كتاب عربي 21

من يجدد لنا ديننا؟

1300x600
من جديد، ارتفعت أصوات صاخبة ترتدي ثوب تجديد الخطاب الديني (الذي صار موضة ووجاهة ومهنة من لا مهنة له)، وبلغت الحماقة ببعض هذه الأصوات للمطالبة بإدراج الأزهر الشريف كمنظمة إرهابية ومطالبة المحكمة الجنائية الدولية بالتعامل مع الأزهر كمؤسسة داعمة للإرهاب والتطرف!

الحقيقة أن المطالبين باعتبار الأزهر مؤسسة إرهابية هم كائنات منتهية الصلاحية الفكرية، لكن زمن المسخ والتشوه يمنح الحياة لهذه الطفيليات لبث الخبل. ومن الجدير بالذكر أن هؤلاء لم نسمع لهم صوتا ضد استبداد ولا قمع ولا مصادرة حريات ولا حتى ضد توظيف الدين من قبل السلطة، وما زالوا يروجون أفكارا تدعو للاشمئزاز واليأس من نخبة فارغة يجب أن تذهب لحالها كمخلفات تاريخية!!

لو طالب هؤلاء بإصلاح الأزهر وتنقية مناهجه وتطوير طرق التدريس به لكان منطقيا وهذا مطلب جماعي لا اعتراض عليه، لكن المطالبة بهدم الأزهر والعمل على تشويه صورته في المحافل الدولية وفي المجتمع الإنساني عبر وصمه بدعم الإرهاب ونشر التطرف فهذا لا يمكن الصمت عليه ولا قبوله، كل من يطالب بهدم الأزهر وليس إصلاحه داعشي يرتدي ثوب مدني مزيف، قيمة الأزهر قيمة لمصر، وتأثير الأزهر الإيجابي في العالم الإسلامي على امتداده لا ينكره إلا جاحد، هؤلاء بما يقولونه من عفن وهزل ليسوا مجددين بل يحتاجون لتأهيل نفسي وفكري ليتوقفوا عن هذا الهراء بعيدا عن هذه النماذج المنفرة التي تخلق أرضية للتطرف المضاد بأفعالها وأقوالها المتطرفة، لابد من أن نجيب على السؤال الأساسي: من يجدد لنا ديننا؟ هذا يأخذنا لمعنى التجديد نفسه الذي يجب أن نميز بينه وبين التبديد، فالبعض يتخذ شعار التجديد مدخلا لهدم الثوابت والطعن في ما هو قطعي الدلالة والثبوت، وبعضهم بالفعل ليست مشكلته مع ما تحتويه كتب التراث الإسلامي من مسائل وحواشي صارت لا تناسب عصرنا بالتأكيد، ولكن مشكلته الحقيقية مع الدين ذاته، فلا يمتلك الشجاعة لمصارحة الناس بذلك، فتراه يتلبس ثوب المجدد الخزعبلي الذي يرفع معول الهدم على كل ما يلقاه تشكيكا أو تضليلا أو سخرية وتنفيرا. يقول الشيخ عبد الله يوسف حول معنى التجديد (التجديد الديني نقصد به التجديد في الفكر الديني وليس في الدين نفسه أو هو إعادة نظر وتأمل فيما أنتجه العلماء من فكر ديني طوال التاريخ، ومن ثم فهو حركة داخل الدليل وليس خارجه، وهو إعادة تأصيل للمسلمات بأفق أوسع، ونظرة أكثر عمقا، وأكثر شمولية. التجديد أيضا يعني علمية فكرية دائمة ومستجدة، وهو استمرار متطور للتاريخ وليس جمودا عنده، وإبداع مستمد من الأصالة وليس استغراقا في الماضي).
 
الحديث عن التجديد الديني في بلاد لا تسمح سوى بالرأي الواحد، وتقوم بتخوين المختلفين يعتبر نوعا من العبث السخيف، قوم يرضخون لمن يقول لهم (ما أريكم إلا ما أرى)، لا تنتظر منهم جرأة على تجديد، ولا قبولا، ولا استيعابا للمناخ الذي يحتاجه هذا التجديد الذي يلزمه مراجعة الأفكار، وزلزلة العقول، وتحدي الموروث، وخلق أفكار جديدة بمعنى (إنتاج الفكر)، وإنهاء إشكاليات الحداثة وصراعها مع الدين.

نحن ندور حول أنفسنا في مسألة التجديد، ونحصر أنفسنا حول قراءات جديدة فقط للنصوص تعتمد على أدوات الاجتهاد السابقة نفسها، فلا نبرح مكاننا بالتوازي مع طلعات بعض المفلسين الذين يتبنون آراء شاذة يزعمون أنها اتجاهات تجديدية وهي في أغلبها بعض نفايات ومخلفات كتب التراث!

تجديد الخطاب الديني في الإسلام ليس معنيا بالمسلمين فقط لأن رسالة الإسلام إنسانية تخاطب كل إنسان على وجه الأرض، ومما قاله الشيخ الدكتور عبد المتعال الصعيدي في كتابه -المجددون في الإسلام- بخصوص هذا المعنى للتجديد: "وظيفة الإسلام الكبرى تكمن في محو أمية الأمم، والنهوض بالإنسانية في العلم والدين، والإسلام من جهة هذه الغاية يتسع للتجديد في كل زمان، لأنه إذا كانت غايته النهوض العام بالإنسانية فوسائل هذا النهوض تسير في طريق الارتقاء، ولا تقف عند حد محدود لا تتعداه كما الشأن في العبادات".

من كل ما مضى، يمكننا القول إن التجديد الذي نريده هو معركة كبرى تحتاج لمناخ حر يلائم متطلبات الاجتهاد والتجديد التي تتطاحن فيها الآراء، وتتصارع العقول، وتُسمع كل الآراء دون ترهيب ولا منع ولا عقاب لصاحب رأي مهما كانت غرابته، وهذا ليس متحققا في بلاد تمارس الحسبة، وتسجن أصحاب الرأي، وتصادر نصوصا أدبية، وتمنع مقالات سياسية، بل إن الأنظمة القمعية ديدنها توظيف الدين وعلماء السلطان لتمرير رغباتها وإضفاء الشرعية والقداسة على بطشها، وعلماء السلطان لن يكونوا يوما من مجددي الدين بل هم مبددون له ومتاجرون به.

لقد تم ابتذال مفهوم تجديد الخطاب الديني بين موتورين يدعون المدنية وبين متطرفين يدعون الأصولية التي لم تعرف تطرفهم وغلوهم، وبين هؤلاء وهؤلاء علا صوت التطرف والخرافة، ولذلك فالحصان لابد أن يتقدم العربة حتى تنطلق، وحصان التجديد هو الحرية، وقبل أن تتحقق الحرية فليعبث المهرجون بعيدا عن الدين!