مخطط الانقلاب العسكري!

ومجرد هذه الأسئلة، استشعر "السيسي" المتآمر القديم بالخطر فكان خطابه للعالم السفلي غير المريء بأن يسمعوا منه هو.. وليس من غيره، وربما يكون الأمر اكبر من مجرد سؤال عباس!
قد يعتبر البعض أن هذه أماني، وكما قيل فإن الجائع يحلم بسوق الخبز، لكن ما أود الإشارة، إليه أن ما أحلم به هو إسقاط حكم السيسي بالثورة، لأن إزاحته الآن بقرار من دوائر الانقلاب سواء محلياً أو إقليميا أو دولياً أكبر خطر على الثورة، عندما يجري تدوير الانقلاب، لامتصاص الغضب، فيبقى الحكم العسكري جاثماً على القلوب، وهو ما حذرت منه مبكراً، وهو أمر مشتق من "تدوير القمامة"، وأعلم أن كثيرين من الثوار اختزلوا الأزمة في "السيسي" في حين أنها عندي في حكم العسكر، مندوب الاستعمار في المستعمرات القديمة.

واللافت أن الأسبوع الماضي شهد تطاولاً على "السيسي" نفسه من أذرعه الإعلامية، التي كانت تدار بواسطة "عباس كامل"، ومن أول "إبراهيم عيسى" إلى "جابر القرموطي"، ومن "عمرو أديب" إلى "الواد الحسيني"، حتى وصل الحال بتوفيق عكاشة للدعوة لانتخابات رئاسية مبكرة، وحل الحكومة والبرلمان، وأي "صريخ إبن يومين" يعلم أنه في القضايا الكبرى فإنه مسير من قبل أجهزة سيادية في الدولة وليس مخيراً، وعندما يدافع السيسي عن البرلمان والحكومة بعد هذه الدعوة، وعندما يقول أنه باق، فالمعنى أن رسالة من يقفون وراء "عكاشة"  قد وصلت!

وعندما يقول السيسي" "لو عايزين تخلو بالكم منها معي أهلا.. لو مش عايزين أنا بقول لكم اسكتوا"، فيعلم الجنين في بطن أمه أن هذا خطاب لدوائر حكمه لحشدهم معه ومن لا يريد فليس أمامه إلا أن يصمت، لأن من الواضح انه ضبط من هم متلبسين بعدم الوقوف معه وعدم السكوت!

إنها رسائل على قاعدة  المقولة الدارجة: "والكلام لك يا جارة". وعندما نعرف من هذه الجارة فسيكون هذا هو الخبر "المانشيت"!

في إنتظار أن نعرف من هم "الأسياد" الذين يخاطبهم "السيسي" وأوشك أن يقول "دستور يا أسيادنا".